Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 3-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سماه { كِتَابٌ … } [ فصلت : 3 ] لأن الكتاب تعني الجمع . والكتيبة جمع الجنود ، فالكتاب تجمع الكلمات إلى بعضها ، والكتاب يعني : مجتمع فيه أشياء ، وفي القرآن اجتمع كل خير في الدنيا والآخرة ، وهو كتاب لأنه مكتوب ومُسجَّل تستطيع أن تقرأه . ولذلك لما أرادوا جمع القرآن وضع الجامعُ مبدأ ، وهو ألاَّ يكتب آية إلا إذا وجدها مكتوبة بالفعل على الرِّقاع أو العظام أو غيره ، مما كانوا يكتبون عليه ، ثم يشهد على صحتها اثنان من القراء ، فهو كتاب لأنه مكتوب في السطور ، وقرآن لأنه مقروء محفوظ في الصدور . الحق سبحانه وتعالى أراد بذلك كما قال الشيخ المرحوم محمد عبد الله دراز : أنْ تُذكِّر إحداهما الأخرى ، فالمكتوب من المقروء يتعاونان في تسجيل كتاب الله تسجيلاً دقيقاً لا يتطرق إليه الشك . والدليل على ذلك أن جامع القرآن وجد آية مكتوبة ، وطلب لها شاهدين فلم يجد إلا واحداً يشهد على صحتها فتوقف عن كتابتها ، وكان هذا الشاهد هو سيدنا حذيفة رضي الله عنه ، وجاء للكاتب مَنْ ذكَّره بحديث سيدنا رسول الله في شأن خزيمة حين قال : " من شهد له خزيمة فحَسْبه " فجعل شهادة خزيمة بشهادتين ، وأخذ عنه الآية وكتبها . ولها قصة : قالوا " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد استدان مالاً من يهودي ، وأدَّاه لَهُ دون شاهد بينهما ، ثم جاء اليهودي مرة أخرى يطالب رسول الله بالسداد فقال له رسول الله : لقد أديتك . قال : لا ، قال أدَّيْتُك ، قال : إذن ابغني شاهداً ، فقام أحدُ الصحابة وقال : أنا يا رسول الله شهدتُ ذلك ، عندها سكن اليهودي لأنه كاذب . وبعد نهاية الموقف استدعى رسول الله الصحابي وقال له : كيف شهدتَ بذلك ولم يكُنْ معنا أحد ؟ فقال له : يا رسول الله ، كيف أُصدقك في خبر السماء وأُكذِّبك في كذا درهم … نعم : نقول هنا نِعْمَ الاستنباط ، لذلك استحق هذه المكانة من رسول الله " من شهد له خزيمة فَحَسْبُه " . ومعنى { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ … } [ فصلت : 3 ] يقولون في الفعل فُصِّلت مبني للمجهول أو لما لم يُسَمَّ فاعله ، والمعنى هنا أن الله فصَّلها أولاً ففُصِّلت أي : صارتْ مُفصَّلة ، فلما بلَّغها رسول الله للناس أصبحت هي مُفصَّلة لأمورهم ولأحكامهم . ومعنى { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ … } [ فصلت : 3 ] لأن القرآن مُقسَّم ومُفصَّل إلى سور ، كل سورة قائمة بذاتها ، وداخل السُّور آيات ، كل آية بذاتها ، ففي السُّوَر الطويل والقصير ، كذلك في الآيات تجد كلمة واحدة آية ، وتجد آية من عدة أسطر ، كذلك فصَّل الكلمات من حيث مادتها ، كذلك فصَّل الحلال والحرام ، وفصَّل الطاعة والمعصية ، ألم يفصل بين الوعد والوعيد ، بين الثواب والعقاب . لقد فَصَل القرآن بين كل هذه المسائل ، أو فُصلت فيه كل آيات الكون إلى قيام الساعة ، لذلك قالوا : " خطبنا رسول الله خطبة بليغة ، ما ترك فيها شيئاً ، وما ترك من ورقة تسقط إلا حدَّثنا عنها إلى أنْ تقوم الساعة ، حفظها مَنْ حفظها ونسيها مَنْ نسيها " . نعم كما قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ … } [ الأنعام : 38 ] يعني : أن الأمور التي تحدث في الكون موجودة عندكم في هذا الكتاب . ولذلك لما سُئلنا في إحدى رحلاتنا إلى أوربا من أحد المستشرقين قال : عندكم في القرآن : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ … } [ الصف : 9 ] . وفيه : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [ الصف : 8 ] . ومع ذلك وبعد مرور أربعة عشر قرناً على ظهور الإسلام ، ما يزال اليهود والنصارى والملاحدة والمشركون موجودين ، ولم يظهر عليهم الإسلام ، فكان الرد الذي وفقنا الله إليه أن الإسلام ظهر بالفعل عليهم رغم وجودهم ، والمراد بالظهور هنا ظهور الحجة ، فالإسلام ظهر على هؤلاء بالحجة من أعدائهم . وفرْق بين أن تظهر الحجة من مُعتقده ، وبين أن تظهر الحجة من معاند ، كيف ؟ قالوا : ستظهر في الكون أقضية من صُنْع البشر لا يجدون لها حلاً ، إلا أن يرجعوا إلى حكم القرآن . إذن : ظهر القرآن عليهم وعلى أفكارهم وعلى أحكامهم وعلى حضارتهم ، وإلا لما رجعوا إليه . ومثَّلنا لذلك بقضية الطلاق في الإسلام ، وهي من أهم القضايا التي عارضوها وانتقدوها ، وبعد ذلك اضطرَّ الفاتيكان نفسه إلى إباحة الطلاق عندهم ، وهذا هو ظهور الإسلام ، لا بأنْ يكونوا مسلمين ، إنما بأنْ تظهر حجته ويشهد له منهم مَنْ لم يؤمن به . وقوله : { قُرْآناً عَرَبِيّاً … } [ فصلت : 3 ] أي : بلسان عربي وفي أمة عربية ، لكن كيف ذلك وهو رسالة عالمية لكل البشر ولكل اللغات ؟ ولماذا لم ينزل بكل اللغات ؟ قالوا : إذن لم يكُنْ هناك لغة اسبرانتو فالقرآن نزل على محمد في بيئته العربية ، لأن الله تعالى يريد أن يظهر هذا الدين في أمة أمية ، وعلى لسان رسول أميٍّ حتى لا يقول أحد : إن القرآن وثبة حضارية . فالعرب كانوا أمة لا دولةَ لها تحكمها ولا نظام ولا قانون ، كانوا مجموعة من القبائل كل قبيلة لها قانونها ، كل واحد منهم شوكته من ظهره ومع ذلك تأتي مثل هذه الأمة وتوحد العالم كله بما فيه من دول متحضرة من فارس في الشرق إلى الروم في الغرب . فمن أين أتت هذه الأمة بذلك ؟ كان عليهم أنْ يفهموا أنه قانونُ السماء جاء من أعلى ، وإلا ما كان العرب ليقوموا بهذا الدور لولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم . إذن : لا مجالَ لأنْ نقول عن الإسلام إنه وثبة حضارية ، لذلك لما أراد الحق سبحانه إعلاءَ دينه جعل محمداً صلى الله عليه وسلم يجهر بهذا الدين في مكة ، لماذا مكة بالذات ؟ لأن فيها قريشاً وهي موضع السيادة في الجزيرة كلها ، وفيها الصناديد الذين لا يجرؤ أحد على مواجهتهم . فبين هؤلاء صاح محمد بالإسلام وجهر به ، ومع ذلك لم ينصر الدين هؤلاء السادة ، إنما نصره المستضعفون والعبيد في المدينة ، وقلنا : إن لهذه المسألة حكمة ، هي ألاَّ يظهر أحد أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان بمحمد ، ولكن الإيمان بمحمد هو الذي أوجد العصبية لمحمد . فالقرآن عربي لأنهم أمة الدعوة الذين سيحملون لواءها ويسيحون بها في أنحاء العالم كله ، فالعرب أمة تقوم على الترحال ليس لهم بيوت ، ولا يسكنون الفيلات والعمارات ، إنما هي الخيمة يحملها معه أينما سار ، فوطنه إذن العالم كله وبيته على ظهر جمله ، كما أنها قبلية يتعصب كُلٌّ لقبيلته ، لذلك كثرت بينهم الحروب حتى أن بعضها استمر أربعين سنة . هذه الحروب درَّبتهم على القتال ، وزرعت فيهم الشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل المبدأ ، لذلك لما أراد رسول الله أنْ يُعدَّ جيشاً لم يفتح له مدرسة حربية ، إنما وجد جيلاً من الرجال جاهزاً مُعداً يعلم كل فنون الحرب ، كلما سمع أحدهم هيعة طار إليها . هؤلاء هم الرجال الذين سيتلقوْنَ الدعوة من رسول الله ، هم الذين سينشرونها . إذن : لا بُدَّ أنْ يكون الكلامُ بلسانهم ، والدعوة بلغتهم ، ليستطيعوا حملها . لذلك قال تعالى في موضع آخر : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ … } [ إبراهيم : 4 ] نعم لأنهم هم الذين سيسمعون منه أولاً . لكن كيف تكون عالمية الدين ؟ قالوا : حين يسمع منه قومه يؤمنون به ، ثم يحملون دعوته إلى الناس لا ألفاظاً ، لكن يحملونها منهجاً وسلوكاً وقدوةً ، ومعلوم أن المناهج لا تختلف فيها اللغات ، لذلك غزا المسلمون العالم كله ، ليس بالقرآن وآياته إنما بالسلوك وبالمبادئ التي أرساها القرآن . إذن : نزل القرآن بلسان عربي ، لأن العرب هم المعَدُّون لهذه المهمة ، القادرون على حملها ، والسياحة بها في العالم كله لكونهم أمة بدوية غير متوطنة ، وأمة قتال ، وهي أمة أمية لا يمكن أن نتهمها باختلاق هذا الدين ، أو أنه وثبة حضارية . وقوله : { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ فصلت : 3 ] أي : يعلمون أساليب العربية ، بل ويُجوِّدون فيها ، فهم أعلى قمة الفصاحة والبلاغة ، بدليل أنك لن تجد أمة في الأرض صنعتْ معارض للأدب وللكلمة كما صنع العرب في عكاظ والمربد وذي المجاز والمجنة ، ففيها كانوا يعرضون إنتاجهم الأدبي ويُقيِّمونه ، وما استحسنوه منه يكرمونه بأن يضعوه على أستار الكعبة . إذن : { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ فصلت : 3 ] العربية وينبغون فيها نبوغاً ، بحيث نزل القرآن المعجز بلسانهم . والإعجاز لا يتأتى لمن لا يجيد مجال الإعجاز ، فالذي يجهل شيئاً لا يصح أنْ تقول له : أتحداك في هذا الشيء ، إنما يكون الإعجاز للمُجيد في الشيء المتحدَّى به ، لأن الجاهل له أن يقول لك : والله لو كنت أعلم الشيء الفلاني لغلبتك فيه . ومن هنا تحدى الله العرب بالقرآن . ولذلك الحق سبحانه وتعالى لا يُنزل آية مع رسول من رسُله لإثبات صدقه في الدعوة إلا من جنس ما نبغ فيه القوم ، فكانت معجزة سيدنا عيسى في الطب ، فكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وسيدنا موسى عليه السلام كانت معجزته العصا ، لأن قومه نبغوا في السحر ، وجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في البلاغة والبيان ، فتحدَّى القوم بالقرآن ، وبذلك يتأتَّى الإعجاز . لذلك نسمع مَنْ يقول : إن العرب انهزموا أمام القرآن ، وهذا غير صحيح ، لأن العرب لم ينهزموا بل انتصروا أمام القرآن ، كيف ؟ لأن الله تعالى لا يتحدى إلا قوياً ، فتحدَّى الله لهم دليلٌ على أنهم قوة ، لديهم القدرة على البيان ويمتلكون ناصية اللغة .