Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 88-88)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كل جملة سبقتها " فاء " فمن اللازم أن يكون هناك سبب ومسبب ، علة ومعلول ، مقدمة ونتيجة ، وكل الأشياء التي تكلم الحق عنها سبحانه وتعالى فيما يتعلق بمشروعية القتال للمؤمنين ليحملوا المنهج إلى الناس ، ويكون الناس - بعد سماعهم المنهج - أحراراً فيما يختارون . إذن فالقتال لم يشرع لفرض منهج ، إنما شُرع ليفرض حرية اختيار المنهج ، بدليل قول الحق : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ … } [ البقرة : 256 ] . وعلى ذلك فالإسلام لا يفرض الدين ، ولكنه جاء ليفرض حرية الاختيار في الدين ، فالقُوَى التي تعوق اختيار الفرد لدينه ، يقف الإسلام أمامها لترفع تسلطها عن الذين تبسط سلطانها عليهم ثم يترك الناس أحراراً يعتنقون ما يشاءون ، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام بالسيف ، ظل فيها بعض القوم على دياناتهم . فلو أن القتال شُرع لفرض دين لما وجدنا في بلد مفتوح بالسيف واحداً على غير دين الإسلام . وبعد أن تكلم الحق عن القتال في مواقع متعددة من سورة النساء ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } [ النساء : 84 ] . شرع الحق سبحانه وتعالى قضية استفهامية هنا ، فيها معنى الإنكار وفيها معنى التوبيخ وذلك شائع في كل الأساليب التي تتفق معها في القرآن الكريم . فإذا سمعت كلمة " فمالك لا تفعل كذا " ، فكأن قياس العقل يقتضي أن تفعل ، والعجيب ألا تفعل . ولا يمكن أن يأتي هذا الأسلوب إلا إذا كان يستنكر أنك فعلت شيئاً كان ينبغي ألا تفعله أو أنك تركت شيئاً كان عليك أن تأتي به . فالأب يقول للابن مثلاً : " مالك لا تذاكر وقد قرب الامتحان ؟ " كأن منطق العقل يفرض على الابن إن كان قد أهمل فيما مضى من العام ، فما كان يصح للابن أن يهمل قبل الامتحان ، وهذا أمر بدهي بالقياس العقلي ، فكأن التشريع والقرآن يخاطبان المؤمنين ألا يقبلوا على أي فعل إلا بعد ترجيح الاختيار فيه بالحجة القائمة عليه ، فلا يصح أن يقدم المؤمن على أي عمل بدون تفكير ، ولا يصح أن يترك المؤمن أي عمل دون أن يعرف لماذا لم يعمله ، فكأن أسلوب " فما لكم " ، و " فما لك " مثل قول أولاد سيدنا يعقوب : { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ … } [ يوسف : 11 ] . ما معنى قولهم هذا ؟ معناه : أي حجة لك يا أبانا في أن تحرمنا من أن نكون مؤتمنين على يوسف نستصحبه في خروجنا . فكأن القياس عندهم أنهم إخوة ، وأنهم عصبة ، ولا يصح أن يخاف أبوهم على يوسف لا منهم ولا من شيء آخر يهدد يوسف لأنهم جماعة كثيرة قوية . وكذلك قول الحق : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الانشقاق : 20 ] . أي أن القياس يقتضي أن يؤمنوا . وقوله الحق : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 - 51 ] . كان القياس ألا يعرضوا عن التذكرة ، إذن فأسلوب " فما له " ، و " فما لك " و " فما لهم " ، و " فما لكم " كله يدل على أن عمل المؤمن يجب أن يُستقبل أولاً بترجيح ما يصنع أو بترجيح ما لا يصنع . أما أن يفعل الأفعال جزافاً بدون تفكير في حيثيات فعلها ، أو في حيثيات عدم فعلها فهذا ليس عمل العاقلين . إذن فعمل العاقل أنه قبل أن يُقبل على الفعل ينظر البديلات التي يختار منها الفعل فالتلميذ إن كان أمامه اللعب وأمامه الاستذكار ، ويعرف أنه بعد اللعب إلى رسوب ، وبعد الرسوب إلى مستقبل غير كريم ، فإذا اختار الاجتهاد فهو يعرف أن بعد الاجتهاد نجاح ، وبعد النجاح مستقبل كريم . فواجب التلميذ - إذن - أن يبذل قدراً من الجهد ليتفوق . وكل عمل من الأعمال يجب أن يقارنه الإنسان بالنتيجة التي يأتي بها وبترجيح الفعل الذي له فائدة على الأفعال التي لا تحقق الهدف المرجو . والآية هنا تقول : { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ … } [ النساء : 88 ] كأن القياس يقتضي ألا نكون في نظرتنا إلى المنافقين فئتين ، بل يجب أن نكون فئة واحدة . وكلمة " فئة " تعني جماعة ، والجماعة تعني أفراداً قد انضم بعضهم إلى بعض على رغم اختلاف الأهواء بين هؤلاء الأفراد وعلى رغم اختلاف الآراء ، إلا أنهم في الإيمان يجمعهم هوى واحد ، هو هوى الدين ، ولذلك قال الرسول : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " . فالمسبب للاختلاف هو أن كل واحد له هوى مختلف ولا يجمعهم هوى الدين والاعتصام بحبل الله المتين . وما حكاية المنافقين وكيف انقسم المؤمنون في شأنهم ليكونوا فئتين ؟ والفئة - كما عرفنا - هي الجماعة ، ولكن ليس مطلق جماعة ، فلا نقول عن جماعة يسيرون في الطريق لا يجمعهم هدف ولا غاية : إنهم فئة فالفئة أو الطائفة هم جماعة من البشر تجتمع لهدف لأن معنى " فئة " أنه يرجع ويفيء بعضهم إلى بعض في الأمر الواحد الذي يجمعهم ، وكذلك معنى " الطائفة " فهم يطوفون حول شيء واحد . والحق يقول : { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ … } [ النساء : 88 ] . هذا لفت وتنبيه من الحق بأن ننزه عقولنا أن نكون في الأمر الواحد منقسمين إلى رأيين ، وخصوصاً إذا ما كنا مجتمعين على إيمان بإله واحد ومنهج واحد . والمنافقون - كما نعرف - هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر . إننا نعرف أن كل المعنويات يؤخذ لها أسماء من الحسيات لأن الإدراك الحسي هو أول وسيلة لإدراك القلب ، وبعد ذلك تأتي المعاني . وعندما نأتي لكلمة " منافقين " نجد أنها مأخوذة من أمر حسي كان يشهده العرب في بيئتهم ، حيث يعيش حيوان اسمه " اليربوع " مثله مثل الفأر والضب . واليربوع مشهور بالمكر والخداع ، ولكي يأمن الحيوانات التي تهاجمه فإنه يبني لنفسه جحرين ، أو جحورا متعددة ، ويفر من الحيوان المهاجم إلى جحر ما ، ويحاول الحيوان المهاجم أن ينتظره عند فوهة هذا الجحر ، فيتركه اليربوع إلى فتحة أخرى ، كأن اليربوع قد خطط وأعد لنفسه منافذ حتى يخادع ، فهو يصنع فوهة يدخل فيها في الجحر ، وفوهة ثانية وثالثة ، وذلك حتى يخرج من أي فتحة منها ، وكذلك المنافق . ونعرف أن المسائل الإيمانية أو العقدية على ثلاثة أشكال : فهناك المؤمن وهو الذي يقول بلسانه ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تماماً . وهناك الكافر وهو الذي لا يعتقد ولا يدين بالإسلام ولا يقول لسانه غير ما يعتقد ، وملكاته منسجمة أيضاً ، وإن كان ينتظره جزاء كفره في الآخرة فملكاته منسجمة - لكن - إلى غاية ضارة ، وهي غاية الكفر . أما " المنافق " فهو الذي يعتقد الكفر وينعقد عليه قلبه لكن لسانه يقول عكس ذلك ، وملكاته غير منسجمة فلسانه قد قال عكس ما في قلبه لذلك يحيا موزعاً وقلقاً ، يريد أن يأخذ خير الإيمان وخير الكفر ، هذا هو المنافق . وهناك جماعة - في تاريخ الإسلام - حينما رأوا انتصار المسلمين في غزوة بدر ، قالوا لأنفسهم : " الريح في جانب المسلمين ، ولا نأمن أنهم بعد انتصار بدر وقتل صناديد قريش وحصولهم على كل هذه الغنائم أن يأتوا إلينا " ، هذه الجماعة حاولت النفاق وادعت الإسلام وهم بمكة ، حتى إذا دخل المسلمون مكة يكونون قد حصنوا أنفسهم . أو هم جماعة ذهبوا إلى المدينة مهاجرين ، ولم يصبروا على مرارة الهجرة والحياة بعيداً عن الوطن والأهل والمال ، ففكروا في هذه الأمور ، وأرادوا العودة عن الدين والرجوع إلى مكة ، وقالوا للمؤمنين في المدينة : " نحن لنا أموال في مكة وسنذهب لاستردادها ونعود " . وبلغ المسلمون الخبر وانقسم المسلمون إلى قسمين : قسم يقول : نقاتلهم ، وقسم يقول : لا نقاتلهم . الذين يقولون : " نقاتلهم " دفعهم إلى ذلك حمية الإيمان . والذين يقولون : " لا نقاتلهم " قالوا : هذه الجماعة أظهرت الإيمان ، ولم نشق عن قلوبهم ، وربما قالوا ذلك عطفاً عليهم لصلات أو أواصر . فجاء القرآن ليحسم مسألة انقسام المسلمين إلى قسمين ، ويحسم أمر الاختلاف . وعندما يأتي القرآن ليحسم فهذا معناه أن رب القرآن صنع جمهور الإيمان على عينه ، وساعة يرى أي خلل فيهم فسبحانه يحسم المسألة ، فقال : { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ . . } [ النساء : 88 ] . والخطاب موجه للجماعة المسلمة ، فقوله : { فَمَا لَكُمْ … } [ النساء : 88 ] يعني أنهم متوحدون على هدف واحد ، وقوله : { فِئَتَيْنِ … } [ النساء : 88 ] تفيد أنهم مختلفون . إذن فـ { فِئَتَيْنِ … } [ النساء : 88 ] تناقض الخطاب الذي بدأه الحق بـ { فَمَا لَكُمْ … } [ النساء : 88 ] ، كأن المطلوب من المتلقي للقرآن أن يقدر المعنى كالآتي : فما لكم افترقتم في المنافقين إلى فئتين ؟ إذن فهذا أسلوب توبيخي وتهديدي ولا يصح أن يحدث مثل هذا الأمر ، فهل ينصب هذا الكلام على كل المخاطبين ؟ ننظر ، هل القرآن مع من قال : " نقتل المنافقين " أو مع من قال بغير ذلك ؟ فإن كان مع الفئة الأولى فهو لا يؤنب هذه الفئة بل يكرمها ، إن القرآن مع هذه الفئة التي تدعو إلى قتال المنافقين وليس مع الفئة الثانية لذلك فهو يؤنبها ، ويوبخها . والأسلوب حين يكون توبيخاً لمن يرى رأياً ، فهو تكريم لمن يرى الرأي المقابل ، ويكون صاحب الرأي المكرم غير داخل في التوبيخ ، لأنّ الحق أعطاه الحيثية التي ترفع رأسه . والحق يقول : { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ … } [ النساء : 88 ] أي إن الحق يقول : أي حجة لكم في أن تفترقوا في أمر المنافقين إلى فئتين ، والقياس يقتضي أن تدرسوا المسألة دراسة عقلية ، دراسة إيمانية لتنتهوا إلى أنه يجب أن تكونوا على رأي واحد ، ومعنى الإنكار هو : لا حجة لكم أيها المؤمنون في أن تنقسموا إلى فئتين . ويقول الحق : { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] وساعة تسمع كلمة { أَرْكَسَهُمْ … } [ النساء : 88 ] ماذا نستفيد منها حتى ولو لم نعرف معنى الكلمة ؟ نستفيد أن الحق قد وضعهم في منزلة غير لائقة . ونشعر أن الأسلوب دل على نكسهم وجعل مقدمهم مؤخرهم أي أنهم انقلبوا حتى ولو لم نفهم المادة المأخوذة منها الكلمة ، وهذا من إيحاءات الأسلوب القرآني ، إيحاءات اللفظ ، وانسجامات حروفه . { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] و { أَرْكَسَهُمْ … } [ النساء : 88 ] مأخوذة من " ركسهم " ومعناها " ردهم " . كأنهم كانوا على شيء ثم تركوه ثم ردهم الله إلى الشيء الأول ، وهم كانوا كفاراً أولاً ، ثم آمنوا ، ثم أركسهم ، لكن هل الله أركسهم تعنتاً عليهم أو قهراً ؟ لا فهذا حدث { بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] ، وذلك حتى لا يدخل أحد بنا في متاهة السؤال ولماذا يعاقبهم الله ويوبخهم ما دام هو سبحانه الذي فعل فيهم هذا لذلك قال لنا الحق : إنه { أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] . و { أَرْكَسَهُمْ … } [ النساء : 88 ] مادته مأخوذة من شيء اسمه " الركس " - بفتح الراء - وهو رد الشيء مقلوباً ومنه " الرِّكس " بكسر الراء وهو الرجيع الذي يرجع من معدة الإنسان قبل أن يتمثل الطعام . مثلما نقول : " إن فلاناً غمت نفسه عليه " أو " فلان يرجع ما في بطنه " . وعندما ننظر إلى هذه العملية نجد أن الطعام الذي يشتهيه الإنسان ويحبه ويقبل عليه ويأكله بلذة ، وتنظر عيونه إليه باشتهاء ، ويده تقطع الطعام بلذة ويمضغ الطعام بلذة ، هذا الطعام بمجرد مضغة مع بعضه ينزل في المعدة وتضاف إليه العصارات المهضمه ، فإذا رجع فإنه في هذه الحالة يكون غير مقبول الرائحة ، بل إن الإنسان لو هضم الطعام وأخذ منه المفيد وأخرج البافي بعد ذلك ، فرائحة الفضلات الطبيعية ليست أسوأ من رائحة الطعام لو رجع بدون تمثيل . فلو رأيت إنساناً يقضي حاجة وآخر يتقيأ الطعام ، فالنفس تتقزز من الذي يتقيأ أكثر مما تتقزز من الذي يقضي حاجته لأن " الترجيع " يخرج طعاماً خرج من شهوة المضغ والاستمتاع . ولم يصل إلى مسألة التمثيل . ولذلك نسمع المثل " كل ما فات اللسان صار نتان " . و " الرِّكس " هو الرجيع الذي يرجعه الإنسان بعد الطعام قبل أن يتمثله . فالطعام بعد أن يتمثل ويخرج من المكان المخصص له يصبح روثاً ، وغائطاً وبرازاً . والحق سبحانه وتعالى قد جاء بالكلمة التي تصفهم : { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ … } [ النساء : 88 ] أي أنهم ارتدوا من قبل أن ينتفعوا بأي شيء من الإيمان . هذا هو التعبير القرآني الذي جاء بالعبارة التي تؤدي هذا المعنى ، وتؤدي إلى نفرتنا منهم ، فيكون الإركاس هو الرد ، وهل هو مطلق الرد ، أو رد له كيفية ؟ هو رد بإهانة أيضاً ، كيف ؟ لأن الشيء إن كان قوامه أن يقف رأسياً ، يكون الركس أن تجعل رأسه في مكان قدمه وقدمه في مكان رأسه . وعلى ذلك فالرد ليس رداً عادياً بل إنّه رد جعل المردود هُزُواً . وإن كانت استقامة الأمر على الامتداد الطولي ، يكون الركس بأن تأتي بما في الخلف إلى الأمام ، وبما في الأمام إلى الخلف ، فتقلب له كيانه ، وتعكس حاله . والقرآن يصف الكافرين والمنافقين : { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ … } [ الأنبياء : 65 ] . لماذا ، لأن الرأس مبنيٌ على القامة والهامة والارتفاع . هذا الرأس يُجْعَلُ مكان القدم ، والقدم يكون محل الرأس . إذن فقوله : { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ … } [ النساء : 88 ] أي لم يردهم مطلق الرد ، بل ردّهم رداً مهيناً ، ردّاً يقلب أوضاعهم . { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] إذن فلا يقولن أحد : ما دام الله قد أركسهم فما ذنبهم ؟ إن الله قد أركسهم { بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] ، فهم كانوا فاعلين لا منفعلين . وإليكم هذا المثل - ولله المثل الأعلى - حين تضع المدرسة أو الجامعة درجات للنجاح في كل مادة . تجد مادة يجب أن يحصل الطالب فيها على نسبة ستين في المائة . وأخرى على سبعين في المائة ، ويدخل التلاميذ الامتحان ، وعندما يرسب أحدهم لا يقال : إن المدرسة قد جعلته يرسب ، صحيح هي أرسبته ولكن وفق القوانين التي وضعتها المدرسة أو الجامعة من قبل أن يدخل التلميذ الامتحان ، ولأنه لم يبذل الجهد الكافي للنجاح ، فقد أرسب نفسه . إذن ، فالله لم يأت بالرّكس ورماه عليهم . بل هم الذين كسبوا كسباً جعل قضية السنة الكونية هي التي تؤدي بهم إلى الركس ، مثلهم مثل التلميذ الذي لم يستذكر فلم يُجب في الامتحان ، فلا يقال عن هذا التلميذ : إن المدرسة أرسبته . ولكنه هو الذي أرسب نفسه . ولذلك عندما يقال : الله هو الذي أضلهم ، فما ذنبهم ؟ هذه هي القضية التي يقول بها المسرفون على أنفسهم . ولهؤلاء نقول هذه الآية : { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] وكذلك أضل الله الضالين بفعلهم ، كيف ؟ . نحن عرفنا أن الهداية تأتي بمعنيين ، هداية الدلالة وهداية المعونة ، ويأتي المسرفون على أنفسهم الذين يودون أن تكون قضية الدين كاذبة - والعياذ بالله - لأن قضية الدين عندما تكون صدقاً فإن الذين أسرفوا على أنفسهم يتيقنون أنهم ذاهبون إلى داهية وأمر منكر شاق عليهم لذلك نجد الواحد منهم يتمحك في محاولة عدم التصديق ، والدخول إلى متاهات يصنعها الفهم السطحي للدين . ولذلك نجد المناقشات التي يناقشونها تدل على أنها مناقشات المسرف على نفسه ، فيقول الواحد منهم : ما دام الله هو الذي كتب عليّ كل شيء فلماذا يعذبني وهو الذي كتب عليّ المعاصي ؟ نقول له : لماذا آمنت في هذا الموقف بالذات أن الله هو الذي كتب ؟ وما دمت قد آمنت بأن الله هو الذي كتب فلماذا لا تؤمن به وترتضي أحكام منهجه ؟ . ولكن الواحد منهم يحاول أن يقف وقفة ليست عقلية ، فالوقفة العقلية الصحيحة تقتضي أن تأتي بالقضية المقابلة وهي أن الله إذا كان قد كتب على العبد الطاعة فلماذا يثيبه ؟ . لماذا تناسى قضية الطاعة والثواب عليها ؟ لأنه يعرف أنها القضية التي تجلب الخير ، ووقف في القضية المقابلة التي تأتي بالشرّ ، ولا يقول هذا القول إلا مسرف على نفسه . ولا نرى ملتزماً بمنهج الإيمان يقول مثل هذه القضية ، فالمؤمن يحب أن تسير الأمور على ضوء منهج الله ، ولذلك أنا إلى الآن - وليسامِحْني الله وليغفر لي - أتعجب من أن العلماء الذين سبقونا جعلوا من هذه المسألة محل خلاف . وقالوا : معتزلة وأهل سنة ! ! . المسألة كلها يجب أن تفهم على أساس أن الإسلام دين فطرة ولم يأت للفلاسفة فقط ، إنّه جاء للعقل الفطري ، ورَاعى الشاة في الإسلام كالفيلسوف ، ومن يكنس الشارع أو يمسح الأحذية مساوٍ لمن درس الفلسفة أو الحقوق لأن الإيمان لم يأت لطائفة خاصة ، ولكن المنهج قد جاء للجميع ، ولا بد أن تكون أدلته واضحة للجميع ، فعندما يقال لنا : إن الله يعلم كل شيء فيك ، لا يدخل معك في متاهة ، هو - سبحانه - يقول لك : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] . فالذي صنع الكرسي - ولله المثل الأعلى - ألا يعرف أن الكرسي مصنوع من الخشب ، ونوع الخشب " زان " أو " أرو " أو " مجنة " ، وأن المسمار الذي يربط الجزء بالجزء إما مسمار صلب وإما من معدن آخر ، وكذلك يعلم صانع الكرسي أي صنف من الغراء استعمل في لصق أجزاء الكرسي ، وكذلك مواد الدهان التي تم دهن الكرسي بها . إذن فقول الحق : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } لا يحتاج إلى جدال ولذلك نجد النَّجار الذي يرغب أن تكون صنعته مكشوفة واضحة يقول للمشتري : سوف أصنع كل الكرسي من خشب الزان وعليك أن تمر يومياً لترى مراحل فعله . ويبدأ صناعة الكرسي مرحلة مرحلة تحت إشراف الزَّبون . وكذلك يعرف البدوي كيف يتكون الرحل . وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب ، العربي يعرف كيف يتكون الفسطاط وهو بيت يتخذ من الشَّعْرِ . وقد جاء سبحانه بما يدحض أي جدل ، وبدون الدخول في أية مهاترات أو مناقشات لها مقدمات ونتائج ومقدم وتال . جاء الحق بهذا القول الفصل : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] . هو يعلم وهذا أمر سهل عليه ، ولذلك أتعجب كيف أدخل هؤلاء العلماء هذه المسألة في متاهة فلسفية ، فالإسلام دين الفطرة . ولذلك نجد العلماء الذين ناقشوا هذه المسألة - جزاهم الله خيراً - جاءوا في آخر مطافهم ، وقالوا : @ نهاية إقدام العقول عِقال وأكثر سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قِيلَ وقالوا @@ وأنا أريد أن أعرف ماذا قدمت الفلسفة النظرية للدنيا من خير ؟ . لقد انفصلت عنها الفلسفة المادية ودخلت المعمل وأخرجوا لنا الابتكارات التي انتفع بها الخلق ، فماذا فعلت الفلسفة النظرية ؟ . لا شيء . ونقول : جاء الإسلام بالعقيدة الفطرية ، ومعنى العقيدة الفطرية أن الناس فيها سواء ، فالأدلة العقلية تقتضي الوضوح لمن تَعَلَّم ولمن لم يتعلم . والفلاسفة هم الذين قالوا : بأدلة الغاية وأدلة العناية وأدلة القصد . لكن البدوي الذي سار في الصحراء وجد بعر البعير ووجد الرمل وعليه أثر قدم ، فقال : إذا كانت البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير ؟ . هو لم يدخل في فلسفة أو متاهة مثلما دخل الفلاسفة مع بعضهم في متاهات عقلية وحلها البدوي في جملة واحدة . وكذلك نجد واحداً من الناس يسأل واحداً من أهل الإشراق : ألا تشتاق إلى الله ؟ . فيقول له : إنّما يُشتاق إلى غائب ، ومتى غاب الله حتى يشتاق إليه ؟ ! لذلك نقول لمن اختلفوا في أمر رد الله لهؤلاء : نريد أن نكرم عقولكم وننظر لماذا اختلفتم في هذه الحكاية { أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] . نقول مع حسن الظن بهم ، إن كل واحد منهم تعصب لصفة من صفات الحق ، فواحد منهم يقول : { ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } فنقول له : أنت قد تعصبت لصفة القدرة وطلاقتها في الحق . وجاء ثانٍ وقال : ولكن الله عادل . ولا يمكن أن يخلق في الكافر كفره ثم يعذبه عليه . إنّه متعصب لصفة العدل . وكل منهما ذاهب إلى صفة واحدة من صفات الحق . وتناسى الإثنان أن هذه الصفات إنما هي لذاته - تعالى - فسبحانه قادر وعادل معاً . فلا هذه تفلت منه ولا تلك . ونقول لمن يقول : إنه الله خالق كل شيء وخالق كل فعل . ما الفعل ؟ . الفعل هو توجيه جارحة لإحداث حدث ، فالذي يمسح وجهه بيديه يوجه يديه لوجهه حتى يمسحه ، وهذ الفعل لا يفعله صاحب الفعل ، ودليلنا على ذلك الإنسان الآلي نضغط على أكثر من زر ليتحقق هذا الفعل ، هذا الإنسان الآلي حتى يتحرك حركة واحدة لا بد من ضغط وتحريك عدد آخر من القوى ، لكن الإنسان حتى يمسح وجهه بيديه اكتفى بأنه بمجرد أن أراد مسح الوجه باليد مسح الوجه . فهل أمسك من يمسح وجهه بشيء وضغط عليه ليمسح وجهه ؟ . إنه بمجرد أن أراد فعَل . وسائق جرافة التراب يحرك عدداً من الأذرع الحديدية حتى يحرك الجرافة إلى أسفل ، ثم حركة أخرى ليفتح كباشة التراب ، وحركة تقبض أسنان الكباشة وحركة أخرى ترفع التراب ، كل ذلك من أجل أن يرفع التراب من مكان ما إلى مكان آخر ، والواحد منا بمجرد أن يريد أن يمسح وجهه فهو يمسح وجهه ولا يعرف أي عضلات تحركت ، فمن الذي فعل كل ذلك ؟ . إنه الله . فيا من تتعصب لصفة القدرة . فالله هو الذي فعل والعبد هو الذي وجه الطاقة التي تنفعل بالله . فإذا كانت إلى غير مراد الله يصير العبد عاصياً ، وإن وجهها إلى مراد الله فيكون طائعاً ، ويكون له الكسب فقط ، فالذي يقتل واحداً ، هو لم يقتله لأنه لم يقل له : " كن قتيلاً " فيكون قتيلاً ، ولكن القاتل يأتي بسكين أو سيف أو مسدس ويرتكب فعل القتل . فأداة القتل هي التي قامت بالفعل ، والقاتل إنما أخذ الآلة الصالحة لفعل ما ولغيره ، فوجهها لذلك الفعل . فيا من تريد العدل ، إن الله يعذب على المعصية لأن الإنسان استعمل أداة مخلوقة للفعل ولعدمه ، فجعلها تؤدي فعلاً غير مرادٍ لله أي لا يرضى عنه الله ولا يحبه ، ومع ذلك فالله هو الفاعل لكل شيء . ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ … } [ النساء : 88 ] وما دام هو سبحانه الذي أركسهم بما كسبوا ، وأنتم مؤمنون بالله فلا بد أن يكون الرأي فيهم واحداً لذلك يتساءل الحق : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ . . } [ النساء : 88 ] ؟ وسبحانه لا يريد أن يقدم لهم العذر ، إنما يريد أن يظهر لهم هدايته سبحانه وهي هداية لا تتأتى لهم لأنه قد أضلهم فأنَّى لهم الهداية . فلماذا يقف جانب من المؤمنين في صفهم ؟ . لأن الله حين يهدي فهو يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء بوضع القوانين الموضحة للهداية أو الضلال . ونحن إن سمعنا " أن الله هدى " نفهمها على معنيين المعنى الأول أنه " دل " ، والمعنى الثاني أنه " أعان ومكّن " . فـ " هدى " تكون بمعنى " دل " ، وهدى تكون بمعنى " أعان " . وسبق أن قلنا : إذا كان هناك إنسان يمشي في الطريق ويريد الاتجاه إلى الإسكندرية وهو لا يعرف الطريق الموصل . فيسأل شرطي المرور فيشير الشرطي : هذا هو الطريق الموصل إلى الإسكندرية . إنَّ الشرطي هدى هذا الإنسان ودله على الطريق ، لكنه لم يحمل الإنسان على أن يسير في الطريق ، فإذا ما صدّق المسافر قول الشرطي وقال له : إنني أشكرك وأكثر الله من خيرك والحمد لله أنني وجدتك ، فلولا وجودك لتعبت ، هنا يقول الشرطي : أنت رجل طيب والطريق إلى الإسكندرية به " مطب " وعقبة ، سأركب معك حتى أدلك على مكان هذه العقبة . وبذلك يتجاوز الشرطي مرحلة " الدلالة " إلى مرحلة " المعونة " وسبحانه أوضح : سأهدي الناس جميعاً وأرشدهم وأدلهم ، فالذي يقبل على الإيمان بي سأعاونه على ذلك . ولذلك يقول : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ … } [ فصلت : 17 ] . و " هديناهم " هنا بمعن " دللناهم " فقط ، أما أن يسلكوا سبل الهداية أو لا فالأمر متروك لهم . والهداية - إذن - ترد بمعنى الدلالة ، وترد بمعنى الإعانة . والحق يعين مَنْ ؟ . يعين مَنْ آمن به ولكن مَنْ يكفر به لا يعينه : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 37 ] . وكذلك : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] . إذن فلله هدايتان : هداية عم الناس بها جميعاً وهي هداية الدلالة ، وأخرى خص بها من جاءه مؤمناً به ، وهي هداية " المعونة " . ولذلك قال الحق للرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ … } [ القصص : 56 ] . وهذا القول فيه نفي الهداية عن الرسول ، وهو سبحانه القائل أيضاً : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] . وليس من المعقول أن ينفي الحق الهداية عن الرسول ثم يثبتها له . ونفهم من ذلك : إنك يا رسول الله تدل على الحق ، ولكنك لا تعين عليه . فالله هدى الناس جميعاً فدلهم على طريق الخير . فمَنْ آمن به وأقبل عليه يسر له الأمر . وبذلك نكون قد عرفنا تماماً معنى قوله الحق : { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [ النساء : 88 ] فالذي يضله الله هو من اكتسب ما يوجب أن يضله فلا تجد له سبيلاً . وكان من الممكن أن يقول الله : أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلا تستطيعون أن تهدوه ، ولكن الأبلغ هو ما يوضحه سبحانه لنا : أنتم لا تستطيعون هداية هذا المكتسب للضلال ذلك أنه لا يوجد سبيل حتى تهدوه إليه . فالسبيل هو الممتنع وليس الهداية فقط . والسبيل هو الطريق الذي يعطيك حقاً في الهداية ، فإذا ما امتنع السبيل فماذا تفعل ؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً في أن ينقض هذا القرار ، أي لا حجة له على الإطلاق . ولذلك أخذنا المعنيين هنا ، فالذين ينافقون يظهرون الإيمان مرة وينقلبون إلى الكفر مرة ، هم ينكرون الإيمان بقلوبهم والذي يقولون بألسنتهم هو الإسلام ، أمّا الإيمان فلمَّا يدخل في قلوبهم . وما هو الأعز على النفس البشرية ؟ مكنونات القلب أم مقولة اللسان ؟ الأعز هو مكنونات القلب . وما داموا هم لا يؤمنون بقلوبهم ويقولون فقط بألسنتهم ، فالعقيدة داخلهم معقودة على الكفر ، وما دامت العقيدة معقودة على الكفر فهم لا يريدون أن يأتوا إلى صف الإيمان ، ولكنهم يريدون جر المؤمنين إلى معسكر الكفر لذلك يقول الحق بعد ذلك : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ … } .