Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 67-67)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق سبحانه يعود بنا مرة أخرى إلى مسألة الخلق الأول { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ … } [ غافر : 67 ] معلوم أن لنا خَلْقين : خلقاً من تراب لما خلق الله آدم وحواء ، وخلقاً من النسل الذي تناسل منهما . لاحظ أن الله تعالى قال { مِّن تُرَابٍ … } [ غافر : 67 ] وقال { مِّن طِينٍ … } [ الأنعام : 2 ] و { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] وقال { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } [ الرحمن : 14 ] ، وهذه كلها مراحل للشيء الواحد ، فالتراب حين نضع عليه الماء يصير طيناً ، فإذا تركناه فترة تعطّن وتغيَّرتْ رائحته ، وهذا هو الحمأ المسنون ، فإذا تركناه يجف يصير صلصالاً . وقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ … } [ غافر : 67 ] لا يعني آباءنا آدم وحده ، إنما كلنا من تراب حتى مَنْ خُلِقوا بالزواج والتناسل ، لماذا ؟ لأن الميكروب الذي ستنشأ منه جرثومة الرجل وبويضة المرأة إنما تأتي مما نأكله من طعام ، والطعام يُؤخذ إما من نبات أو حيوان ، والنبات والحيوان منشؤهما تراب الأرض . ولذلك رأينا في عملية التحليل الكيماوي لعناصر الإنسان أنها هي نفسها عناصر التراب ، وهي العناصر الستة عشر المعروفة ، فكَوْنُ الإنسان خُلِق من طين لها دليلٌ مادي معلوم لنا الآن ، إذن : كلنا من تراب ، وإنْ جئنا من زوجين ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " كلكم لآدم ، وآدم من تراب " . لذلك الحق سبحانه لما تكلم عن الخَلْق قال : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ … } [ الكهف : 51 ] لأن خَلْق السماوات والأرض سابقٌ على خَلْق الإنسان ، والإنسان طارئ عليهما ، ولما خُلِق آدم لم يكُنْ له تمييز ليعرف كيف خُلق . ثم يأتي سبحانه بكلام يدل على الإعجاز وإفحام المعاندين ، فيقول : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . يعني : ما أخذت منهم مساعدين لي ، ولا معينين لي في عملية الخلق ، والمضلون هم الذين يُضللون الناس ، ويقدمون لهم الباطل في ثوب الحق ، ويُراد بالمضلين المضلين في مسألة الخلق كمَنْ يقول لنا الآن : إن الإنسان في أصل خَلْقه الأول كان قرداً وتطور كما قال داروين . لكن الحق سبحانه يقطع عليهم طريق الضلال ، ويقول لهم : أنتم ما شهدتم الخَلْق لتخبروا الناس به ، وأنا الخالق وحدي ولم يكُنْ معي أحدٌ غيري خبر بما حدث ، فإذا أردتُم أنْ تعرفوا كيفية الخلق فاسمعوا مني أخبركم به ، وقد أخبرنا الله به في آيات كثيرة في كتابه . فإنْ قلت : هذا كلام أخبر الله به ولم نشهده ، نقول : تأمل واقع الحياة فإنه يدلّ على صدق الله فيما قال ، فأنت لم تَرَ الخَلْق لكن رأيتَ نقيضه وهو الموت ، ونَقْض الشيء يأتي على عكس بنائه ، فحين تبني مثلاً بيتاً من أربعة أدوار تبدأ بالأول ، فإنْ أردتَ أنْ تهدم تهدم الرابع . كذلك الموت ، يبدأ بخروج الروح وهي آخر شيء في خَلْق الإنسان بعد خروج الروح يتصلَّب الجسد ، ثم يرمّ ويتغيَّر مثل الجيفة ، ثم يتبخَّر منه الماء الموجود فيه ، ثم يتحلل الباقي إلى تراب ، فجاء الموت ليصدق ما غاب عنك في بداية الخَلْق . قوله : { مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً … } [ غافر : 67 ] هذه مراحل في الخَلْق ، { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً … } [ غافر : 67 ] قالوا : هو طفل طالما هو في مراحل النمو ، فإذا استوى وأخذ شكله النهائي واستقر على صورة كاملة فقد وصل إلى مرحلة البلوغ التي يستكمل فيها كلَّ أجهزة الوجود ، لأن بالبلوغ أصبح قادراً على إنجاب مثله . يقول تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ النور : 59 ] فالطفولة هي مرحلة النمو ومرحلة البلوغ هي الأشد { ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ … } [ غافر : 67 ] أي : قوتكم { ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً … } [ غافر : 67 ] أي : تنحدرون مرة أخرى من القوة إلى الضعف وإلى الشيخوخة ، وهي مرحلة ضعف وهُزَال في الجسم . فإذا انتهتْ مرحلة النمو والزيادة بدأتْ مرحلةُ الضعف والهزال ، في مرحلة النمو تجد أن ما يدخل له من الغذاء أكثرُ مما يخرج منه من الفضلات لذلك يزيد ، أما في مرحلة الشيخوخة فتكون الفضلاتُ أكثر ، فيحدث له النقص والهزال ، وتأخذ قوته في الانحدار وعضلاته في الضمور ، إلى أنْ يصلَ إلى المخزن الأخير في الجسم وهو العظام ، فتحدث فيها هشاشة وتتكسَّر لما يُمتص منها . لذلك قال سيدنا زكريا : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً … } [ مريم : 4 ] فذكر آخر مراحل الشيخوخة وهي من وَهَن العظام . هذا في الناحية الجسمية المادية ، أما في الذاكرة والأشياء المعنوية فيعتريه النسيانُ ، كما قال سبحانه : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً … } [ الحج : 5 ] فيصل به النسيانُ كأنه لم يعلم شيئاً في حياته ، ثم نراه يحبو ويُحمل كما يُحمل الأطفال : { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } [ يس : 68 ] . وقوله : { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ … } [ غافر : 67 ] يعني : منكم مَنْ يعاجله الموت فلا يصل إلى هذه المراحل ، ربما يموت الإنسانُ في بطن أمه أو بعد ولادته أو في طفولته { وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى … } [ غافر : 67 ] . فالأجل مختلف ومكتوب عند الله ، منا مَنْ عمره لحظة ، ومَنْ عمره دقائق ، ومَنْ عمره ساعات ، ومَنْ عمره أيام أو شهور ، ومن الْخَلْق مَنْ لا يصل إلى تمام مراحل الخلق ، فيُؤخذ وهو علقة أو مضغة ولا يستكمل الخلق . وقوله : { وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } [ غافر : 67 ] يعني : افهم أن الله حين يعطيك الأشدَّ ، وتصل إلى مرحلة القوة أنها ليستْ ذاتية فيك ، إنما هي موهوبة لك وكلُّ نعمة عندك موهوبة ليست ذاتية ، ويمكن أنْ تُسلبَ منك في أيِّ لحظة ، وما دمت قد عرفتَ أنها موهوبة وقد تُسلبَ منك أيِّ وقت ، فالزم أدبك مع مَنْ وهبك هذه النِّعم .