Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 66-66)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قل الخطاب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } [ غافر : 66 ] يعني : المسألة ليستْ من عندي ، إنما هي نَهْي من الله جاءني في آيات بينات واضحات { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [ غافر : 66 ] أي : أُسْلم قيادي وأمري لرب العالمين سبحانه . نعم ، لأن الإنسان منا حتى في دنيا الناس حينما يكون لا يحسن شيئاً ولا تسعفه أسبابه يلجأ إلى مَنْ يقضي له حاجته ويقدر عليها ، كما نذهب مثلاً للمحامي في رَفْع قضية أو نذهب للطبيب للتداوي … إلخ لأنك لا تستطيع أنْ تدافع عن نفسك أمام القاضي ، ولا تستطيع أن تداوي مرضك ، فإذا ما ذهبتَ إلى واحد من هؤلاء فلا شكَّ أنك تسلم له زمام أمرك ، وتَفوِّضه أنْ يفعل ما يراه صالحاً دون أنْ تناقشه أو تعترض عليه . إذن : معنى { أُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [ غافر : 66 ] يعني : إسلام الزمام من عاجز عن شيء لقادر على هذا الشيء ، فإذا أمرك ربك أمراً فخذ الأمر من منطلق إيمانك به ، كيف ؟ قال : مثل حالي مع الطبيب حين يصف لي الدواء المناسب لحالتي لا أناقشه فيه ، ولا أقول له : لم كتبت كذا وتركت كذا ؟ حتى حين أسأل عن الدواء أقول : والله كتبهُ لي الطبيب ، وألقى التبعة والمسئولية عليه . فإذا كنت تُسلم أمرك وزمامك للطبيب وهو بشرٌ مثلك يخطئ ويُصيب لأنك رأيت له حكمة فوق حكمتك وعلماً ليس عندك ، كيف تفعل هذا معه ولا تفعله مع الله عز وجل ، وهو العليم الحكيم القادر ؟ إذن : ما أمرك به ربُّكَ فامتثل للأمر ونفِّذ دون نقاش أو اعتراض أو تبرُّم بما قضى عليك به . والحق سبحانه يعلمنا درس التسليم له سبحانه في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وكيف أنه أسلم وجهه ، وألقى زمام أمره لربه تعالى ، حينما أمره بذبح ولده إسماعيل الذي لم يُرزق به إلا على كبر وبعد يأس ، لذلك قال : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ … } [ إبراهيم : 39 ] . أراد المفسرون تقريب هذا المعنى ، فقالوا : المراد الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر ، فجعلوا على بمعنى مع ، وفرْقٌ بين كلمة من حرفين ، وكلمة من ثلاثة أحرف ، ولا يعدل القرآن الكريم عن الحرفين ويختار الثلاثة إلا لملحظ يحتاجه المعنى ، فما هو ؟ قالوا : معنى مع الكبر أي : مظنة ألاَّ ينجب ، لكن مراد الله تعالى فوق هذه المظنة ، يعني : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ … } [ إبراهيم : 39 ] لا مع الكبر . كذلك في قصة سيدنا زكريا عليه السلام قال : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ } [ مريم : 8 - 9 ] . إذن : فمعنى { عَلَى ٱلْكِبَرِ } [ إبراهيم : 39 ] أن الكبر كان يقتضي عدم الإنجاب لكن مراد الله أعلى من الكبر وفوقه . ونفهم هذا المعنى أيضاً من قوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] البعض قال : يعني مع ظلمهم ، وهذا لا يصح بل على ظلمهم كما أرادها الحق سبحانه ، لأن الظلم يقتضي العقاب ، لكن تأتي مغفرة الله وتعلو على الظلم ، وعلى قانون مجازاة الظالم بظلمه . وقوله : { نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ غافر : 66 ] نهي لأنه مُحبّ له ، فقال له : وجَّه عبادتك لمن يقدر أنْ يفعل لك ، وهذا النصح لا يكون إلا من مُحب كما تنصح صاحبك وتدلّه على الخير ، ولولا حبك إياه ما نصحته . وقوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [ غافر : 66 ] أسلم قيادي وزمام حركتي في الحياة لربي أفعل ما أمر بفعله ، وأنتهي عما نهاني عنه ، أمر سكت عنه ولم يقل لي فيه : افعل ولا تفعل فأدخله في مقام المباح ، ولو كان أمراً النفس العادية تنفر منه . وحتى إنْ حكم عليك حكماً ترى فيه مشقة ظاهرية على نفسك فاعلم أنه يريد لك الخير من حيث لا تدري ، كما قلنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام . وتعلمون أن سيدنا إبراهيم ابتلاه ربه بأمور كثيرة كلها مشقة : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] ولما أتمهن { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] في شبابه ابتُلِي بالإحراق ، ولما كبر سنه ابتُلي بذبح ولده ، وهو في حال ابنه أعزّ عليه من نفسه ، لأن الإنسان حين يتقدم به سِنُّه ويقبل على الآخرة والنهاية يودّ أنْ يكون له امتداد في ولده من بعده . فابتُلِي إذن في أول حياته في ذاته بالإحراق ، ثم ابتُلي عند وجود الولد وبعد كِبَر السنِّ بقتل الولد . والابتلاء هنا ابتلاء مبالغة ، فلو أنه سيموت موتاً طبيعياً لكان ابتلاءً ، فما بالك حين يقول له : اذبحه بيديك ، عندها يكون الابتلاء أشدّ ، وهذا الابتلاء لم يأتِ بأمر مباشر ، إنما برؤيا منامية قابلة للتأويل ، ومع ذلك أذعن إبراهيمُ لمجرد الرؤيا لأنه يعلم أنها من الله . لكن كيف أقبل سيدنا إبراهيم على تنفيذ هذا الأمر ؟ أأخذ ولده على غِرَّة ؟ لا بل أحب أنْ يُدخِله معه في مجال الابتلاء ، وألاَّ يحرمه ثواب التسليم معه لله ، فقال له : { يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } [ الصافات : 102 ] . وقوله : { فِي ٱلْمَنَامِ } [ الصافات : 102 ] أراد أنْ يعطيه فرصة لأنْ يقول : كيف تذبحني يا أبي برؤيا منام ، فيكون له مجال لأنْ يعترض لكنه لم يفعل { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [ الصافات : 102 ] . وتصوَّر لو أن سيدنا إبراهيم أخذ ولده دون أنْ يخبره بشيء وألقاه على الأرض وأمسك بالسكين ليذبحه ، ماذا سيكون شعور الولد نحو والده ؟ سيكرهه ويكره فعله ويغضب عليه ، وفي هذه الحالة لا نصيبَ له في ثواب هذا الابتلاء . وتأمل قول إسماعيل في الرد على أبيه : { يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [ الصافات : 102 ] فيُذكِّره بالآمر يعني : يا أبت افعل ما دام الأمر من أعلى منك ، وسبق أن قلنا : إن الفعل في ذاته ينبغي ألاَّ يترتب عليه فرحٌ به ولا غضبٌ منه إلى أنْ تعرف الفاعل ، فإذا عرفتَ أن ربك هو الآمر ، فقد انتهت المسألة وليس إلا التسليم للأمر . وهكذا رأينا التسليم منهما معاً ، لذلك قال : { فَلَمَّا أَسْلَمَا } [ الصافات : 103 ] هكذا بصيغة المثنى { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] يعني : بدأ التنفيذ والانقياد بشكل عملي قال له ربه : ارفع يدك فقد نجحتَ في الامتحان { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 104 - 107 ] . هكذا رفع البلاء ولا يُرفع قضاء حتى يُرْضَى به ، رفع عن إسماعيل القتل ونزل له الفداء وعوَّضه ربه عن الفزع الذي أصابه ، فبشّره بغلام آخر { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] يعني : كنا نريد أَخْذ إسماعيل ، فلما رضيتَ بقضائنا فيه زدناه بآخر ، ثم جعلناهما من الأنبياء ومن ذريتهما الأنبياء ، فتأمل ماذا جَرَّ لك التسليمُ بالقضاء والرضا به ؟ إذن : أنت في التسليم لله لا تأخذ الفعل لذاته ، إنما بضميمة صاحبه ، الآمر به .