Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 49-50)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه يتكلم هنا عن ملكيته تعالى للسماوات وللأرض كظرف للأشياء ، وفي أول السورة تكلم عن ملكيته تعالى لما في السماوات وما في الأرض ، فقال : { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ } [ الشورى : 4 ] . إذن : لله تعالى مُلْك السماوات والأرض وما فيهما من شيء ، وهذا الأسلوب { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ الشورى : 4 ] و { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الشورى : 49 ] يُسمى أسلوب قَصْر ، حيث قدّم الجار والمجرور على المبتدأ لإفادة القصر ، فالمعنى : لله وحده ما في السماوات وما في الأرض مقصور عليه ، ولله وحده مُلْك السماوات والأرض ، فالمِلكية هنا ليس لها شريكٌ ولا منازعٌ . ومادة م ل ك تُنطق فيها الميم على وجوه ثلاثة : الفتح والضم والكسر ، كلمة ملك بالكسر هو كل ما في حوزتك وتتصرَّف فيه ، وبالضم وهو التصرّف في ملك مَنْ يملك ، وهو المعروف في نظام المملكة ، وبالفتح مثل قوله تعالى : { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا … } [ طه : 87 ] يعني : غصْباً عنا وبغير إرادتنا . أما اللام في ملك فتأتي أيضاً بالكسر مِلك ، وهو مَنْ يُملَّك في غيره في تصرفه وفي إرادته ، وبالفتح ملك وهو المخلوق الأعلى من الملائكة . ومِلاَك الأمر . يعني جوهره وحقيقته . وقوله تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الشورى : 49 ] يعني : هو صاحبها وهو خالقها ومُبدعها ، لأنك قد تملك ما لا تعمل . { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [ الشورى : 49 ] يعني : خلقه وفق إرادته ومشيئته هو ، وله طلاقة القدرة في مسألة الخلق لا يعجزه فيها شيء ولا يستعصي عليه أمر . لذلك يعطينا الدليل على ذلك من واقع حياتنا المشَاهد في المجتمع وكلنا يعرفه ، اقرأ : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً … } [ الشورى : 49 - 50 ] أولاً لاحظ أن هذه المسألة هبة من الله الخالق سبحانه { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ } [ الشورى : 49 ] يعني : ليستْ حقاً لأحد ، وليست حقاً لكل مَنْ ملَك أسبابها ، فقد تتوافر الحياة الزوجية ولا يأتي لها ثمرة إنجاب ويُبتلَى الزوجان بالعقم وهو أيضاً هبة من الله . والذي يرضى بهذه الهبة ويؤمن أنها من الله يُعوِّضه الله ويرى من أولاد الآخرين من البر ما لا يراه الآباء ، ويتمتع بهذا البر دون تعب ودون مشقة في تربية هؤلاء الأولاد ، وفي واقع حياتنا قد يأتي الابن ويكون عاقاً لوالديه . ثم تلاحظ أن الحق سبحانه قدّم الإناث على الذكور { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] لماذا ؟ لأن الإناث كان النوعَ المبغوض غير المرغوب فيه في الجاهلية { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ النحل : 58 - 59 ] . ولم ينته الأمر عند حَدِّ الكراهية للبنات ، بل تعدَّاه إلى قتلهن ووأدهن كما قال سبحانه : { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8 - 9 ] ذلك لأن البنت ضعيفة لا تَقْوى على العمل ولا تشارك قومها في حروبهم المستمرة ، وهي عِرْض ينبغي المحافظة عليه . فلما جاء الإسلام غيَّر هذه الصورة تماماً ، ورفع من شأن الأنثى ، وجعل النساء شقائق الرجال لذلك قدَّم هنا الإناث على الذكور { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] ورقَّق قلوب هؤلاء الغلاظ نحو الأنثى ، وحبَّبهم فيها وعلّمهم أنها وعاؤكم الذي خرجتم منه ، فهي صاحبة فضل على كل ذكَر . علَّمهم أن الأنثى لا يستقيم أمرها في مجتمعها إلا حين تُرْعى ويحافظ عليها ويهتم بها وليُّها لأن كراهية الأنثى تحملها على الاعوجاج وتُرغمها على التخلِّي عن دورها ، فالبنت حين يحبها أهلها ويكرمونها ويحنُّون عليها تتعود على الكرامة وعزة النفس ولا تقبل الإهانة من أحد ، لأنها شبَّت على أنها غالية عند أهلها عزيزة لديهم ، فلا يجرؤ أحد على التعدِّي عليها ولو بكلمة . على خلاف البنت التي هانت على أهلها ، وشبَّت بينهم على مشاعر الكراهية والاحتقار ، فنراها تهون على نفسها ، ونراها رخيصة تفرط في كرامتها وتستميلها ولو بكلمة . ثم يُرقِّى الحق سبحانه عطاءه للعبد ، فيقول { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً … } [ الشورى : 50 ] يعني : يزاوج بين النوعين ، فيهب لك الذكور ويهب لك الإناث . { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } [ الشورى : 50 ] يعني : يحرم هذه الهبة لحكمة أرادها الله . وحتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يتعالى أحد على أحد يُعلِّمنا ربنا عز وجل أن مسألة الإنجاب هذه أو عدم الإنجاب لا تؤثر على منازل العباد عند الله تعالى ، فحين أهَب الذكور أو الإناث أو أزواج بينهما لا يعني هذا رضاي عن عبدي ، وحين أحرمه لا يعني هذا سخطي على عبدي ، إنما هي سنتي في خَلْقي أنْ أهبَ الذكور وأنْ أهبَ الإناث ، وأنْ أجعل مَنْ أشاء عقيماً . لذلك تجدون هذه السُّنة نافذة حتى في الرسل الذين هم أكرم الخَلْق على الله ، فسيدنا لوط وسيدنا شعيب وهبهما اللهُ الإناثَ ، وسيدنا إبراهيم وهبه الله الذكور ، وسيدنا محمد وهبه الله الذكور والإناث ، فكان له عبد الله والقاسم وإبراهيم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة . إذن : لكم في رسول الله أسْوة حسنة . والذين يستقبلون أقدار الله في هذه المسألة بالرضا ، ويرتفع عندهم مقام الإيمان والتسليم ، ويؤمنون أن هذه هبة من الله حتى العقم يعتبرونه هبة ، هؤلاء يُعوِّضهم الله ، فحين ترضى مثلاً بالبنات وتُربِّيهن أحسن تربية ، وتُحسن إليهنَّ يجعل الله لك من أزواجهن مَنْ يُعوِّضك عن الولد ، وربما كانوا أبرَّ بك من الأبناء بآبائهم . وتختتم الآية بقوله تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 50 ] والعليم يهب على قَدْر علمه بالأمور ، وبما يصلح عبده وما لا يُصلحه ، فهو وحده سبحانه الذي يعلم أن هذا يصلح هنا ، وهذا يصلح هنا ، ثم هو سبحانه { قَدِيرٌ } [ الشورى : 50 ] له القدرة المطلقة في مسألة الخَلْق ، لا يعجزه شيء ولا تقيده الأسباب . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ … } .