Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 62-63)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ذَٰلِكُمُ } [ غافر : 62 ] إشارة إليه سبحانه . أي : الذي فعل لكم كذا وكذا ، وتفضَّل عليكم هو الله ربكم { خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ غافر : 62 ] وهذه مسألة لم ينكرها أحد ، ولم يدَّعها أحدٌ لنفسه { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [ غافر : 62 ] هكذا حكم بها الحق سبحانه لنفسه بأنه لا إله إلا هو . إذن : فأنت تؤمن بالله ، والله سبحانه آمن بذاته ، وشهد لنفسه بهذا ، شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو قبل أنْ يشهد بها أحد ، لذلك يطلق سبحانه كلمة كُنْ ، ويعلم أنها نافذة لأنها كلمته وليس لها معارض ، وليس هناك إله آخر يردّها أو يُعدِّلها أو يعترض عليها . قال تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] قالوا : شهد الله لنفسه سبحانه شهادةَ الذات للذات ، وشهدت الملائكة شهادةَ المشهد ، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال . والحق سبحانه ساعة يقول { خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ غافر : 62 ] يطلقها هكذا قضية عامة على إطلاقها ، نقول : إما أنْ تكون قضية صادقة أو غير ذلك - وحاشا لله - فإنْ كانت صادقة فقد ثبتت الحجة ، وإنْ كانت غير ذلك فأين خالق كل شيء ؟ أين خالق هذا الكون إذا لم يكُنْ الله هو خالقه ؟ مَنْ هو ؟ ولماذا سكت ولم يخبر عن نفسه ؟ إنْ كان لا يدري بوجود الله فهو إله نائم غافل لا يصلح للألوهية ، وإنْ كان يدري بوجود الله الذي أخبر هذا الخبر ولم يعارضه فهو عاجز ، والإله لا يكون أبداً عاجزاً . لذلك قال سبحانهُ مؤكِّداً على صحة هذه القضية : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] يعني : لذهبوا إلى الإله الحق ليناقشوه كيف أخذ منهم الخَلْق ؟ وكيف ادعاه لنفسه ؟ وهذا لم يحدث . وقوله : { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [ غافر : 62 ] أي : تُصرفون عن الحق الذي يقول به العقل وتثبته الحجج والبراهين والواقع ، فالحق في هذه القضية واضح ، وقد أطلقت هذه القضية وأخبرت بها ولم يَقُمْ لها معارض ، ولم يدَّعها أحدٌ لنفسه ، ومعلوم أن القضية تثبت لصاحبها ما دام ليس لها معارضٌ . وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة وقلنا : هَبْ أن جماعة جلسوا في مكان ، ولما انصرفوا وجد صاحب المكان محفظة نقود فقال لخادمه : ابحث عن صاحب هذه المحفظة ، فأخذ الخادم يتصل بهم واحداً واحداً فلم يقُلْ أحد منهم أنها لي ، ثم طرق البابَ واحدٌ منهم . وقال : والله لقد نسيتُ محفظتي هنا ، فلمن تكون إذن ؟ تكون لمن ادَّعاها إلى أنْ يظهر مُدَّعٍ آخر . وقوله : { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ غافر : 63 ] أي : يُصرفون عن هذا الحق الواضح البيِّن ، ومعنى يجحدون الآيات . أي : ينكرونها كِبراً واستعلاءً ، فهم لا يجحدونها ولا ينكرونها لدليل عندهم ولا لمنطق يعتمدون عليه ، إنما يجحدونها لأنها آياتُ الله وهم لا يريدون الله ، ولا يريدون منهج الله . إنهم يخافون هذا المنهج الذي يؤدّب حركتهم في الحياة ويُقيد شهواتهم ، إنهم يريدون أنْ ينطلقوا في الحياة بشراسة القوة والبطش بالناس وبشراسة الشهوات التي لا ضابط لها ، فجحود الآيات هو سبب الانصراف عن الحق ، فكأنه أمر غير طبيعي منهم . لذلك رأينا كفار قريش تكبروا عن قبول الحق وعاندوا رسول الله ، ولم ينطقوا أبداً بلا إله إلا الله ولو مجرد النطق بها ككلمة ، لماذا ؟ لأنهم يعرفون معناها تماماً ويعلمون مطلوباتها ، ولو كانوا يعلمون أنها مجرد كلمة تُقال لَقالوها ، لكنهم وهم العرب أصحاب هذه اللغة يعرفون أن معنى لا إله إلا الله : لا معبود إلا لله ، ولا سيادة ولا رَأْيَ إلا لله ، ولا حكم ولا خضوع إلا لله ، وكيف يقبلون بذلك وهم قد ألفوا السيادة على قبائل العرب ؟ وكلمة { يُؤْفَكُ } [ غافر : 63 ] من الإفك ، وهو الكذب وقَلْب الحقائق ، والكذب أنْ تقول قضية مخالفة للواقع فكأنك تقلب الحقيقة لذلك قال تعالى : { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } [ النجم : 53 ] المؤتفكة : هي القرى التي قَلَبها الله رأساً على عقب ، كذلك الكذب يقلب الحقائق ، فينكر الموجود ويثبت غير الموجود . وقوله تعالى : { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [ غافر : 62 ] أي : تُصرفون عن الحق الواضح كأن هذا أمر فطري ، فبالفطرة يصل الإنسان إلى الله ، وما كان ينبغي أنْ يقف الإنسان أمام هذه القضية لأنها واضحة وعليها دليل ، وكل تعاليم العقائد كذلك أمور فطرية أولاً ، إنما ضَبَّب هذه الفطرة هوى النفس والغفلة وأغيار الزمن . فما جاء به الدليل والعقيدة أمور يصل إليها العقل بالفطرة والطبيعة الصافية ، بدليل أن الناس الذين لم يؤمنوا برسول فكَّروا في هذه المسائل ، وتوصَّلوا إلى وجود الخالق سبحانه لما تأملوا آياته في كونه . لذلك تجد مثلاً الفلاسفة الذين كانوا لا يحبون كلمة رسول ويقولون : نحن مهتدون بطبيعتنا ولسنا في حاجة إلى رسل ، قالها سقراط ، لذلك ناقشه فيها تلميذه أرسطودين وعرض عليه من المسائل والآيات كما يعرض الدين تماماً . قال له : انظر إلى نفسك وإلى تكوينك في ذاتك ، وتأمل ما فيك من جوارح ، لا أقول لك : انظر إلى الآيات الكونية من حولك بل إلى نفسك وجوارحك في ذاتك ، أليس لك حواس ؟ قال : بلى ، قال : اذكرها . قال : لي عين تبصر ، وأذن تسمع ، ولسان يتكلم ، ويد تلمس … إلخ . قال : فلماذا خُلِق لك عينان وأذنان ولسان واحد ، أليس وراء ذلك حكمة ؟ تأمل هذه الحواس وتأمل الحكمة من خَلْقها على هذه الصورة ، خلق لك عينين لاستيعاب المرئيات من هنا ومن هنا ، وأذنين لاستيعاب المسموعات من هنا ومن هنا . أما اللسان فيكفي في القيام بمهمته لسان واحد به تتكلم وتعبِّر ، وبه تتذوق المطعومات ، اللسان على صِغَر حجمه تتذوَّق به الحار والبارد ، والحلو والمر ، ثم إذا التذَّ به ابتلعه ، وإذا لم يلتذ به يلفظه وكأنه كنترول على كل ما تتناوله ، ثم إن التذوق يحفزك على الأكل ويُرغِّبك فيه ، لأن به استبقاءَ الحياة والقوة التي نُحقِّق بها مطلوب الله منَّا . ثم ألا ترى حكمة في قُرْب مدخل الطعام من الأنف الذي يشمُّ ، والعين التي تبصر ؟ لقد خلقه الله على هذه الصورة البديعة لتتمكن من رؤيته ، ومن شَمِّ رائحته قبل أنْ تتناوله ، أما مخارج الطعام فأين هي ؟ بعيدة عن العين ، بعيدة عن الأنف ، حتى لا تؤذيك الفضلات . نعم { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] . ثم تأمل العين الواحدة تجد لها جَفْناً ينقبض ، وينفتح حسب إرادتك ، وفوق العين حاجبٌ يمنع تساقط العرق داخل العين وتحت أهداب ورموش تدفع عن العين ما يؤذيها من الغبار والأتربة ، فإذا نفذ إلى العين شيء بعد ذلك ، جاءت الدموع لتمسح العين وتُطهِّرها كما تفعل المسَّاحة التي تمسح زجاج السيارة . والأنف الذي نشم به الروائح الطيبة في الطبيعة وبه نميز الأشياء ، والآن نستخدمه ونُوظف حاسة الشم عند الكلب مثلاً للكشف عن الجرائم والمجرمين . هذا كله كلام نظري يقوله بالفطرة إنسانٌ صَفَتْ نفسُه ، وسلمت فطرته ، فتوصَّل إلى الحق بقليل من التأمل . إذن : فقوله تعالى { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [ غافر : 62 ] تحمل معنى التعجب من الانصراف عن الحق ، لأنه أمر لا ينبغي أن يكون وما كان يصح من أصحاب العقول أن ينصرفوا عن الحق وهو واضح . لذلك قال تعالى في سورة البقرة : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ … } [ البقرة : 28 ] هذا استفهام تعجبيّ إنكاريّ ، يعني : قولوا لنا كيف يتأتى منكم الكفر مع وجود هذه الآيات الواضحات الدالة على قدرة الله تعالى ؟