Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 51-51)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ … } [ النساء : 51 ] يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء وبالرسل ، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله ، ولو كانوا أناساً ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولاً لانقطاع أسباب السماء عنهم . إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب ، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق بالخالق ، وربط المخلوق بالخالق هو ترتيب لقدرات المخلوق وتنميتها لأن أسباب الله في الكون قد تعزّ عليك ، وقد تقفر يدك منها . فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف الأسباب انهرت ، وربما فارقت حياتك منتحراً ، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه أسبابه يقول : لا تهمني الأسباب ، لأن عندي المسبب . إذن : فالإيمان بالله يعطيك قوة . والإيمان بالله يقف المؤمنين على أرض صُلبة ، فمهما عزّت أسبابك وانتهت فاذكر المسبب . وحين تذكر المسبب تجد آفاق حياتك رحبة ، فالذين ينتحرون إنما يفعلون ذلك لأن الأسباب ضاقت عليهم ، وعلموا أنه لا مناص من أنهم في عذاب . لكن المؤمن يقول : يا رب ، ومجرد أنه يقول : يا رب ، فهذا قول يريحه حتى قبل أن يجاب لأنه التفت إلى مسبب الأسباب حين عزّت عليه الأسباب . وساعة يلتفت إلى مسبب الأسباب عند امتناع الأسباب فهو يأخذ قوة الإيمان من حيث لا يحتسب ، إنك بمجرد أنك قلت : يا رب تجد نفسك قد ارتاحت لأنك وصلت كل كيانك بالخالق ، وكيانك منه ما هو مقهور لك ، ومنه ما هو غير مقهور لك . والكيان نفسه سيأتي في الآخرة ويشهد على الإنسان . ستشهد الأرجل والجلود وغيرها من الأبعاض . لأنها في الدنيا كانت مقهورة لإرادتي ، أنا أقول ليدي : افعلي كذا ، ولرجلي : اسعي لكذا ، وللساني : سب فلاناً ، فالله سخر الجوارح وأمرها : يا جوارح أنت خاضعة لإرادة صاحبك في الدنيا . لكن في يوم القيامة أيكون لي إرادة على جوارحي ؟ لا ، ستتمرد عليّ جوارحي : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ … } [ فصلت : 21 ] . وتقول الجوارح لنا : أنتم استخدمتمونا في الدنيا وحملتمونا أن نفعل أشياء نحن نكرهها ، فدعونا اليوم لنشهد ، إنها تخرج أسرارها لأن الملك الآن للواحد القهار : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . انتهت سيطرة الإنسان وليس لأحد غير الله إرادة على الأبعاض . إذن : فالنصيب من الكتاب هو أول شيء يربط المخلوق بالخالق ، فإذا ارتبط المخلوق بالخالق قويت أسبابه ، ويستقبل الأحداث بثبات ، ويأتيه فرج ربنا ، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نلتفت إلى اللقطات العقدية فيه ، فقد عرفنا مثلاً : أن سيدنا موسى عندما أراد أن يأخذ بني إسرائيل من فرعون ويخرج بهم ، وقبل أن يصل بهم إلى البحر تنبه لهم قوم فرعون وجاءوا بجيوشهم ، وكان قوم فرعون من ورائهم والبحر من أمامهم ، فقال قوم موسى إيماناً بالأسباب : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] . بالله أأحد يكذِّب هذه المقولة ؟ ! لا ، فماذا قال موسى عليه السلام ؟ لم يقل مثلما قال قومه ، ولكنه نظر للمُسبب الأعلى فقال بملء فيه : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . وهل تُكذَّب مقولته ؟ لا ، لا تُكذب لأنه لم يقل : " كَلاَّ " اعتماداً على أسبابه . فليس من محيط أسبابه أن يخرج من مثل هذا الموقف ، بل قال : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] ، هذه ثمرة الإيمان ، فلما قال : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] ، ماذا قال له الله ؟ قال له : { ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ … } [ الشعراء : 63 ] . لم يقل له : اهجم عليهم واغلبهم ، لا ، بل قال : { ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ … } [ الشعراء : 63 ] كي يعطي الشيء ونقيضه ، ولتعرف أن مرادات الحق سبحانه وتعالى تعطي الشيء ونقيضه ، ولا أحد من البشر يقدر أن يصنع مثل ذلك ، فلما قال له : اضرب بعصاك البحر ، ضرب موسى البحر بالعصا ، وكان موسى يعلم قانون الماء استطراقاً وسيولة ، لكن ها هي ذي المعجزة تتحقق : { فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] . و " الطود " هو الجبل ، والجبل فيه صلابة ، والماء فيه رخاوة ، فكيف انتقلت الرخاوة إلى صلابة ؟ إن الماء مهمته الاستطراق ، أي لا يمكن أن توجد منطقة منخفضة والماء أعلاها ، بل لا بد أن ينفذ منها ، وعندما أطاع موسى أمر الله أراد أن يطمئن بأسباب البشر ، فأراد أن يضرب البحر كي يعود البحر مثلما كان حتى لا يأتي قوم فرعون وراءه فقال له ربنا : { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً … } [ الدخان : 24 ] . أي : اتركه كما هو على هيئته قارّاً ساكنا لأنني أريد أن يغريهم ما يرون من اليبس في البحر فينزلوا ، فأعيد الماء إلى استطراقه وأُطْبِِقهُ عليهم ، فأكون قد أنجيت وأهلكت بالشيء الواحد . يقول الحق : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ … } [ النساء : 51 ] وكيف ذلك ؟ بعد موقعة أُحد جاء حُيَيّ بن أخطب وكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق ، وأبو رافع . هؤلاء هم صناديد اليهود ، وأخذوا أيضاً سبعين من اليهود معهم ونزلوا على أهل مكة ، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله ، وبعد ذلك نزل كعب ابن الأشرف - زعيمهم - على أبي سفيان وقال له : نريد أن نتعاهد على أننا نقف أمام محمد . فقال أبو سفيان : أنت صاحب كتاب ، وعندك توراة ، وعندك إيمان بالسماء ، وعندك رسول ، ونحن ليس عندنا هذا ، و " محمد " يقول : إنه صاحب كتاب ورسول ، إذن فبينكما علاقة الاتصال بالسماء ، فما الذي يدرينا أنك متفق معه علينا في هذه الحكاية ؟ إننا لا نأمن مكرك ، ولن نصدق كلامك هذا إلا إذا جئت لآلهتنا وأقمت مراسم العبادة عندها فسجدتَ لها . و " الجبت والطاغوت " هما صنمان لقريش ، وذهب إليهما اليهود أصحاب التوراة الذين عندهم نصيب من الكتاب وخضعوا لهما ، أو " الجبت " هو كل مَنْ يدعو لغير الله سواء أكان شيطاناً أم كاهناً أم ساحراً ، فإذا كان هذا هو " الجبت " فـ " الطاغوت " من " طغى " وهو اسم مبالغة وليس " طاغياً " ، بل " طاغوت " وهو الذي كلما أطعته في ظلم ارتقى إلى ظلم أكثر . وسواء أكان الجبت والطاغوت صنمين أم إلهين من الآلهة التي يتبعونها ، المهم أن وفد اليهود خضعوا لهم وسجدوا ، لكي تصدق قريش عداء اليهود لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعد ذلك سأل كعب بن الأشرف أبا سفيان : ماذا فعل محمد معكم ؟ قال له : فارَق دين آبائه ، وقطع رحمه وتركهم وفرَّ إلى المدينة ، ونحن على غير ذلك . نحن نسقي الحجيج ، ونقري الضيف ، ونفك العاني - الأسير - ونصل الرحم ، ونعمر البيت ونطوف به . وعظّم أبو سفيان في أفعال قريش ! ، فقال الذين أوتوا الكتاب - لعداوتهم لمحمد - قالوا لأبي سفيان وقومه : أنتم أهدى من محمد سبيلاً ! ويوضح ربنا : يا محمد انظر لعجائبهم إنهم أوتوا نصيباً من الكتاب ، ومع ذلك فعداوتهم لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به ، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب ، ويؤمنون بالجبت والطاغوت وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديماً : إنه سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم . لكن ها هم أولاء يذهبون ويؤمنون بالطاغوت والجبت ، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين ؟ إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء ، فإن نشب بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب الذي أوتوا . وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب . إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلى عنهم وأن الله ناصرك - يا محمد - فلا يغرنك أنهم أصحاب مال أو أصحاب علم أو أصحاب ثروات ، فكل هذا إلى زوال لأن حظهم من السماء قد انقطع ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم ، ببعثك ورسالتك ، ثمناً لأن يتركوا الإيمان . ويقول الحق بعد ذلك : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ … } .