Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 1-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الحروف من الحروف المقطَّعة التي تقع في بدايات بعض سور القرآن الكريم ، وقد سبق الحديث عنها في أكثر من موضع ، ولكنا نُذكّر بأن القرآن كله مبنيّ على الوصل ، الوصل في آياته ، والوصل في سُوره ، والوصل في آخره بأوله . فأنت تقرأ : { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [ الناس : 6 ] هكذا بالكسر لتصلها ببسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة . أما الحروف المقطعة فهي مبنية على الوَقْف ، بحيث يُقرأ كلّ حرف على حِدَة تقول هنا حا ميم عين سين قاف . وأنت تقرأ في أول البقرة ألف لام ميم وتقرأ نفس الحروف في أول سورة الشرح : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] لتعلم أن القرآن ليس كأيِّ كتاب آخر ، وأن قراءته تعتمد أولاً على السماع ، قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 18 - 19 ] . إذن : حين تتدبر القرآن تجد للقراءة بالوصل حكمة ، وللقراءة بالوقف حكمة ، ومعلوم أن الحرف هو اللبنة الأولى في بناء الكلمة وبالتالي العبارة ، وقد بيَّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية الوقف على هذه الحروف ، فقال : " لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " . وحروف اللغة قسمان : حروف مبني وهي اللبنات التي تدخل في بناء الكلمات والعبارات ، فكلمة كتب تكوَّنت من الكاف والتاء والباء ، وهذه الحروف لا تعطي معنىً إلا إذا تركبت مع بعضها لتكوِّن الكلمات ، والأخرى حروف معنى مثل كاف التشبيه في الجندي كالأسد ، فالكاف هنا أفادت معنى التشبيه ، وهذه الحروف لا تعطي معنىً إلا إذا رُكِّبتْ مع غيرها من الكلمات . واللغة عامة ظاهرة اجتماعية ، وهي ألفاظ يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم ، وبها يتفاهمون ، واللغة كما قال العلماء بنت المحاكاة ، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان ، فالولد الذي ينشأ في مجتمع عربي يتكلم العربية ، ولو كان في مجتمع إنجليزي لتكلَّم الإنجليزية . إذن : ليست اللغة جنساً ولا دماً ، بل ظاهرة اجتماعية تعتمد على السماع ، حتى في داخل اللغة الواحدة قد تسمع الكلمة لأول مرة فلا تفهمها ولا تعرف معناها ، مع أن ألفاظها عربية لكنها لم تمرّ بسمعك من قبل . يُرْوى أن أبا علقمة النحوي كان مُغرماً بالفصحى ، ولا ينطق إلا بها ، فكان يأتي بألفاظ غريبة حتى شَقَّ ذلك على خادمه الذي كان لا يفهم كثيراً من هذه الألفاظ ، وفي إحدى الليالي استيقظ من نومه وسأل الخادم : يا غلام أصقعتْ العتاريف ؟ لم يفهم الغلام إلا أنه ردَّ في ضيق وقال له : زِقْ فَيْلم فتعجَّب أبو علقمة وقال له : وما زِقْ فَيْلم ؟ قال الغلام : وما صقعت العتاريف ؟ قال : أردتُ أصاحتْ الديَكة ؟ قال : وأنا أردتُ لم تَصِحْ ؟ ومن نوادر اللغة أن أحدهم ذهب إلى الطبيب ، فقال له الطبيب وكان اسمه أعين : ما بك ؟ قال : أكلت من لحوم هذه الجوازيء فطسأت منها طسأة أصابني منها وجع من الوابلة إلى دأْية العنق ولم يزل يَنْمي حتى خالط الحلْب وأَلِمَتْ منه الشراسيف ، فقال الطبيب : أعِدْ عليَّ فوالله ما فهمتُ منك شيئاً ، فأعاد كالأولى ، فردَّ الطبيب وقال له : خُذْ حرقفاً وسلقفاً وسرقفاً وزهزقه وزقزقه بماء روث ثم اشربه ، فقال الرجل : أعِدْ عليَّ فوالله ما فهمتُ منك شيئاً . فقال الطبيب : لعن الله أقلَّنا إفهماماً لصاحبه . إذن : نقول إن اللغة بنت المحاكاة ، فهي تعتمد أولاً على السماع ، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان ، فالولد الصغير يتعلم الكلام من أسرته وممن حوله ، أما الأخرس فإنه لا يتكلم لأنه لم يسمع لذلك قال تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] فالبَكَم لا يأتي إلا بعد الصَّمم ، ولو سلسلنا مسألة تعلُّم الكلام هذه سنصل بها إلى أبينا آدم عليه السلام ، فكُلٌّ منا تعلم الكلام من أبيه وأمه ممن حوله ، أما آدم عليه السلام فعلَّمه ربه ، كما قال سبحانه : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] يعني أسماء الأشياء ، فالله سبحانه هو المعلم الأول . وفي الحروف المقطعة هذه ملحظ هام ، فهي تعلِّمنا الإيمان بالغيب ، كيف ؟ الحق سبحانه وتعالى له في خَلْقه غيب ومشهد ، وقد جعل سبحانه للغيب مشهداً يدل عليه ، ففي مجال العقائد مثلاً أنا معتقد أن لهذا الكون إلهاً خالقاً ، وهذه العقيدة يمكن أنْ أدلِّل عليها بالآيات الكونية الموجودة المشاهدة . لكن يأتي في العقيدة أيضاً مسائل غيبية ليس لها دليلٌ من المشهد المُحَسِّ ، مثل الإيمان بالملائكة وهي غيب ، وما دام هناك تكاليف وطاعة ومعصية فلا بدَّ أنْ توجد جنة ونار ، وقبلها مرحلة القبر وما فيه من نعيم أو عذاب ، كل هذه أمور سمعية لا يُقام عليها دليل عقلي ، إنما نؤمن بها لأن الإله الذي آمنا به أخبرنا بوجودها ونحن نثق في خبره . إذن : كل إيمان عقدي مُشَاهد يأخذ بجانبه إيماناً غيبياً ، والإيمان بالغيب هو الأهم لأنه المحكّ في مسألة الإيمان ، وهو الدليل على قوة العقيدة ، لأن الإيمان بالمشهد يستوي فيه الجميع . قلنا : هَبْ أن عندك خادماً وقلتَ له : يا فلان ارفع هذا الحجر في الحديقة مثلاً فيقول لك : إنه ثقيل لا أقدر على رفعه تقول له : إنَّ تحته كيس النقود الذي سأعطلك منه راتبك فيسرع إليه ويرفعه ، هذا آمن بالغيب أم بالمشهد ؟ آمن بالمشهد لم يثق بك وإنما بكيس النقود . إذن : المحك الحقيقي للإيمان هو الغيب ، لذلك قال تعالى في صفات المؤمنين { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] لأن المحسَّ والمشَاهد الكل يعرفه ويؤمن به . كذلك الحال في كلام ربِّ العالمين وفي قرآنه الكريم كلام وحروف لها معنى ، وحروف أخرى ليس لها معنى واضح نعرفه ونفهم تفسيره ، وهذه هي الحروف المُقطَّعة نؤمن بها ونُصدِّق بها على أنها من الغيب . وسبق أنْ أوضحنا أن الحروف المقطعة في بدايات السور أخذت نصف حروف المعجم يعني أربعة عشر حرفاً ، والمتأمل في هذه الحروف يجد لها نظاماً ورتابة لم تُؤخذ هكذا كيفما اتفق ، فلو قسَّمنا حروف الهجاء إلى تسعة حروف في أولها وتسعة في آخرها ويتبقى عشرة في الوسط نجد الحروف المقطعة أخذت فقط حرفين من المجموعة الأولى هما الألف والحا وترك سبعة ، وأخذت سبعة من المجموعة الأخيرة وتركت اثنين ، وأخذت من الوسط الحروف غير المنقوطة وتركت المنقوط ، إذن : لها موازين ولها حكمة . ونحن نحاول ونفكر في معاني هذه الحروف ، ويحوم العقل حول هذه المعاني قد يبلغ بعضها ، وقد يقف عاجزاً يقول : الله أعلم بمراده ، وكُلُّ عالم يحاول فَهْم هذه الحروف أو استجلاء الحكمة منها مجتهد ومُثَاب ، أصاب أو جانبه الصواب . المهم أن الحق سبحانه يريد منا أن نؤمن بهذه الحروف ، وأن نقبلها كما هي ، عرفنا معانيها أو لم نعرف ، فهي أشبه بأسنان المفتاح الذي يعنيك منها أنْ تفتح لك دون أنْ تعرف لها نظاماً ، ويكفي أن صاحبها يعرف أسرارها ، وأنها تؤدي لك مهمتها على ما هي . فصحيح أننا نحوم حول هذه المعاني وقد نصل إلى شيء منها ، لكن يظل للقرآن إعجازه ، وتظل هذه الحروف محتفظة بعطاء متجدد لا ينفد . والقرآن لما تحدَّى العرب وأعجزهم ، البعض فهم من ذلك أنه تقليل من شأن العرب ، لكن هذا التحدي يعني براعتهم في هذا المجال وتمكّنهم منه وإلا ما تحداهم القرآن ، إذن : تحدَّى القرآن لهم شرف لهم وإعلاء لشأنهم ، ويكفي أن الله جعلهم المقياس في هذه المسألة . والقرآن حين تحدَّى العرب لم يأت بكلمات جديدة ولا بحروف جديدة ، فهي نفس الحروف ونفس الخامات التي تتكوَّن منها لغتهم ، ومع ذلك ظل كلام الحق سبحانه هو المعجز ، ولم يستطيعوا الإتيان بمثله ، فوجه الإعجاز هنا أن القرآن كلام الله ، الله هو الذي يتكلم ، فكلامه مُعْجز لأنه سبحانه يضفي عليه من قدرته ، وكلامك أنت أيها العبد غير معجز لأن فيه شيئاً من عجزك . وسورة الشورى من سُوَر الحواميم . يعني : السور التي بدأتْ بقوله تعالى حم وقد رأينا أن هذه الحروف جاءت بحرف واحد مثل ن و ق و ص . وجاءت بحرفين مثل طس . وجاءت على ثلاثة أحرف مثل الم و طسم وجاءت على أربعة أحرف مثل المر و المص . وعلى خمسة أحرف مثل حم عسق و كهيعص وهذه الحروف لا تُعرف معانيها ، ونؤمن أنها من الغيب الذي يجب علينا التسليم به ، وأن نقول في تفسيرها : الله أعلم بمراده .