Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 51-51)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نعم . هذه وسائل ثلاث لا بدَّ من وجود واحدة منها ليتمَّ اتصال الحق سبحانه بالبشر ، ذلك لأن للبشر طبيعة تكوينية لا تَقوَى على مباشرة الأعلى سبحانه ، فلله صفات الجلال والكمال المطلق ، ولا يمكن أنْ يلتقي الأعلى بالأدنى دون وسائط ، منها الإلهام مثل الزبور الذي نزل على سيدنا داود ، فلم ينزل عليه بوحي من الله بواسطة رسول كما نزل القرآن ، إنما جاء إلهاماً قذفه الله في روع سيدنا داود . يقول تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ … } [ الشورى : 51 ] كما كلم سيدنا موسى { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً … } [ الشورى : 51 ] يعني : يرسله بالوحي ، والرسول هنا من الملائكة ، كما أرسل الله جبريل بالقرآن ، وإنْ نزل في صورة بشر ليكون أقربَ إليهم وآنسَ لهم . فقوله : { إِلاَّ وَحْياً … } [ الشورى : 51 ] أي : إلهاماً يقذفه الله في قلب مَنْ يشاء ، فإنْ قلتَ : فكيف نعرف الإلهام من وسوسة الشيطان ؟ قالوا : الإلهام من الله لا يناقضه مخالفة ، بل يدخل عليك مُسلَّمة لا جدالَ فيها ، وقلنا : إن وارد الرحمن لا يزاحمه وارد الشيطان أبداً . ومثَّلنا لذلك بقوله تعالى في قصة سيدنا موسى وأمه : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . هذا وحي من الله بطريق الإلهام ، لذلك لم تناقشه أم موسى ولم تجادل فيه ، بل أقبلتْ على تنفيذه راضية مطمئنة ، وإلاَّ فأيُّ قياس عقلي يقول للأم ، إذا خِفْتِ على ولدك فألقيه في اليمِّ . ونذكر هنا وقفة للمستشرقين حاولوا فيها أنْ يجدوا على القرآن مأخذاً ، فقالوا بتكرارها ، لأن الحق سبحانه قال في موضع آخر : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [ طه : 38 - 39 ] . والمتأمل في الموضعين يجد الآية الأولى كانت تمهيداً للحدث بدليل { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ … } [ القصص : 7 ] فإذا للمستقبل ، أما قوله تعالى : { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ … } [ طه : 39 ] فكان وقت التنفيذ . وقوله : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ … } [ الشورى : 51 ] قلنا : كما كلَّم الله سيدنا موسى عليه السلام { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ … } [ الشورى : 51 ] الوحي هنا ليس إلهاماً كالأول ، إنما وحي مباشر بواسطة رسول من الملائكة ، كما حدث في نزول القرآن الكريم على قلب سيدنا رسول الله بواسطة أمين الوحي جبريل ، وكان يأتي رسول الله مباشرة ويعطيه ما شاء الله من القرآن . إلا أن الله تعالى أراد أنْ يُثبِّت هذه المسألة عندهم ، فمرة يأتيهم جبريل في صورة رجل حسن المنظر لا يُرى عليه أثر السفر ، كما ورد في الحديث ، ويسأل رسول الله ويُصدِّقه ليتعلَّم الناسُ منه أمور الدين ، فلما انصرف قال سيدنا رسول الله " إنه جبريل أتاكم يُعلِّمكم أمور دينكم " . وهذه المسألة نرد بها على الذين طلبوا أنْ يكونَ الرسولُ من الملائكة ، لأن الرسول لو جاء مَلَكاً لجاءهم في صورة رجل ليتمكنوا من التلقِّي منه ، ثم إن الرسول أسْوة وقدوة وسلوك ، والقدوة لا تتم بالملائكة لأنه إنْ قال لي افعل كذا وكذا لي أن أقول له لا أقدر على ذلك ، فأنت مَلَك وأنا بشر لي قدرة محدودة . إذن : نقول إن القرآن لم يأْت إلهاماً ولا نَفْثاً في الرَِّوع ، ولم يأتِ من وراء حجاب ، إنما جاء بالوحي المباشر بواسطة الملَك ، وقد رأى سيدنا رسول الله جبريل على صورته الحقيقية { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } [ النجم : 13 - 14 ] ومسألة الوحي والتلقي عن الحق سبحانه تقوم كلها على الاصطفاء { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } [ الحج : 75 ] . فليستْ كل الملائكة تتلقَّى عن الله ، بل مَنْ اصطفاه الله لذلك ، ثم يصطفي من الناس رسلاً تتلقَّى عن الملَك ، فالمصطفى من الملائكة ومعه المصطفى من البشر يُمكنهما التلقّي عن الله ، وتذكرون أننا مثَّلنا لذلك بـ الترانس أي المحول الذي يعطي الجهاز الكهرباء على قدْر حاجته وإمكانياته ، ولو ارتفع التيارُ لاحترق الجهاز ، كذلك البشر لا يمكن أنْ يتلقوا عن الله مباشرة . لذلك خُتِمتْ الآيةُ بقوله سبحانه : { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] يعني : أعلى من أن يخاطب البشر مباشرة ، فالله أعلى من ذلك { حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] في اختياره فيمن يصطفيه للتلقِّي عنه سبحانه .