Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 38-39)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا قوْل الرجل المؤمن من آل فرعون يعظ قومه وكأنه نبيّ ، فإنْ قُلْتَ : وماذا أسكته عن فرعون حتى وصل بضلاله إلى أنْ يدَّعي الألوهية ؟ قالوا : هذه من ضمن قولنا إن للحق صَوْلة لكن لها وقتها المناسب ، وساعةَ ينطق الحق على لسان هذا المؤمن فكأن الحق سبحانه هو الذي يتكلم ، لذلك لم يعارضه أحدٌ لأن وارد الرحمن لا يُعارَض إنما يُعارض وارد البشر . لذلك لما قال الحق سبحانه : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ } [ القصص : 7 ] لم تعارض هذا الرأي ، ومَنْ يقول للمرأة : إنْ خافت على وليدها ألقيه في اليم ؟ والله لو قالها أحدٌ غير الحق سبحانه لَعُورضت لكن قبلتها أم موسى ولم تعترض ، لأن وارد الرحمن لا يُعارض ولا يُناقَش ، وإلا لَكانَ لها أنْ تقول : أأنجيه من موت مظنون إلى موت مُحقَّق ؟ إذن : لا عجبَ أنْ يقول الرجل المؤمن هذا الكلام على مَرْأىً ومَسْمع من فرعون ، ومع ذلك لم يعارضه . { يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ } [ غافر : 39 ] هذه تلفتنا إلى أن الإنسان في أحداث الحياة معه لابُدَّ له أن يخدم غاية ، ويُشترط في الغاية التي تخدم ألاَّ يكون بعدها غاية أخرى ، فإنْ كان بعدها غايةٌ أخرى فليستْ بغاية ، بل هي مرحلة مُوصِّلة للغاية ، مثل الولد تعلمه ليأخذ الإعدادية مثلاً ، فهل الإعدادية غاية ؟ لا إنما هي مرحلة مُوصِّلة إلى مرحلة أخرى هي الثانوية ، كذلك الثانوية مرحلة مُوصِّلة إلى ما بعدها . فالشيء ما دام له بَعْد فليس بغاية ، الغاية هي التي ليس لها بَعْد ، لذلك يقول لهم الرجل المؤمن : إن الدنيا كلها بما فيها متاع مجرد متاع ليست غاية ، إنما الغاية الحقيقية هي الآخرة . والنظرة المتأملة ترى أن الإنسان له عمر مظنون في الكون غير مُحدَّد أبهمه الله ، وجاء هذا الإبهام عين البيان وأرفع درجاته ، لأنه سبحانه حين أبهمه في الزمان وفي المكان جعلنا نتوقعه وننتظره في كل لحظة وفي أيِّ مكان ، لذلك قالوا : الموت سهمٌ أُرسِل إليك وهو في الطريق إليك بالفعل وعمرك بقدر سفره إليك . وحين تتأمل الكون من حولك تجد الخالق سبحانه خلق لك كوناً منسجماً يخدمك ، شمس وقمر ونجوم وهواء وماء ونبات … إلخ فانظر يا مَنْ خُلِقت له هذه الأكوان كيف تفنى أنت وتبقى هي ، تموت أنت والشمس كما هي والقمر والنجوم والهواء والماء ، لم يتغير في كون الله شيء ، حتى الماء الذي نظنه ينقص هو في الكون كما هو منذ خلقه الله لا يزيد ولا ينقص . فالماء الذي أخذته من الكون في حياتك خرج منك مرة أخرى في صورة عرق وفضلات ، حتى النسبة التي تبقى فينا بعد الموت تخرج وتمتصّها الأرض ، كذلك الماء في الوردة مثلاً وفي كل الكائنات ، إذن : فالكون كله كذلك عبارة عن تغيُّرات في مُتحد . لكن أيُعقل أن يكون الخادمُ أطولَ عمراً من المخدوم ، أموت وتبقى الشمس التي تخدمني والتي خُلِقت من أجلي ؟ نعم لتعلم أنَّ خادمك أطول عمراً منك في الدنيا مع أَنك المكرَّم المخدوم ، إذن : لا بدَّ أن لي عمراً آخر يناسب هذا التكريم ، عمراً يبقى بعد فناء هذه المخلوقات حيث تنتهي الشمس والقمر والنجوم … وأبقى أنا ، وهذا لا يكون إلا في الآخرة { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] . ولا بدَّ للمؤمن أن يقول بهذا اليوم ، وأنْ يؤمن به ليكون هو المكرّم حقاً وهو الأطول عمراً . حتى الموت نفسه يموت وتبقى أنت في الآخرة خالداً لا تفوتك النعمة ولا يدركك الموت . لذلك يريد منا الحق سبحانه أن ننظر إلى هذه الغاية ، لا أن ننظر تحت أقدامنا ، ونعيش فقط للحظة التي نحن فيها ، فالغاية الحقيقية لكل مؤمن هي الآخرة لأنها ليس لها بَعْد { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] والحيوان مبالغة من الحياة . أي : الحياة الحقيقية . وهنا يقول الرجل المؤمن : { يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ } [ غافر : 39 ] أي : المستقر التي لا عدولَ عنها ، ولا سُكْنى غيرها ، ولا بُدَّ أن نعمل لها .