Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 38-38)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق ، لكن الغاية غير واضحة عنده . الغاية ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس ، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس ولذلك يقول العارفون بفضل الله : اختر مَنْ يثمن عطاءك . فأنت عندما تعطي شيئاً لإنسان فهو يثمن هذا الشيء بإمكاناته وقدراته ، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلاً أو بغير ذلك ، لكن العطاء لله كيف يُثَمِّنه سبحانه ؟ لا بد أن يكون الثمن غالياً . إذن فالعاقل ينظر لِمَنْ سيعطي النعمة ، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رضي الله عنه عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له ، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم يبيعوها ليربحوا وقال لهم : جاءني أكثر مَنْ ثمنكم ، وفي النهاية قال لهم : أنا بعتها لله … إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله ، فرفع من ثمن بضاعته ، فالذي يعطي لرئاء الناس نقول له : أنت خائب لأنك ما ثمنت نعمتك ، بل ألقيتها تافهة الثمن ، ماذا سيفعل لك الناس ؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك ، فلماذا ترائيهم ؟ إذن فهذه صفقة فاشلة خاسرة ولذلك قال الحق : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ … } [ التوبة : 111 ] . وما دام سبحانه هو الذي اشترى فلابد أن الثمن كبير لأنه يعطي النعيم الذي ليس فيه أغيار ، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمناً ، ولا هو يفوتها . فالذي يرائي الناس خاسر ، ولا يعرف أصول التجارة لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله ولذلك شبه عمله في آية أخرى بقوله : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً … } [ البقرة : 264 ] . و " الصفوان " هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة ، والمروة ناعمة وليست خشنة . لكنْ بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب ولأن المروة ناعمة جداً فقليل من الماء ولو كان رذاذاً يذهب بالتراب . والذي ينفق ماله رئاء الناس هو مَنْ تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد ، فلو كنت تعلم أنك تريد أن تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمناً أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمناً ؟ إنك إن فعلت فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق : ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان بالذي يشتري بأغلى ، فتكون في عالم الاقتصاد تاجراً فاشلاً ، ولذلك قلنا : ليحذر كل واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء ، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر ، ولكن عليه ألا يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : " رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " . إنّ العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى ، فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم ، ولا يجعلها واضحة . ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال : { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ البقرة : 271 ] . فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان مَنْ يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة ، المهم أن يخرج الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة ، فالحق يوضح : إياك أن تنفق وفيك رئاء ، أما مَنْ يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معطٍ لأنه سبحانه يؤكد : خذوا منه وهو الخاسر لأنه لن يأخذ ثواباً ، لكن المجتمع ينتفع . إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين " لا يؤمنون بالله " لأنه سبحانه هو المعطي ، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ … } [ النساء : 38 ] فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا الجزاء الباقي ، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة ، أي كثيرة الثمار ، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة المال وعمر ماله معه عند هذا الحدّ ، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة ، فيكون قد أطال عمر ماله . فالبخيل هو عدو ماله لأنه لم يستطيع أن يثمره ، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف : " إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمةٍ جاثية ، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل قُتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يُقال : فلان قارئ فقد قيلَ ذلك ، ويؤتي بصاحب المال … " . لكن هل قال لك الدين : لا تفعل ؟ لا ، افعل لينتفع الناس بالرغم منك . والبخيل عندما يُكَثِّر ماله يكون قد حرّم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال ، ولذلك يقال في الريف : مال الكُنزي للنزُهي ، ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبداً ! ! فسبحانه يوضح : أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد ، لكني سأيسر السبيل لطائع لي ، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت ، فبخلك يقع عليك . إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيراً كثيراً { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ … } [ سبأ : 39 ] لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعاً ، وأيضاً فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلاً لمن يبذل . كيف ؟ لنفرض أن إنساناً كريماً ، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل ، والناس لها أمل فيه . وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته ، فإن كان عنده " فدانان " فهو يبيع فداناً ليفرج به على المحتاجين ، وعندما يبيع الفدان سيشتريه مَنْ يكتنز ، فيكون المكتنز قد يسَّر سبيلاً للكريم ، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع مَنْ خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة ، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي منّ الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله ، إننا نقول له : إياك أن تعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبداً . أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيراً ، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة ، لأنه سبحانه قد قال : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ … } [ هود : 114 ] . فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك ، فتعمل خيراً كثيراً ، كذلك البخيل نقول له : ستيسر سبيلاً لكريم بذّال ، والحق سبحانه وتعالى بيّن في آخر الآية السبب الذي حمله على ذلك ، إن الأسباب متعددة . لكن تجمعها كلمة " شيطان " ، فكل مَنْ يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان ، ابتداءً من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج ، إنّها قرين سوء يزين لك الفحشاء ، ويزين لك الإثم ، إنّ وراء كل هذه الأمور شيطاناً وسوس إليك ، وكل هؤلاء نسميهم " شيطاناً " لأن الشيطان هو مَنْ يبعدك عن المنهج ، وهناك شياطين من الجن ، وشياطين من الإنس ، فالنفس حين تحدث الإنسان ألاّ يلتزم بالمنهج لأن التزامه بالمنهج سيفوت عليه فرصة شهوة - هي شيطان . إنّ النفس التي ترى الشهوة العاجلة وتضيع منها شهوة آجلة لا حدود لها - هي شيطان . فالشيطان إذن هو الذي جعلهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، وهذا الشيطان وساعة يكون قريناً للإنسان ، فمعنى ذلك أنه مقترن به ، والقِرن بكسر القاف - هو مَنْ تنازله . وكلمة " قَرْن " تطلق أيضاً على فترة الزمن هي مائة عام لأنها تقرن الأجيال ببعضها ، فالشيطان قرين أي ملازم لصاحبه ومقترن به ، فيقول الحق : { وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } [ النساء : 38 ] ، أي بئس هذا القرين لأنه القرين الذي لا ينفعني ولا يصدني عن مجال ضار . ولذلك فالناس قد يحب بعضهم بعضاً في الدنيا لأنهم يجتمعون على معصية . أما في الآخرة فماذا يفعلون ؟ يقول الحق : { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] . لأن المتقين يعين بعضهم بعضاً على الطاعة ، فالواحد منهم يقول لصاحبه : كنت تعينني على الطاعة ، كنت توجهني وتذكرني إن غفلت ، فيزداد الحب بينهما . لكن الإنسان يلعن مَنْ أغواه وأول مَنْ نلعن يوم القيامة نلعن الشيطان ، وكذلك الشيطان أول ما يتبرأ يتبرأ منّا ولذلك فعندما تحين المجادلة نجد الشيطان يقول لِمَنْ أغواهم وأضلهم : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي … } [ إبراهيم : 22 ] . والسلطان هو : القوة العالية التي تجبر مَنْ دونها ، فالإنسان تُجبر مادته وبنيته بسلطان القهر المادي ، ويُقهر في اعتقاداته بالدليل والحجة . والإكراه في المادة إنما يتحكم في القالب ، لكنه لا يتحكم في القلب ، فقد تكون ضعيفاً أمام واحد قوي ولكنك تمسك له سوطاً وتقول له : اسجد لي . اخضع ، فيسجد لك ويخضع . وأنت بذلك تقهر القالب ، لكنك لم تقهر القلب ، هذا هو السلطان المادي الذي يقهر القالب ، لكن إذا جاء لك إنسان بالحجج وأقنعك ، فهذا قهر إقناع ، وقدرة قهر العقول بالإقناع نوع من السلطان أيضاً . إذن فالسلطان يأتي من ناحيتين : سلطان يقهر القالب ، وسلطان يقهر فقه القلب ، فسلطان القالب يجعلك تخضع قهراً عنك ، وسلطان الحجة والبرهان يجعلك تفعل برضى منك ، والشيطان يقول لمن اتبعوه : يا مَنْ جعلتموني قريناً لكم لا تفارقوني ، أنتم أغبياء فليس ليَ عليكم سلطان ، وما كان ليَ من القوة بحيث أستطيع أن أرغمكم على أن ترتكبوا المعاصي ، وما كان عندي منطق ولا حجة لكي أقنعكم أن تفعلوا المعاصي ، لكنكم كنتم غافلين ، أنا أشرت لكم فقط فلست أملك قوة أقهر مادتكم بها ، ولا برهان عندي لأسيطر على عقولكم : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ … } [ إبراهيم : 22 ] . إذن فالخيبة منكم أنتم ولذلك يقول الحق : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ … } [ إبراهيم : 22 ] . ماذا يعني " بمصرخكم " ؟ إنها استغاثة واحد في أزمة لا يقدر عليها وضاقت به الأسباب ، عندئذ يستنصر بغيره ، فيصرخ على غيره ، أي يناديهم لإنقاذه ولنجدته ، فالذي يستجيب له ويأتي لإنقاذه يقال له : أزال صراخه ، إذن فأصرخه يعني سارع وأجاب صرخته ، والشيطان يقول : إن استنجدتم بي فلن أنجدكم وأنتم لن تنجدوني ، فكل واحد منا عرف مسئوليته وقدرته . وبالنسبة للإنسان فقد قال الحق : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ … } [ الإسراء : 13 ] . فمَنْ يتخذ الشيطان قريناً ، { فَسَآءَ قِرِيناً … } [ النساء : 38 ] وكلمة " ساء " مثل كلمة " بئس " كلتاهما تستعمل لذم وتقبيح الشيء أي ، فبئس أن يكون الشيطان قريناً لك لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد أمام الله ألا يغوي من يطيعه سبحانه ويغوي مَن سواهم من الناس أجمعين . وعندما نتأمل الآية ، نجد أن الحق يقول : { وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } [ النساء : 38 ] . فالآية إذن تتناول لوناً من الإنفاق يحبط الله ثوابه . فنفقة المرائي تتعدى إلى نفع غيره لكن لا ينتفع المرائي منها ، بل تكون قد أنقصت من ماله ولم تثمر عند ربه . والحق يلفتنا إلى أن ذلك كله راجع إلى معوقات الإيمان الذي يتطلب من الإنسان أن يكون في كل حركات حياته على منهاج ربه ، هذه المعوقات تظهر في النفس البشرية وفي شهواتها التي تزين الإقبال على المعصية للشهوة العاجلة ، وتزين الراحة في ترك الأوامر ، والشيطان أيضاً يتمثل في المعوقات ، والشيطان كما نعلم : اسم للعاصي من الجنس الثاني من المكلفين وهم الجن ويتمثل في إبليس وفي جنوده ، ويطلق على كل متمرد من الإنس أيضاً يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً … } [ الأنعام : 112 ] وأنت حين تريد أن تعرف المعوق أهو من نفسك أم من الشيطان ؟ فانظر إلى نفسك حيال المعصية ، أهي معصية تدفعك نفسك أن تأتيها وحدها ، أم معصية إن عزّ عليك أن تفعلها فأنت تنتقل إلى معصية سواها ؟ هل هي معصية ملازمة أو معصية تنتقل منها إلى غيرها ؟ فهب أن إنساناً كانت معصية نفسه في أن يشتهي ما حُرّم عليه ، أو أن يسرق مال غيره ، نقول له : أوقفت في المعصية عند هذه بحيث لا تتعداها إلى غيرها ؟ يقول نعم . فبقية المعاصي لا ألتفت إليها … نقول : تلك شهوة نفس ، فإن كانت المعصية حين تمتنع عليك من سرقة مثلاً فأنت تلتفت إلى معصية أخرى . فهذا لون من المعاصي ليس من حظ النفس ، وإما هو حظ الشيطان منك لأن الشيطان يريد العاصي عاصياً على أي لون من المعصية ، فإن عزّ عليه أن يلوي زمامه إلى لون من المعصية ، انتقل إلى معصية أخرى لعلّه يصادف ناحية الضعف فيه . لكن النفس حين تشتهي فإنها تشتهي شيئاً بعينه ، فأنت إذن تستطيع أن تعرف المعوق من قبل نفسك أم من قبل الشيطان ، فإن وقفت عند معصية واحدة لا تتعداها وتلح عليك هذه المعصية ، وكلما عزّ عليك باب من أبوابها تجد باباً آخر لتصل إليها ، فتلك شهوة نفسك . وإن عزّت عليك معصية تنتقل إلى معصية أخرى فهذا من عمل الشيطان لأن الشيطان لا يريد عاصياً من لون واحد ، وإنما يريدك عاصياً على إطلاقك . وعداوة الشيطان - كما نعلم - هي عداوة مسبقة فقد امتنع الشيطان عن السجود لآدم بحجة أنه خير من آدم . وحذر الله آدم . ولابد أن آدم عليه السلام قد نقل هذا التحذير لذريته وأَعْلَمَهُم أن الشيطان عدو . ولكن الغفلة حين تسيطر على النفوس تفسح مجالاً للشيطان لينفذ إلى نفس الإنسان ، والشيطان - كما نعرف - لا يأتي للعاصي الذي تغويه نفسه لأن العاصي تكفيه نفسه لذلك يأتي الشيطان للطائع ليفسد عليه طاعته ، ولهذا يقول الله عنه : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] . إذن فمقعد الشيطان ليس في الخمارة أو في مكان فساد ، إنما يجلس على باب المسجد ، لكي يفسد على كل ذاهب إلى الطاعة طاعته . وهذا معنى : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] ولذلك كانوا يقولون : إن الطوائف الأقلية غير المسلمة في أي بلد إسلامي لا تحدث بينهم الشحناء ، ولا البغضاء ، ولا حرق الزروع ولا سمّ المواشي ، ولا القتل ، وتأتي هذه المعاصي في جمهرة المسلمين ، نقول : نعم لأن الشيطان ضمن أن هؤلاء وصلوا إلى قمة المعصية فابتعد عن إغوائهم ، أما المسلمون فهم أهل الطريق المستقيم ، لذلك يركز الشيطان في عمله معهم ، إذن فما دام عمل الشيطان على الطريق المستقيم فهو يأتي لأصحاب منهج الهداية ، أما الفاسق بطبيعته ، والذي كَفَرَ كُفر القمة فالشيطان ليس له عمل معه لأنه فعل أكثر مما يطلب الشيطان من النفس البشرية . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ … } [ النساء : 38 ] أي : أنفقوا وأنقصوا مالهم فلماذا المراءاة إذن ؟ لأن الشيطان قرينهم ، وعندما ينفقون فهذا عمل طاعة ، ولماذا يترك لهم هذا العمل ليسلم الثواب لهم ؟ فلا بد أن يفسد لهم هذا لعمل الذي عملوه ، وهو يقول : { وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } [ النساء : 38 ] مثل هذا القرين أيمدح أم يذم ؟ إنه يذم بطبيعة الحال ولذلك قال الله : { فَسَآءَ قِرِيناً } [ النساء : 38 ] أي بئس ذلك القرين ، فالقرين الذي يلفتك عن فعل الخير هو الذي بعد أن أنقص مالك بالنفقة أفسد عليك الثواب بالرياء . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ … } .