Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 76-76)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وعرفنا أن الطاغوت هو : المبالغ والمسرف في الطغيان ، ويطلق على المفرد وعلى المثنى ، وعلى الجمع : فتقول : رجل طاغوت ، رجلان طاغوت ، رجال طاغوت ، والحق يقول : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ … } [ البقرة : 257 ] . إذن فالطاغوت يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع ، وهل الطاغوت هو الشيطان ؟ . يصح ، أهو الظالم الجبار الذي يطغيه التسليم له بالظلم ؟ يصحّ ، أهو الذي يفرض الشرّ على الناس فيتقوا شرّه ؟ يصحّ ، وكل تلك الألوان اسمها " الطاغوت " . والأسلوب القرآني يتنوع فيأتي مرة ليقول : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ … } [ آل عمران : 13 ] . وانظر للمقابلة هنا : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ … } [ النساء : 76 ] ، هنا { آمَنُواْ … } [ النساء : 76 ] و { كَفَرُواْ … } [ النساء : 76 ] وهنا أيضاً في { سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ النساء : 76 ] و { فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ … } [ النساء : 76 ] هذه مقابل تلك . لكي نعرف العبارات التي ينثرها ربنا سبحانه وتعالى علينا أن ندرك فيها الخطفة الإعجازية ، قال في هذه الآية : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } [ النساء : 76 ] مقابلات لأن الكافر مفهوم أنه طاغوت ، ولكن : إذا ذكرت في الثانية مقابلاً لمحذوف من الأولى ، أو حذفت من الأولى مقابلاً من الثانية ، هذا يسمونه في الأسلوب البياني احتباكاً كيف ؟ ها هوذا قوله سبحانه وتعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ … } [ آل عمران : 13 ] أي تقاتل في سبيل الطاغوت ، ويقابلها الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولا بد أن تكون مؤمنة . إذن فالكلام كله منسجم ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ … } [ آل عمران : 13 ] وترك صفتها كمؤمنة وقال : { تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ آل عمران : 13 ] وسنعرف على الفور أنها مؤمنة ، وربنا يحرك عقولنا كي لا يعطينا المسائل بوضوح مطلق بل لنعمل فكرنا ، كي لا يكون هناك تكرار ، ولكي تعرف أنه إذا قال : { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ آل عمران : 13 ] يعني مؤمناً ، وإذا قال : { فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ … } [ النساء : 76 ] يكون كافراً . ويتابع الحق : { فَقَاتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَانِ … } [ النساء : 76 ] . أي نصراء الشيطان الذين ينفخون في مبادئه ، والذين ينصرون وسوسته في نفوسهم ليوزعوها على الناس ، هؤلاء هم أولياء الشيطان لأن الشيطان - كما نعرف - حينما حدث الحوار بينه وبين خالقه . قال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] . لكنه عرف حدوده ولزمها فقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 83 ] . أي أن مَنْ تريده أنت يا رب لا أقدر أنا عليه . وهذه تدلنا على أن المعركة ليست بين إبليس وبين الله ، فتعالى الله أن يدخل معه أحد في معركة ، بل المعركة بين إبليس وبين الخائبين من الخلق ، فعندما قال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] دلّ على أنه عرف كيف يُقْسِم ويحلف لأن ربنا لو أراد الناس كلهم مؤمنين لما قدر الشيطان أن يقرب من أحد ، لكن ربنا عزيز عن خلقه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن هنا دخل الشيطان ، فالشيطان قد دخل من عزّتك على خلقك سبحانك لأنك لو كنت تريدهم كلهم مؤمنين لما استطاع الشيطان شيئاً ، بدليل قوله : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 83 ] أي أنا لا أقدر عليهم . ودلّ قَسَم الشيطان أنه دارس ومنتبه لمسألة دخوله على العباد فقال : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] . إذن فالشيطان لن يأتي على الصراط المعوجّ لأن الذي يسير على الصراط المعوج والطريق الخطأ لا يريد شيطاناً فهو مريح للشيطان ، ويعينه على مهمته ، فيكون وليّه . فأولياء الشيطان هم كل المخالفين للمنهج ، وهم نصراء الشيطان . والحق يأمرنا : { فَقَاتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَانِ } [ النساء : 76 ] . هؤلاء الذين بينهم وبين الشيطان ولاء ، هذا ينصر ذاك ، وذاك ينصر هذا ، ويطمئننا الحق على ذلك فيقول : { إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا } [ النساء : 76 ] لأن الشيطان عندما يكيد سيكون كيده في مقابل كيد ربه ، فلا بد أن يكون كيده ضعيفاً جداً بالقياس لكيد الله ، وليس للشيطان سلطان يقهر قالب الإنسان على فعل ، ولا يستطيع أن يرغمك على أن تفعل ، وليس له حجة يقنعك بها . والفرق بين مَنْ يكره القالب - قالبك - : أنك تفعل الفعل وأنت كاره ، كأن يهددك ويتوعدك إنسان ويمسك لك مسدساً ويقول لك : اسجد لي - مثلاً - إذن فقد قهر قالبك . لكن هل يقدر أن يقهر قلبك ليقول : " أحبني " ؟ . لا يمكن ، إذن فالمتجبر يستطيع أن يكره القالب لكنه لا يقدر أن يقهر القلب ، فالذي يقهر القلب هو الحجة والبرهان ، بذلك يقتنع أن يفعل الفعل وليس مرغماً عليه . إذن فالأول يكون قوة ، والثاني يكون حجة . والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : اعرفوا أن هذا الشيطان ضعيف جداً ، فهو لا يملك قوة أن يرغمك فإذا أغواك تستطيع أن تقول له : لن أفعل ، ولا يستطيع أن يأتي لقلبك ويقول لك : لا بد أن تفعل ويحملك على الفعل قهرا عنك . فليس عنده حجة يقنعك بها لتفعل ، فهو ضعيف ، فلماذا تطيعونه إذن ؟ . إنكم تطيعونه من غفلتكم وحبكم للشهوة ، والشيطان لا يقهر قلبكم ، ولا يقهر قالبكم . بل يكتفي أن يشير لكم ! ! ، ولذلك سيقول الشيطان في حجته يوم القيامة على الخلق : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي … } [ إبراهيم : 22 ] . أي لم يكن لي عليكم سلطان : لا سلطان قدرة أرغمكم على فعلكم بالقالب ، ولا سلطان حجة أرغمكم على أن تفعلوا بالقلب ، أي أنتم المخطئون وليس لي شأن ، إذن فكيد الشيطان ضعيف . و " الكيد " - كما نعرف - هو : محاولة إفساد الحال بالاحتيال ، فهناك مَنْ يفسد الحال لكن ليس بحيلة ، وهناك مَنْ يريد أن يفسدها بحيث إذا أمسكت به يقول لك : لم أفعل شيئاً لأنه يفعل الخطأ في الخفاء . ويفسد الحال بالاحتيال . والكيد لا يقبل عليه إلا الضعيف . إن القوي هو مَنْ يواجه من يكيد له ، فالذي يدسّ السّم لإنسان آخر في القهوة - مثلاً - هو مَنْ يرتكب عملاً لإفساد الحال باحتيال لأنه لا يقدر أن يواجه ، أما القوى فهو يتأبى على فعل ذلك ، وحتى الذي يقتل واحداً ولو مواجهة نقول له : أنت خائف ، أنت أثبت بجرأتك على قتله أنك لا تطيق حياته ، لكن الرجولة والشجاعة تقتضي أن تقول : أبقيه وأنا أمامه لأرى ماذا يقدر أن يفعل . إذن فكيد الشيطان جاء ضعيفاً لأنه لا يملك قوة يقهر بها قالباً ، ولا يملك حجة يقهر بها قلباً ليقنعك ، فهو يشير لك باحتيال وأنت تأتيه : ولا يحتال إلا الضعيف . وكلما كان ضعيفاً كان كيده أكثر ، ولذلك كانوا يقولون مثلاً : المرأة أقوى من الرجل لأن ربنا يقول : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] . ونقول لهم : ما دام كيدهن عظيماً إذن فضعفهن أعظم ، وإلا فلماذا تكيد ؟ . ولذلك يبرز الشاعر العربي هذا المعنى فيقول : @ وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت كذلك قدرة الضعفاء @@ لأن الضعيف ساعة يمسك خصمة مرة . وتمكنه الظروف منه يقول : لن أتركه لأنني لو تركته فسيفعل بي كذا وكذا . لكن القوي حينما يمسك بخصمه ، يقول : أتركه وإن فعل شيئاً آخر أمسكه وأضربه على رأسه ، إذن فإن كان الكيد عظيماً يكون الضعف أعظم . ويقول الحق بعد ذلك : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ … } .