Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 1-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلنا : حم من الحروف المقطعة ، وقد حام العلماء حول معاني هذه الحروف وهذه المحاولات إرضاءً لشهوة البحث في العقل ، ولكن الإيمان غير ذلك ، فالإيمان يأخذ القضية مُسلَّمة ، وما دام الله قد قالها فقد انتهت المسألة . ولذلك سيدنا أبو بكر الصديق ساعةَ قالوا له : إن صاحبك يدَّعي أنه فعل كذا وكذا قال : أَو قَاله رسول الله ؟ قالوا : نعم ، قال : فقد صدق يعني : هذه مسألة فوق البحث ، ولا مجالَ لإعمال العقل فيها لأن لها رصيداً من الصدق يجعلها فوق البحث . ولقد ذكرنا سابقاً خلاصة القول في هذه الحروف ، وهذه الحروف هي التي يذكر الله فيها اسم الحرف ، لأن كلَّ حرف له اسم وله مُسمَّى ، فالألف مثلاً اسمه الألف ومُسمَّاه أَ - أُ - إِ . الاسم لا يَنطق به إلا المتعلم ، فالأمي لا يَعْرف الباء والتاء والثاء ، لكنه ينطق بها حين يتكلم . إذن : ينطق الأُميّ مُسمَّى الحرف ، ولا يعرف اسمه بدليل أننا حينما نُعلِّم الأولاد نقول لهم : تهجّ هذه الكلمة ، فيقول : ك ت ب . أما الأمي فينطقها كتب دون أنْ يعرفَ حروفها ولا هجاءها . اتفقنا على هذه المسألة . اذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمياً ، فما الذي أفهمه أن ح اسمها حاء ، و م اسمها ميم ، بدليل أنك تقرأ في أول سورة البقرة الم ألف لام ميم . أما في أول الشرح فتقول { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] فلماذا قرأتها في البقرة هكذا ، وفي الشرح هكذا ؟ أنت قرأت في البقرة اسم الحرف ، أما في الشرح فقرأتَ مُسمَّى الحرف ، وهذه لا يفرق بينها إلا متعلم ، فمَنْ علَّم محمداً هذه المسألة ، والحروف هي نفس الحروف بنفس الترتيب ؟ شيء آخر : أن الحروف المقطعة في القرآن أخذت نصف حروف الهجاء ، حروف الهجاء معروف أنها ثمانية وعشرون حرفاً ، أخذتْ منها الحروفُ المقطعة أربعة عشر حرفاً موزَّعة توزيعاً عجيباً ، وما زال العلماء حائرين في فهم معانيها . ففي الحروف التسعة الأولى لم يذكر منها إلا حرفين : الألف والحاء . وفي الحروف التسعة الأخيرة جاء منها سبعة فقط ، ولم يأتِ حرفان على عكس الأولى ، أما العشرة في الوسط فقد أخذ منها غير المنقوط وترك المنقوط ، فأخذ السين وترك الشين ، وأخذ الصاد وترك الضاد ، وأخذ الطاء وترك الظاء ، وأخذ العين وترك الغين ، إذن : هي مسألة مدروسة ليست رتابة ، إنما هي بنظام وحكمة مثل أسنان المفتاح ، فهي دقة مقصودة . ثم ترى أنه سبحانه مرة يأتي في أول السورة بحرف واحد مثل : ص ، ق . ومرة حرفين مثل : حم ، ومرة ثلاثة مثل : الم ، ومرة أربعة مثل : المر ، وخمسة مثل حمعسق ، كهيعص . إذن : المسألة حكمة مقصودة ليستْ هكذا دون نظام ، لها مقصد ، مقصد يضع الله فيه حَدَّ الخلاف بين الحروف وباقي الكلام ، كيف ؟ قالوا : الحروف المقطعة تنطقها أسماء ، ولا بدَّ أنْ تقف فيها فلا تقول مثلاً : ألفٌ لامٌ ميمٌ هكذا بالوصل . إنما تقول : ألف وتسكت . لام وتسكت . ميم وتسكت ، مع أن القرآن كله في مُجْمله مَبنيٌّ على الوصل لا على الوقف ، تقول في سورة الرحمن : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] هكذا بالكسر ليتم الوصل بما بعدها { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] . حتى آخر كلمة في القرآن في سورة الناس تقول : { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [ الناس : 6 ] لتبدأ بعدها وتُوصلها بـ { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 1 - 2 ] . أما الحروف المقطَّعة فجاءت مبنية على الوقف ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا أقول الم حرف . ولكن ألف حرف ولام حرف ، وميم حرف " . إذن : في الحروف المقطَّعة مقاصد وحِكَم ما يزال العلماء يحاولون التوصل إلى شيء منها ، كلٌّ حسب ما فتح الله عليه منها ، أما هي فكنز باقٍ لا ينفد يعطينا منه الحق سبحانه على قدرنا . يقولون : القرآن جاء معجزةً أسلوبية بلاغية ، وأمة العرب مشهورة بالفصاحة والبلاغة ، ومع ذلك ما استطاعوا محاكاة القرآن ولا الإتيان بمثله ، مع أن الله جاء به بلغتهم وبنفس حروفهم وتعبيراتهم ، وتحدَّاهم بهذا كله ، فلم يستطيعوا الإتيان ولو بآية واحدة من مثله . وكأن الله يقول لهم : معكم نفس الحروف ونفس الكلمات ، فلماذا لم تنسجوا منها مثل نسجي ؟ إذن : وجه الإعجاز هنا أنه سبحانه وتعالى هو المتكلم بالقرآن ، هو الذي صاغه وتكلم به . وأيضاً ، والمعنى الذي يجب أنْ يسودَ في هذا كله ، أن الحق سبحانه أنزل لنا عقائد وأحكاماً صدرتْ ممن اعتقدته وآمنتَ به ، وقرآن يدل على ذلك ، هذه ثلاثة : العقائد وهي الإيمان بالوجود الأعلى وواجب الوجود ، وأن له صفات الكمال المطلقة : الأول والآخر والظاهر والباطن … إلخ لأن هذه يُقام عليها دليل عقلي . فهذا الكون البديع المحكم لا بدَّ له من خالق قادر حكيم عليم … إلخ … فالعقل يؤيد هذه العقيدة ويثبتها ، لكن ليست هذه كل العقائد ، بل هناك سمعيات لا يقوم عليها دليل عقلي لأنها غيبيات كما نقول مثلاً : في الجنة كذا وكذا ، وصفتها كذا وكذا . ومثلها كذلك عذاب القبر ، هذه غيبيات ، نعم لا يقوم عليها دليل من العقل ، إنما هي محمية فيما له دليل عقلي ، فما دُمتَ قد آمنتَ بهذا الإله ، ودلَّكَ العقل عليه ، فخذ ما أخبرك به دون أنْ تناقشها ، فقط تقف عند سماعها . كذلك الأحكام مثل الصلاة ، وأنها إدامة الولاء لله تعالى ، والزكاة للاستطراق المالي والاقتصادي في المجتمع ، كذلك الحج لبيت الله الحرام . وهكذا . فالأحكام أيضاً فيها جانب عقلي وجانب سمعي ، فالصلاة كعبادة لله ودليل ولاء للمعبود سبحانه هذا أمر عقليٌّ ، أما كيفيتها وعدد ركعاتها فهذا أمر سمعي نأخذه كما هو ولا نناقشه ، كذلك كل العبادات . والأحكام فيها أمر عقلي يُفهم ، وأمر سمعي يُؤخذ مُسلَّماً به ، فإنْ قلت : كيف نقف عند أمور في الدين لا تُناقش . نقول : نعم لأن هذا الوقوف في أمور الغيبيات هو دليلُ إيمانك بالله ، لأن الأمور العقلية يستوي فيها كل الناس . قلنا : لو عندك مبلغ تخاف عليه السرقة مثلاً ، ووضعتَه تحت حجر في الحديقة ، وجاء آخر الشهر وأردتَ مثلاً أن تعطي خادمك راتبه من هذا المال . تقول له : يا فلان ارفع هذا الحجر وهاتِ ما تحته ، فيقول لك : لا أقدر على رفعه وحدي ، وسأنتظر فلاناً يرفعه معي ، تقول له : اعلم أن تحته الكيس الذي به النقود التي ستأخذ منها راتبك ، عندها يذهب ويرفع الحجر وحده . أما إنْ قلتَ لشخص آخر : ارفع هذا الحجر فرفعه دون علة . فهل يستوي في طاعتك هذا وهذا ؟ كذلك أمر العقائد ، فَرْق بين مَنْ يؤمن بالأمور العقلية الحسية ، ومَنْ يؤمن ويصدق حتى بالأمر الغيبي الذي تخبر به . كذلك الحال في العقائد وفي الأحكام وفي القرآن كُلٌّ فيه الأمر العقلي والأمر الغيبي ، وعليك أن تحمل الأمور الغيبية على الأمور العقلية . والقرآن الكريم - وهذا هو موضوعنا - فيه كلام عقلي يُفهم بالعقل ، وحروف لا يُفهم معناها إلا أن الله قالها ، ولذلك نقول فيها : والله أعلم بمراده . وقوله : { حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ فصلت : 1 - 2 ] أنا أقول أن حم هذه هي التي يقول الله عنها { تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ فصلت : 2 ] وما دامتْ تنزيلاً من الرحمن الرحيم ، فإياك أنْ تخوض فيها وتقول : ماذا تعني ، أو أنها مبهمة … إلخ لا بل قف عندها وخُذْها على أن لله فيها مراداً وهو أعلم به . واعلم أنه سبحانه يقول بعدها : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ … } [ فصلت : 3 ] ففي القرآن إذن الأمران : الأمر الغيبي الذي ينبغي الوقوف عنده مثل حم ، وهذه الغيبيات هي مجالُ اختبار الإيمان ، ثم يعطيك أيضاً الأمر العقلي المفهوم يُفصِّله لك تفصيلاً . كلمة { تَنزِيلٌ … } [ فصلت : 2 ] من نزول الشيء ، والنزول يكون من مكان عالٍ إلى مكان منخفض عنه ، أو من مكانة عليا إلى مكانة أدنى ، وهذه المادة جاءت كثيراً تدل على نزول القرآن والمنهج من أعلى ، وجاءت بكل الاشتقاقات : تنزيل ، نزل ، ننزل ، نزَّلناه ، أنزلنا { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ … } [ الإسراء : 105 ] وقال : { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } [ القدر : 4 ] . لذلك ساعة تسمع كلمة { تَنزِيلٌ … } [ فصلت : 2 ] تعلم أن الذي جاءك من أعلى منك منزلة حتى لو كانت مكانته عندك ، وتحت رجليك كما قال في الحديد : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ … } [ الحديد : 25 ] فالحديد معلوم أنه من الأرض من حيث نشأته وتكوينه ، لكنه مُنزَّل من أعلى من حيث خالقه وواهبه لك . إذن : فكل هذه الاشتقاقات من نزل تدل على علو الشيء المنزَّل ، ومُنزَّل مِنْ مَنْ ؟ { مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ فصلت : 2 ] فيجب أن تتلقى هذا المنزَّل إليك بالتسليم المطلق والقبول ، لذلك سيدنا أبو بكر لما قالوا له : إن صاحبك يدَّعي أنه أُسريَ به إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء لم يناقش هذه المسألة عقلياً . إنما قال لهم : إنْ كان قال فقد صدق . فجعل قَوْل الله هو الأساس ، فإنْ حدث منه القول فهو صادق ، لذلك منذ هذا اليوم لُقِّب بالصدِّيق . مع أن الإسراء آية أرضية وفيه جانب عقلي ، لأن المسافة معلومة لهم ، وكيفية السفر إلى بيت المقدس معلومة زماناً ومكاناً ، ومع ذلك لم يناقش فيها . أما المعراج فهو أمر غيبيٌّ ، فكأنه جعل تصديق محمد فيما يعلمون في الأرض وسيلة لتصديقه فيما لا يعلمونه في السماء . ونفهم أيضاً من قوله تعالى : { تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ فصلت : 2 ] أن التكليف الذي نزَّله الله لك لم يأتِ ليشقَّ عليك ، إنما هو من رحمن بك واسع الرحمة ، رحمته وَسِعَتْ كل شيء المؤمن والكافر . و الرحيم يعني : دائمَ الرحمة لأن رحمته تعالى تنسحب وتدوم حتى في الآخرة ، فإنْ رأيتَ في التنزيل تكليفاً تظنه يشق عليك ، فلا تفهم أنه من قاسٍ عليك ، إنما هو من رحمن رحيم . رحمن بك ، لأنه يدلُّك على ما يسعد دنياك ويسعد آخرتك ، بدليل أنه سبحانه حين يكلفنا بأمور قد تشقّ على النفس العادية لا يستفيد من هذا التكليف ، فسواء أن تكفر أو أن تؤمن ، تصلي أو لا تصلي ، لأنه سبحانه بصفة القدرة موجود ، وإنْ لم تؤمن به وإنْ لم تُصَلِّ . فعملك إذن لا علاقة له بالله من حيث النفع ، العملية لصالحك أنت كما تقول لولدك مثلاً : إذا نجحت هذا العام سأشتري لك كذا وكذا .