Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 45, Ayat: 12-12)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

التسخير يعني التذليل وأن يكون المسخّر رَهْناً لخدمة المسخّر له ، وزمان كان في مصر نظام السُّخرة ، وهو أنْ يعملَ العمال بدون أجر ، فالحق سبحانه سخَّر لنا البحر وذلَّله لخدمتنا ، ولولا ذلك ما استطعنا أبداً ركوبه ، ولا السير فيه ولا الانتفاع به . ومن تسخير البحر ما عرفناه من قصة سيدنا موسى لما ألقتْه أمه في البحر تنفيذاً لأمر الله ، قال سبحانه : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . إذن : صدرت الأوامر إلى البحر أن يلقيه بالساحل ، وألاَّ يأخذه إلى الداخل ، كما قال سبحانه : { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ … } [ طه : 39 ] . فالحق سبحانه كما يأمر العاقل يأمر الجمادات فتأتمر وتطيع ، لذلك قال عن السماء : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] . والتسخير تكليف الشيء تكليفاً قهرياً أنْ يكونَ في خدمة الخليفة وهو الإنسان ، فالكون كله مُسخَّر له . يعني : يطيعه ويأتمر بأمره ، ومن هذا التسخير سخَّر للإنسان جوارحه تُطيع مراده وتنفعل لإرادته انفعالاً تلقائياً سهلاً لا تكلُّفَ فيه . فاللسان ينطق بلا إله إلا الله لمجرد أنْ أردت ذلك وينطق بكلمة الكفر والعياذ بالله أيضاً لمجرد الإرادة ، اليد والعَيْن والرِّجْل ، وكلُّ جوارحك لا تعصي لك أمراً ، تنفعل لك من حيث لا تدري لأن خالقها سخَّرها لك وذلَّلها لخدمتك . وقال لها : أطيعي عبدي ، لأنني أريد أنْ أحاسبه بعد أنْ أعطيه الاختيار في أنْ يفعلَ أو لا يفعل ، ولو كان الإيمانُ قهراً لقهرتُه عليه كما قهرتُ الملائكة ، لكنني لا أريد قوالبَ تخضع ، إنما أريد قلوباً تخشع ، أريدك أنْ تأتي إليَّ طواعية وأنت قادر على الإعراض والانفلات . لذلك قلنا : إن السيف في الإسلام لا ليفرض على الناس عقيدة ، إنما ليحميَ اختيارهم لعقائدهم ، وبعد ذلك يتشدَّقون بأن الإسلام فُرِضَ بحدِّ السيف ، وهذا غير صحيح بدليل بقاء كثيرين على دينهم بعد الفتح الإسلامي . والحق سبحانه حينما سخَّر كل شيء في الوجود لخدمة الإنسان قال سبحانه في الحديث القدسي : " يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقتُك من أجلي ، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له " يعني : لا تنظر إلى عبيدك بل انظر أنت عبد لمن ومَنْ سيدك . وهذا التسخير للجوارح موقوتٌ بالحياة الدنيا ، أما في الآخرة فسوف تنطلق الجوارح من هذه القيود وتنفك من هذا القهر وهذا التسخير ، لأنه كان مرتبطاً بإرادة العبد ، وحيث لا إرادة له في الآخرة . وأصبحت الإرادة للمريد الأعلى سبحانه ، فلا طاعةَ له ولا خضوعَ لأوامره ، فالأمرُ كله يومئذ لله { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . لذلك تتحول الأعضاء والجوارح إلى شهود ، يشهدون بالحق أمام الواحد الأحد ، فاللسان يقول : قُلْتُ . واليد تقول : بطشْتُ . والرِّجْل تقول : مشيتُ . والعينُ : رأيت ، وهكذا . وقد شبَّهنا هذه المسألة بقائد الكتيبة يأمر الجنود ، فيطيعون حتى لو كان المر خطأ ، ثم حين يعودون للقائد الأعلى يقولون حدث من قائدنا كذا وكذا ، ولم نخالف أوامره لأننا مأمورون بطاعة الأوامر ولو خطأ . والحق سبحانه حينما يُسخِّر لنا جوارحنا وأعضاءنا إنما ليعطينا مثالاً ونموذجاً لقيوميته تعالى على كل شيء ، وأنه إذا أراد شيئاً أنْ يقول له كُنْ فيكون ، فيقول للمكابر : قُلْ لي بالله ما هي العضلات التي تُحركها لتتكلم أو تقوم أو تقعد ؟ ما هي الحركة التي تحدث بداخلك لتفعل ؟ ما الأعصاب التي تشارك في هذه الحركات ؟ أنت لا تعرف شيئاً عنها ولا تأمرها ، بل مجرد أن تريدَ تنفعل لإرادتك وتطيع ، فإذا كان هذا عطاء الله لك ، ونعمة من نعمه عليك ، فكيف تستبعده في حَقِّ الله عز وجل ؟ وكيف تنكر أنه إذا أراد شيئاً أنْ يقول له كُنْ فيكون ؟ وأول مظاهر تسخير البحر أنْ جعله الله صالحاً لسيْر السفن على ظهره ، كما قال سبحانه : { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ … } [ النحل : 14 ] وأول سفينة في الكون هي سفينةُ سيدنا نوح عليه السلام صنعها بأمر الله ووَحْيه إليه ، حيث علَّمه كيفية صناعتها من ألواح ودُسر : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [ القمر : 13 ] . والسفينة لا تسير على صفحة الماء إلا إذا توفرتْ لها بعض القوانين ، وهذا هو التسخير . أولاً : لا بدَّ أنْ يكون الماء سائلاً ليسمحَ بجريان السفينة حين يُحرِّكها الهواء ويدفعها ، ولو كان جامداً ما حصل السير . ثانياً : يكون الماء خالياً من اللزوجة . ثالثاً : تكون كثافة الماء أقلَّ من كثافة السفينة ، فلو أخذتَ مثلاً قطعة من المعدن ورميتَ بها في الماء فإنها تغرق فيه ، إنما لو طرقتَ هذه القطعة وجعلتَها مفلطحة ووسَّعتَ مساحتها فإنها تعوم . فمن تسخير الله للبحر أنْ جعله صالحاً لسير السفن { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ … } [ الجاثية : 12 ] كما قال في موضع آخر : { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا … } [ هود : 41 ] . ومن تسخير الله للبحر أنْ جعله مصدراً لكثير من المأكولات والأرزاق { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ … } [ الجاثية : 12 ] . ففضلُ الله في البحر كثيرٌ ، فيه القوت اللازم لاستبقاء الحياة ، وفيه الترف والزينة مثل اللؤلؤ والمرجان وغيرهما من الأشياء الثمينة حتى قالوا : إن الثروات في أعماق البحار أكثر من الثروات فوق سطح الأرض . ثم على سطح الماء تسير بكم السفن إلى مواطن الأرزاق في أي مكان . وفي آيات أخرى فصَّل الحق سبحانه قوله : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ … } [ الجاثية : 12 ] فقال : { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً … } [ النحل : 14 ] وهو أنواع الأسماك والحيوانات البحرية التي تؤْكل : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا … } [ النحل : 14 ] . والمراد اللؤلؤ والمرجان والأحجار الكريمة التي تُستخرج من أعماق البحار لذلك قال العلماء : إن حلية البحر غير مُحرَّمة مع أنها أغلى من الذهب ، لكن لم يأتِ النصُّ بتحريمها على الرجال كما فعل في الذهب ، لماذا ؟ لأن الذهب نَقْد يتعامل الناسُ به على شكل عملات وجنيهات نقدية ، فغرضه أساساً التعامل بين الناس في البيع والشراء ، وهو واسطة بين الإنتاج والاستهلاك ، وليست حلية البحر كذلك . وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الجاثية : 12 ] أمر بالشكر على النعمة ، فكلما رأيتَ مظهراً من مظاهر نعمة الله قُلِ الحمد لله واعترف لله بالفضل ، لذلك علَّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الركوب للسُّفن أو غيرها ، ومن هذا الدعاء : " سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنَّا إلى ربنا لمنقلبون " .