Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 92-92)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

جاء هذا القول بعد أن تكلم سبحانه عن القتال لتثبيت أمر الدعوة ، ولما كان القتال يتطلب قتل نفس مؤمنة نَفْساً كافرة ، ناسب ذلك أن يتكلم الحق سبحانه عن القتل . والقتل - كما نعلم - محاولة إزهاق روح الحي بنقض بنيته . والحي وإن لم ننقض بنيته حين يأتي أجله يموت . إذن فنقض البنية من الإنسان الذي يريد أن يقضي على إنسان عملٌ غايتُه إنهاء الحياة ، فلا يظنن ظان أن القاتل الذي أراد أن ينقض بنية شخص يملك أن ينهي حياته ، ولكنه يصادف انقضاء الحياة ، فالذي ينهي الحياة هو الحق سبحانه وتعالى . ولذلك قلنا : إن الجزاء إنما وقع على القاتل لا لأنه أمات القتيل ولكن لأن القاتل تعجل في أمر استأثر الله وحدهُ به ، والقتيل ميت بأجله ، فالحق سبحانه وتعالى هو الذي استخلف الإنسان في الكون ، والاستخلاف شرحه الحق في قوله : { وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا … } [ هود : 61 ] . فالله هو الذي جعل الإنسان خليفة في الكون ليعمر هذا الكون ، وعمارة الكون تنشأ بالتفكير في الارتقاء والصالح في الكون ، فالصالح نتركه صالحاً ، وإن استطعنا أن نزيد في صلاحه فلنفعل . الأرض - على سبيل المثال - تنبت الزرع ، وإن لم يزرعها الإنسان فهو يجد زرعاً خارجاً منها ، والحق يريد من الإنسان أن ينمي في الأرض هذه الخاصية فيأتي الإنسان بالبذور ويحرث الأرض ويزرعها . فهذا يزيد الأمر الصالح صلاحاً . وهذا كله فرع وجود الحياة . إذن فالاستخلاف في الأرض لإعمارها يتطلب حياة واستبقاء حياة للخليفة . وما دام استبقاء الحياة أمراً ضرورياً فلا تأتي أيها الخليفة لخليفة آخر مثلك لتنهي حياته فتعطل إحياءه للأرض واستعماره لها . فالقتال إنما شُرع للمؤمنين ضد الكافرين لأن حركة الكافرين في الحياة حركات مفسدة ، ودرء المفسدة دائماً مقدم على جلب المصلحة . فالذي يفسد الحياة يقاتله المؤمنون كي ننهي الحياة فيه ، ونُخَلِّص الحياة من معوق فيها . إذن فيريد الحق أن تكون الحياة لمن تصلح الأرض بحياته . والكافرون يعيثون في الأرض فساداً ، ويعيشون على غير منهج ، ويأخذون خير الضعيف ليصيروا هم به أقوياء ، فشرع الله القتال إما ليؤمنوا فيخضعوا للمنهج ، وإما ليخلص الحياة من شرهم . فإذا ما وجه الإنسان القتل لمؤمن - وهو في ذاته صالح للاستعمار في الحياة - يكون قد جنى على الحياة ، وأيضاً لو قتل الإنسان نفسه يكون قد جنى على الحياة كذلك ، لماذا ؟ لأنه أفقد الحياة واحداً كان من الممكن أن يعمر بحركته الأرض . فإن اجترأ على حياته أو على حياة سواه فلا بد أن نؤدبه . كيف ؟ قال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا … } [ يونس : 27 ] . والتشريع الإسلامي وضع للقاتل عن سبق إصرار وترصد عقاباً هو القتل . وبذلك يحمي التشريع الحياة ولا ينمي القتل ، بل يمنع القتل . إذن ، فالحدود والقصاصات إنما وضعت لتعطي الحياة سعة في مقوماتها لا تضييقاً في هذه المقومات ، والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن القتال المشروع أراد أن يوضح لنا : إياكم أن تتعدوا بهذه المسألة ، وتستعملوا القتال في غير الأمر المشروع ، فإذا ما اجترأ إنسان على إنسان لينهي حياته في غير حرب إيمانية شرعية فماذا يكون الموقف ؟ يقول التشريع : إنه يقتل ، وكان يجب أن يكون في بالك ألا تجترئ على إزهاق حياة أحد إلا أن يكون ذلك خطأ منك ، ولكن إن أنت فعلت خطأ نتج عنه الأثر وهو القتل . فماذا يكون الأمر ؟ هناك منفعل لك وهو القتيل وأنت القاتل ولكن لم تكن تقصده ، هما - إذن - أمران : عدم القصد في ارتكاب القتل الخطأ ، والأمر الثاني هو حدوث القتل . يقول التشريع في هذه المسألة : إن القاتل بدون قصد قد أزهق حياة إنسان ، وحياة هذا الإنسان لها ارتباطات شتى في بيئته الإيمانية العامة ، وله ارتباطاته ببيئته الأهلية الخاصة كعائلته ، العائلة له أو العائل لها أو الأسرة أو الأقرب من الأسرة وهو الأصل والفرع ، فكم دائرة إذن ؟ دائرة إيمانية عامة ، ودائرة الأهل في عمومها الواسع ، ودائرة الأسرة ، ودائرة خصوصية الأسرة في الأصل والفرع . وحين تنهي حياة إنسان في البيئة الإيمانية العامة فسوف تتأثر هذه البيئة بنقصان واحد مؤمن خاضع لمنهج الله ومفيد في حركته لأن الدائرة الإيمانية فيها نفع عام . لكن دائرة الأهلية يكون فيها نفع خاص قليلاً والدائرة الأسرية نجد أن نفعه فيها كان خاصاً بشكل ما ، وفي الأصل والفرع نجده نفعا مُهماً وخاصاً جداً . إذن فهذا القتل يشمل تفزيعاً لبيئة عامة ولبيئة أسرة ولبيئة أصل وفرع . ولذلك أريد أن تلاحظوا في أحداث الحياة شيئاً يمر علينا جميعاً ، ولعل كثيراً منا لا يلتفت إليه ، مع أنه كثير الحدوث ، مثلاً : إذا كنا جالسين في مجتمع وجاء واحد وقال : " فلان مات " ، وفي هذا المجتمع أناس يعرفونه معرفة عامة . وآخرون يعرفونه معرفة خاصة ولهم به صلة ، وأناس من أهله ، وفيه والد الميت أو ابنه ، انظروا إلى أثر النعي أو الخبر في وجوه القوم ، فكل واحد سينفعل بالقدر الذي يصله ويربطه بمن مات . فواحد يقول : " يرحمه الله " وثانٍ يتساءل بفزع : " كيف حدث ذلك " ؟ وثالث يبكي بكاء مراً ، ورابع يبكي جارياً ليرى الميت . والخبر واحد فلماذا يتعدد أثر وصدى الانفعالات ، ولماذا لم يكن الانفعال واحداً ؟ نقول : إن الانفعال إنما نشأ قهراً بعملية لا شعورية على مقدار نفع الفقيد لمن ينفعل لموته فالذي كان يلتقي به لِمَاماً ويسيراً في أحايين متباعدة يقول : " رحمه الله " . والذي كان يجالسه كل عيد يفكر في ذكرياته معه ، وحتى نصل إلى أولاده فنجد أن المتخرج الموظف وله أسرة يختلف انفعاله عن الخريج حديثاً أو الذي يدرس ، أو البنت الصغيرة التي ما زالت تتلقى التعليم ، هؤلاء الأولاد يختلف تلقيهم للخبر بانفعالات شتى ، فالابن الذي له أسرة وله سكن يتلقى الخبر بانفعال مختلف عن الابن الذي ما زال في الدراسة ، وانفعال الابنة التي تزوجت ولها أسرة يختلف عن انفعال الابنة التي ما زالت لم تجهز بعد . إذن فالانفعال يحدث على مقدار النفعية ، ولذلك قد نجدها على صديق أكثر مما نجدها على شقيق . وقالوا : من أحب إليك ، أخوك أم صديقك ؟ . قال : النافع . إذن تلقى خبر انتهاء الحياة يكون مختلفاً ، فالحزن عليه والأسف لفراقه إنما يكون على قدر إشاعة نفعه في المجتمع . وهناك واحد يكون وطنه أسرته يعمل على قدر نفعها ، وواحد يكون وطنه عائلته وقريته ، وواحد وطنه أمته . وواحد وطنه العالم كله . إذن فعندما يفجع المجتمع في واحد فالهزة تأتي على قدر وطنه ، وعندما يفاجأ الناس بواحد يُقتل عن طريق الخطأ فالفاعل معذور . ولكن عذره لم يمنع أن تعدى فعله وأن الآخر قد قتل ؟ . فالأثر قد حصل ، وتحدث الهزة للأقرب له في الانتفاع ، ولأن القتل خطأ فلن يتم القصاص من القاتل ، ولكن عليه أن يدفع دية ، وهذه الدية توزع على الناس الذين تأثروا بفقدان حياته لأن هناك قاعدة تقول : " بسط النفع وقبض الضر " . إنك ساعة ترى شيئاً سينفعك فإن النفس تنبسط ، وعندما ترى شيئاً سيضرك فإن النفس تنقبض . وعندما يأتي للإنسان خبر موت عزيز عليه فإن نفسه تنقبض ، وساعة يأتيه من بعد ذلك خير وهو حصوله على جزء من دية القتيل فالنفس تنبسط ، وبذلك يتم علاج الأثر الحادث عن القتل الخطأ . والدية بحكم الشرع تأتي من العاقلة ، وبشرط ألا تؤخذ من الأصول والفروع ، فلا تجتمع عليهم مصيبة فقد إنسان على يد أحد من أصولهم أو فروعهم وهم بذلك يفزّعون فلا يجمع عليهم هذا الأمر مع المشاركة في الدية . كأن التشريع أراد أن يعالج الهزة التي صنعها انحراف بعلاج هو وقاية من رد الفعل فيحقق التوازن في المجتمع . فمن يقتل خطأ لا يقتص منه المجتمع ولكن هناك الدية . ومن أجل إشاعة المسئولية فالقاتل لا يدفعها ، ولكن تدفعها العاقلة لأن العاقلة إذا ما علمت أن من يجني من أهلها جناية وأنّها ستتحمل معه فإنها تعلِّم أفرادها في صيانة حقوق غيرهم لأن كل واحد منها سيدفع ، وبذلك يحدث التوازن في المجتمع . والحق سبحانه وتعالى يعلمنا أن نستبعد أن يقتل مؤمن مؤمناً إلا عن خطأ ، فلا يستقيم أن يحدث ذلك عمداً فيقول : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً … } [ النساء : 92 ] ومعنى هذا أن مثل هذا القتل لا يصح أن يحدث عن قصد لأن اللُّحمة - بضم اللام - الإيمانية تمنع هذا . لكن إن حدث هذا فما العلاج ؟ { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ … } [ النساء : 92 ] . ولا يذكر سبحانه هنا القصاص ، فالقصاص قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ … } [ البقرة : 178 ] . والقصاص حق الولي فله أن يعفو أو أن يأخذ الدية ، كأن يقول : عفوت عن القصاص إلى الدّية . ويجب أن نفرق بين الحد وبين القصاص . فالقصاص حق الولي ، والحد حق الله . وللولي أن يتنازل في القصاص ، أما الحدود فلا يقدر أحد أن يتنازل عنها ، لأنها ليست حقاً لأحد ولكنها حق الله . إذن فالقتل الخطأ قال فيه : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ … } [ النساء : 92 ] وهنا قد نسأل : وماذا يستفيد أهل المجنى عليه بالقتل من تحرير رقبة مؤمنة ؟ . هل يعود ذلك على أهل القتيل ببسط في النفعية ؟ . قد لا تفيدهم في شيء ، لكنها تفيد المجتمع لأن مملوك الرقبة وهو العبد أو الأمة هو مملوك لسيده ، والسيد يملك حركة العبد ، ولكن عندما يكون العبد حرّاً فهو حر الحركة فحركة العبد مع السيد محدودة ، وفي حريته حركة مفيدة للمجتمع . إذن فالقبض الذي حدث من قتل نفس مؤمنة يقابلها بسط في حرية واحد كان محكوماً في حركته فنقول له : انطلق في حركتك لتخدم كل مجتمعك . ويريد الحق بذلك أن يفتح مصرفاً لحرية الأرقاء ضمن المصارف الكثيرة التي جعلها الإسلام لذلك . وبعد هذا القول { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ … } [ النساء : 92 ] لكي تصنع البسط في نفوس أهله ليعقب القبض نتيجة خبر القتل . ولذلك نجد أسرة قد فجعت في أحد أفرادها بحادثة وعاشوا الحزن أياماً ثم يأخذون الأوراق ويصرفون بها الدية أو التعويض ، مما يدل على أن في ذلك شيئاً من السلوى وشيئاً من التعزية وشيئاً من التعويض ، ولو كانت المسألة مزهوداً فيها لقالوا : " نحن لا نريد ذلك " ، ولكن ذلك لا يحدث . وبعد ذلك نجد الذي فقد حياة حبيب لا يظل في حالة حزن ليفقد حياة نفسه ، ففي الواقع يكون الحزن من الحزين على نفسه بمقدار ما فات عليه من نفع عندما قُتل له القتيل ، والحزين إنما حزن لأن القتيل كان يثري حياته ، فلما مات صارت حياة النفع منه بلا إثراء . ولو رأينا إنساناً يحزن لفقد واحد وقلنا له : احتفظ بجثمانه لمدة أسبوع لترتوي من أشواقك إليه ، وبعد ذلك نأخذه منك لندفنه أيرضى ؟ . لن يرضى أبداً بذلك . أو نقول للحزين : " لن نقدم لك طعاماً لمدة أسبوع لأنك في حالة حزن هنا لن يوافق الحزين " ، وزوجة الفقيد تذرف عيناها الدمع وتبكي عليه لكنها تأكل وتشرب . إذن فالمسألة يجب أن تكون واضحة لاستقبال أقضية الحق وهي أقضية لا تنقض نواميس الله في الكون . وبعد ذلك يريد الحق أن يشيع التعاطف بين الناس ، فإذا قال أهل القتيل لأهل القاتل : نحن لا نريد دية ، لأن مصيبتكم في القتيل مثل مصيبتنا فيه ، وكلنا إخوة فما الذي يجري في المجتمع ؟ . الذي يحدث من النفع هو أضعاف أضعاف ما تؤدية الدية ، إذن فهذا تربيب للدية ، فساعة يعرف الطفل في العائلة أنه كان مطلوباً منهم دية لأن أباه قد قَتَل ، وعفا أهل القتيل فلم يأخذوا الدِّية ، هذا الطفل سيعرف عندما يَشِبُّ ويعقل الأمور أن كل خير عند أسرته ناتج من هذا العفو وهذه العفّة ، فيحدث الود . إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربب إشاعة المودة والصفاء والنفعية . فإذا ما حزن واحد لفقدان إنسان بالقتل الخطأ قد يأخذ الدية فينتفع ، وإن لم يأخذها فهو ينتفع أكثر لذلك يقول الحق : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ … } [ النساء : 92 ] . وهذا ما يحدث إذا ما قتل مؤمن مؤمناً خطأ في بيئة إيمانية ، ولكن ما الذي يحدث عندما يتم قتل مؤمن لواحد من قوم أعداء والمقتول مؤمن ويعيش بين الكفار ؟ . ها نحن أولاء نرى عدالة التشريع الإلهي ، وحتى نزداد يقيناً بأن الله هو رب الجميع لذلك قال الحق : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ … } [ النساء : 92 ] أي كان المقتول من قوم في حالة عداء مع المسلمين فهو لا يستحق الدية لأنه يحيا في قوم كافرين . هكذا نجد التشريع هنا قد شرع لثلاث حالات : شرع لواحد في البيئة الإيمانية ، وشرع لواحد مؤمن في قوم هم أعداء للمؤمنين ، وشرع لواحد قد قُتل وهو من قوم متحالفين مع المسلمين . وكل واحدة لها حكم ، والحكم في حالة أن يكون القتيل من قوم بينهم وبين المسلمين عداء وهو مؤمن ، فتحرير رقبة مؤمنة ، وذلك للتعويض الإيماني فينطلق عبد كان محدود الحركة لأنّ هناك مَن مات وانتهت حركته ، وفي هذا تعويض للمجتمع عندما تشيع حركة العبد . وماذا نفعل في الدية ؟ لا يأخذون الدية لأن الدية موروثة ، وهم من الكفار وليس بين الكفار والمسلمين توارث أي فليس هنا دية . وعندما ننظر إلى قول الحق : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ … } [ النساء : 92 ] نجد أن كلمة " عدو " مفردة في ذاتها ، ولكنها تشمل كل القوم ، وفي اللغة نقول : " هو عدو " و " هما عدو " و " هم عدو " وإن تنوعت عداوتهم فهم أعداء ، ولكن عندما يتحد مصدر العداء فهم عدو واحد . والحق يقول : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ . . } [ النساء : 92 ] ولم يورد سبحانه هنا الدية لأن القوم على عداء للإسلام فلا دية لهم لأنه لا توارث . ويقول الحق : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ … } [ النساء : 92 ] فإذا أعطى المسلمون قوماً عهداً من العهود فلا بد من الوفاء . هذا الوفاء يقتضي تسليم دية لأهله لأن هذا احترام للعهد ، وإلا فما الفارق بيننا وبينهم . والدية - كما نعلم - تدفعها العاقلة ، ويقول الحق في بيان حق الله في أمر القتل الخطأ : { وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ … } [ النساء : 92 ] أي فمن لم يجد الرقبة أو لم يتسع ماله لشرائها فصيام الشهرين ، بكل أيامهما ، فلا يفصل بينهما إلا فاصل معذر كأن يكون القاتل - دون قصد - على مرض أو على سفر . وبمجرد أن ينتهي المرض أو السفر فعليه استكمال الصوم . ولماذا هذا التتابع الحكمي ؟ . لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يجعل هذه المسألة شاغلة لذهن القاتل ، وما دامت تشغل ذهنه فالصيام لا بد أن يكون متتابعاً ، فلو لم يكن الصيام متتابعاً لأصابت القاتل غفلة . { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ … } [ النساء : 92 ] . ولماذا قال الحق : { تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ … } [ النساء : 92 ] ؟ . والتوبة - كما نعرف - قد تكون من العبد فنقول : " تاب العبد " . وقد تسند التوبة إلى الحق فيقال : " تاب الله عليه " ومراحل التوبة ثلاث : حين يشرع الله التوبة نقول : تاب الله على العباد فشرع لهم التوبة فلا أحد يتوب إلا من باطن أن الله شرع التوبة لأنه لو لم يشرع الله التوبة لتراكمت على العباد الذنوب والخطايا . وتشريع التوبة هو تضييق شديد لنوازع الشر ، فلو لم يشرع الله التوبة لكان كل من ارتكب ذنباً يعيث في الأرض بالفساد ، فحين شرع الله التوبة عصم المجتمع من الأشرار . فلأنه شرّع التوبة ، فهو - سبحانه - يتوب ، هذه هي المرحلة الأولى . وما دام الله قد شرع التوبة فالمذنب يتوب ، هذه هي المرحلة الثانية ، وساعة شرع الله التوبة ويتوب المذنب فالله يقبل التوبة ، هذه هي المرحلة الثالثة . وهكذا نرى دقة القرآن حين قال : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [ التوبة : 118 ] . وبعد أن يتوبوا فإن الله يقبل التوبة عن عباده . إذن فالتوبة الأولى من الله تشريع . والتوبة الثانية من الله قبول ، والوسط بينهما هي توبة الإنسان . ويذيل الحق الآية : { تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 92 ] فسبحانه يشرع التشريع الذي يجعل النفوس تحيا في مُناخ طبيعي وفي تكوينها الطبيعي ، فلو تصورنا أن إنساناً قد قُتل خطأ وتركنا أهل المقتول بلا ترضية فلن يستفيد المجتمع الإيماني من قتله . إذن فالعلم من الله بالنفس البشرية جعل من قتل خطاً يُفيد المجتمع الإيماني بتحرير رقبة ، فيزيد المجتمع إنساناً حراً يتحرك حركة إيمانية لذلك اشترط الحق أن تكون الرقبة مؤمنة ، حتى نضمن أن تكون الحركة في الخير ، فنحن لا نحرر رقبة كافرة لأن الرقبة الكافرة عندما تكون مملوكة لسيد فشرها محصور ، لكن لو أطلقناها لكان شرها عاماً . وبعد تحرير الرقبة هناك الدية لننثرها على كل مفزع في منفعته فيمن قُتل ، ولا نأخذها من أصول القاتل وفروعه ، فلا نجمع عليهم مصيبتين القتل الذي قام به أصلهم أو فرعهم لأن ذلك - لا شك - سيصيبهم بالفزع والخوف والاشفاق على مَن جنى منهم . وأن يشتركوا في تحمل الدية . وذلك العمل ناشىء عن حكمة . فإذا كان الذي يضع الأشياء في موضعها هو خالقها ، فلن يوجد أفضل من ذلك لتستقيم الأمور . وفي المجال البشرى نجد أن أي آلة من الآلات - على سبيل المثال - مكونة من خمسين قطعة ، وكل قطعة ترتبط بالأخرى بمسامير أو غير ذلك ، وما دامت كل قطعة في مكانها فالآلة تسير سيراً حسناً ، أما إذا توقفت الآلة فإننا نستدعي المهندس ليضع كل قطعة في مكانها ، وكل شيء حين يكون في موضعه فالآلة تمشي باستقامة ، وكل حركة في الوجود مبنية على الحكمة لا ينشأ فيها فساد فالفساد إنما ينشأ من حركات تحدث بدون أن تكون على حكمة . والحكمة مقولة بالتشكيك ، فهناك حكيم وهناك أحكم . وقديماً - على سبيل المثال - كنا نرى الأسلاك الكهربائية دون عوازل فكان يحدث منها " ماس " كهربائي . وعندما اكتشفنا العوازل استخدمناها وعدلنا من تصنيعنا للأشياء . وكنا نجد الأسلاك في السيارة - مثلاً - ذات لون وحجم واحد ، فكان يحدث الارتباك عند الإصلاح ، لكن عندما تمت صناعة كل سلك بلون معين ، فسهل هذا عملية الإصلاح . فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، فما بالنا حين يكون مَنْ يضع الشيء في موضعه هو خالقنا ؟ لن نجد أفضل ولا أحسن من ذلك . فإذا ما رأينا خللاً في المجتمع فلنعلم أن هناك شيئاً قد ناقض حكمة الله . وعندما نبحث عن العطب سوف نجده ، تماماً مثلما تبحث عن العطب في أي آلة وتأتي لها بالمهندس الذي يصلحها . ويجب أن نرده إلى من خلق المجتمع ، ونبحث عن علاج الخلل بحكم من أحكام الله . ولذلك أرشدنا الحق إلى أننا إن اختلفنا في شيء فلنرده إلى الله وإلى الرسول حتى لا نظل في تعب . وبعد ذلك يتكلم الحق عن القتل العمد ، وقد يقول قائل : أما كان يجب أن يحدثنا الله عن القتل العمد أولاً ؟ ونقول : الحق لو تكلم عن القتل العمد أولاً لكان ذلك موحياً أنه يحدث أولاً ، ولكن الحق يوضح : لا يصح أن تأتي هذه على خيال المؤمن . ويسأل سائل : لماذا لم يقل الحق : " وما كان لمسلم " . ونقول : يجب أن ننتبه إلى أن الحق نادى المؤمن لأن الإيمان عمل قلبي ، ولهذا كان النداء للمؤمنين ولم يكن النداء للمسلمين لأن الإسلام أمر ظاهري ، فقد يقتل إنسان يتظاهر بالإسلام إنساناً مؤمناً . لهذا نادى الحق بالنداء الذي يشمل المظهر والجوهر وهو الإيمان . وحين يشرع الحق فلا بد أن يأتي بالجزاء والعقاب للذي يقتل عمداً . وهو يقول : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً … } .