Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 40-40)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نعم ما دامت الآخرة هي دار القرار والمستقر فلابدّ من الرجوع إليَّ والوقوف بين يديّ أُجازي كُلاًّ بعمله ، وأنا لستُ جباراً عليكم إنما أنا رحيم بكم أجازي السيئة بمثلها ، أو أغفر وأضاعف الحسنة أضعافاً كثيرة . والوقفة هنا عند قوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ غافر : 40 ] فهذا الشرط لا يمنع غير المؤمنين من فعل الخير والعمل الصالح ، وقد بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . والكافر حين يفعل الخير يأخذ حظه منه في الدنيا ، لا نصيبَ له في ثواب الآخرة ، يأخذه في الدنيا شهرةً وصيتاً وسُمعة طيبة على ألسنة الناس ، يأخذه في صورة تكريم واحتفال ، ألاَ تراهم يقيمون لهم التماثيل ويُخلِّدون ذكراهم … إلخ . إذن : أخذوا حظهم في الدنيا ، لذلك يقول تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . تأمل { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ … } [ النور : 39 ] يعني : فوجئ به لأنه لم يكُنْ في باله في الدنيا وما عمل من أجله قطّ ، ومعلومٌ أن الإنسان يأخذ أجره ممَّنْ عمل له . وقد سُئِلْنا في هذه المسألة في سان فرانسيسكو : أيضيع أجر الكافر الذي عمل الخير في الدنيا ؟ قلت : أعملَ للخير لله أم للإنسانية ورُقيِّها ؟ قالوا : عمل للإنسانية ورُقيِّها وخدمتها ، قلت : فليأخذ أجره منها وقد أخذه شهراً وصيتاً وتخليداً ، قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . لذلك نقول : إن الكافرين الذين عملوا لرقي المجتمع وتقدمه نحن ننتفع بأعمالهم ومخترعاتهم ومكتشفاتهم ، بل ونطوعها لخدمة الإيمان والدعوة إلى الله ، فهذا المسجِّل وهذا الميكرفون وغيرها ثمرة جهدهم ، لكن لا حَظَّ لهم في ثوابه ، لذلك نقول : إن هؤلاء خُدَّام حَرْف واحد من حروف القرآن ، ما هو ؟ هو السين في قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ } [ فصلت : 53 ] . فهم يتعبون ويعيشون حياة قاسية في تقشُّف ليتفرغوا للبحث والدراسة للوصول إلى سِرٍّ من أسرار الله في كونه ، وفي النهاية ينتفع الناس بأعمالهم ، ويُحْرمون هم ثواب هذا العمل . وقوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ غافر : 40 ] الرزق كل ما ينتفع به الإنسان ، وليس مجرد المال كما يظن البعض ، فالعافية رزق ، والسلامة رزق ، والعلم رزق ، والحلم رزق ، كلُّ ما تنتفع به رزقٌ لك { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ غافر : 40 ] كلمة حساب تعني : أنك تحسب للشيء حساباً على قدره . أما في الآخرة فالرزق فيها بغير حساب ، أي : بغير حساب من أحد لأن المعطي الرازق هو الله ، والله حين يعطيك لا يعطيك على قدر عملك ، إنما يعطيك على قدره هو سبحانه . وحين يأتيك الخير غير المظنون تقول : لم أكُنْ أعمل له حساباً ، فمعنى { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ غافر : 40 ] يعني : طلاقة قدرة في العطاء ، قدرة تعطى للمعطي بلا حساب مُسبَّب منه ، وبلا حساب على قدرك ، فالمسألة إذن واسعة . قالوا : ومن غير الحساب في الجنة أنك تأكل ولا تتغوط ، كيف ؟ لأنك تأكل بطهي الله لك ، وما دُمْت تأكل بطهي الله الخالق فلا بدَّ أن يعطيك الغذاء على قدر مقومات الحياة دون زيادة ، فمن أين تأتي الفضلات إذن ؟ ولماذا ننكر هذه المسألة أو حتى نتعجب منها ونحن نراها في الدنيا رغم إمكاناتنا المحدودة ؟ ألا تراهم في الحروب مثلاً يعطون الجنود حبوباً خاصة تحلُّ محلَّ الغذاء تعطيهم الطاقة اللازمة دون زيادة ، ولا تترك في الجسم فضلات للتغوط ؟ فإذا كان المخلوق فعل هذا فما بالك بالخالق سبحانه ؟ وقد تأكل في الجنة بغير حاجة للطعام ، تأكل لمجرد التمتع بالأكل ، وقد لا تجتاج إلى الطعام أصلاً لذلك قالوا : أفضل درجات الجنة وأحسن نعيمها في عليين لأنها مرتبة ليس فيها شيء من مُتَع الحياة إلا أنْ ترى ربك عز وجل وكفى بها نعمة ، فأنت في حضرته تعالى لا تحتاج أصلاً إلى هذه المتع . لذلك لما ذهب الشَّعبي إلى ملك الروم وسأله الملك : أنتم تدَّعون أنكم في الجنة تأكلون ولا تتغوطون ، فكيف ذلك ؟ قال : وما العجب في ذلك ؟ ألم تر إلى الطفل في بطن أمه كيف يتغذَّى وينمو ، فهل يتغوَّط في بطنها ، إنه لا يتغوط ولو تغوَّط لاحترق في مشيمته ، كذلك المؤمن في الجنة . فقال الملك : وتدَّعُون أنكم تأكلون من الطعام في الجنة فلا ينقص ، وكل شيء تأخذ منه لا بدَّ أن ينقص . قال : نعم ينقص إذا لم يكُنْ له مدد يكمل نقصه ، هات لي شمعة فأتى له بشمعة فأشعلها ثم قال للموجودين في المجلس : ليأتِ كل واحد منكم بشمعة ويشعلها من هذه فأشعلوا جميعاً شموعهم ، فقال لهم : أنقص من ضوء الشمعة شيء ؟ كذلك عطاء الله لأهل الجنة لا ينفذ ولا ينقص . ومن عجائب الجنة أن فيها أنهاراً ، نهراً من لبن ، ونهراً من عسل ، ونهراً من خمر ، ونهراً من ماء ، وهذه الأنهار ليس لها شطوط ولا حواجز ، بل هي متداخلة ومع ذلك لا تختلط ، ويجب أن نؤمن بذلك ولا ننكره ، بل لا نعجب له لأن رسول الله أخبرنا " أن في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " فَلِمَ العجب إذن ؟ لذلك حين يصفها لنا الحق سبحانه يخبرنا أنه لا يصف لنا الجنة ذاتها ، إنما يعطينا مثالاً لها ، فيقول سبحانه : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ … } [ محمد : 15 ] . ثم إن الحق سبحانه حينما يعطينا هذا المثل للجنة ليقربها لأفهامنا لا بدَّ أنْ ينقي هذا المثل من شوائبه عندنا في الدنيا ، تأمل : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] . فماء الجنة غير آسِن لا يتغير كماء الدنيا ، ولبن الجنة لا يتغير طعمه كما يتغير لبن الدنيا ، وخمر الآخرة لذة ولا يذهب بالعقل ، أما خمر الدنيا فكَرِية ويذهب بالعقل ، وعسل الآخرة مُصفّى من الشوائب على خلاف عسل الدنيا . ثم يقول مؤمن آل فرعون ، فيما يذكره لنا الحق سبحانه في قرآنه : { وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ … } .