Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 65-65)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذن لا بد أن نستقبل الإيمان بالإقبال على كل ما جاء به رسول الله ، فساعة حكّم المنافقون غيره برغم إعلانهم للإسلام جاء الحكم بخروجهم من دائرة الإيمان ، وعلى المؤمنين أن يتعظوا بذلك . ونلحظ في قوله الحق : { فَلاَ وَرَبِّكَ … } [ النساء : 65 ] وجود " لا " نافية ، وأنه - سبحانه - أقسم بقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ … } [ النساء : 65 ] ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكَّموا غير رسول الله ، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله ، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه ؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها فيقول : لا ، هذه لا تكون أبداً . إذن فـ " لا " النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله لأنهم حكَّموا غيره . فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا . فحكمنا في القضية هو : لا يكون لهم أبداً شرف شهادة أنه رسول الله . وبعد ذلك أقسم الحق فقال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله ، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على ما يشاء ، يقسم بالمادة الجبلية : { وَٱلطُّورِ } [ الطور : 1 ] . ويقسم بالذاريات : { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] . والذاريات هي الرياح ، ويقسم بالنبات : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } [ التين : 1 ] . ويقسم بالملائكة : { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا } [ الصافات : 1 ] . ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقسم بحياته فقال : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] . و { لَعَمْرُكَ … } [ الحجر : 72 ] يعني : وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون ، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق ، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه ، فقال : { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ … } [ الذاريات : 23 ] . وساعة يقول : { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ … } [ الذاريات : 23 ] فلا بد أن يأتي بربويته لخلق عظيم نراه نحن ، ولذلك قال : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] . يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] وهذا تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودليل على أن محمداً عليه الصلاة والسلام ذو منزلة عالية ، إياكم أن تظنوا أنه حين قال : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] أن محمداً قد دخل في الناس ، إنّه سبحانه يوضح : لا ، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض ، { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ … } [ الحجر : 92 ] ، ولماذا يقسم برب السماء والأرض لأن الربّ له قدرة عظيمة هائلة ، فهو يخلق ويربي ، ويتعهد ويؤدب . إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير . لكن عندما يخلق محمداً فلا يريد الخلق والإيجاد فقط ، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له : فوربك الذي خلقك ، والذي سواك ، والذي رباك ، والذي أهَّلَكَ لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل ، ولأن تكون رحمة الله للعالمين ، يقسم بهذا كله فيقول : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول : لا نحكم محمداً ومنهجَه في حياتنا ؟ . إذن فقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] وحَكَّم كل مادتها مثل " الحُكْم " و " التحكيم " و " الحكمة " و " التحكم " وكل هذا مأخوذ من الحَكَمَة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد ، ويتحكم فيه يميناً ويساراً ، فكذلك " الحِكْمَة " تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره ، فالتحكيم والحكم ، والحكمة ، كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح . وكلمة { شَجَرَ … } [ النساء : 65 ] مأخوذة من مادة الشين والجيم والراء وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه . وهناك لا تلتصق ببعضها ، وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضها ببعض فتتشابك ، كما نرى مثلاً شجراً متشابكاً في بعضه ، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول : إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة . وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول : إن هذه الثمرة من هذه الشجرة ، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة ، أي أن الأمر قد اختلط . { شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] أي قام نزاع واختلاط في أمر ، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك ، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة ، وساعة ترى أشجاراً من نوع واحد ، وتداخلت مع بعضها واختلطت ، لا يعنيك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك ، فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت ، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك ، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة ، فهذه فائدة اختلاط المتساوي ، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص . والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعاً بينهم ، لكن طبيعة النفس الشُحّ ، فتنازعوا ، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصِمَيْن : أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل ؟ فيفزعان ويقولان : أهناك خير من العدل ؟ . يقول : نعم إنه الفضل ، فما دامت المسألة أخوة واحدة ، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع ، أمَّا إذا حدث الشجار فلا بد من الفصل . ومَنْ الذي يفصل ؟ . إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] ، فالإيمان ليس قولة تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة ، فأن تقول : لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله فلا بد أن لهذا القول وظيفة ، وأن تُحكِم حركة حياتك على ضوء هذا القول ، فلا معبود إلا الله ، ولا آمر إلا الله ، ولا نافع إلا الله ، ولا ضار إلا الله ، ولا مشرع إلا الله ، فهي ليست كلمة تقولها فقط ! وينتهي الأمر ، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفرّ منه . { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } [ النساء : 65 ] بمنهج الإسلام { حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ … } [ النساء : 65 ] فهذا هو التطبيق { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] ولا يصح أن يحكموك صورياً ، بل لا بدّ أن يحكموك برضا في التحكيم ، { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً … } [ النساء : 65 ] أي ضيقاً { مِّمَّا قَضَيْتَ … } [ النساء : 65 ] . فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه ولا تضيقوا به { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] أي يُذْعِنُوا إذعاناً . إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول . بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة ، { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } [ النساء : 65 ] حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق ، { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً … } [ النساء : 65 ] لأنه قد يجد حرجاً ولا يتكلم . وانظروا إلى الثلاثة : الأولى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ … } [ النساء : 64 ] ، هذه واحدة ، { فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ … } [ النساء : 64 ] هذه هي الثانية ، { وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ … } [ النساء : 64 ] هذه هي الثالثة ، هذه ممحصات الذنوب ، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضاً : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } [ النساء : 65 ] هذه هي الأولى ، { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ … } [ النساء : 65 ] هذه هي الثانية ، و { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] هذه هي الثالثة . إذن فالقولان في رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخول حظيرة إيمان ، وخروج من غلّ ذنب . وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت : إنها شغلتني أكثر من عشر سنين ، هذه الوقفة حول قول الله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [ النساء : 64 ] ذلك يا رب تمحيص مَنْ عاصر رسولك صلى الله عليه وسلم ، فما بال الذين لم يعاصروه ؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، والرسول إنما جاء للناس جميعاً ، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم مَنْ جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص ؟ هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جواباً ، إلا أني قلت : لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطمئناً المؤمنين في كافة العصور : حياتي خير لكم تُحْدِثون ويُحْدَثُ لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تُعْرض عليَّ أعمالكم فإن رأيتُ خيراً حمدت الله وإن رأيت شراً استغفرتُ لكم . انظر إلى التطمين في قوله صلى الله عليه وسلم : " تعرض عليّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله ، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم " . فاستغفار الرسول لنا موجود . إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله ، وما بقي إلا { جَآءُوكَ … } [ النساء : 64 ] أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها فصلى الله عليه وسلم هو القائل : " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض " . فكما كان الأحياء يجيئونه ، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه ، وهو يستغفر لنا جميعاً ، إذن فهذه منتهية ، فبقي أن نستغفر الله قائلين : نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه ، نفعل ذلك إن شاء الله . وقوله سبحانه وتعالى : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] أي لا يجدوا حرجاً عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي ، والحكم التكليفي نعرفه في : افعل ولا تفعل ، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه . إذن فلا بد أن نسلم تسليماً في الاثنين : في الحكم التكليفي ، وفي الحكم القضائي . ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ … } .