Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 45, Ayat: 1-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه السورة أيضاً من الحواميم ، وهي السور التي افتُتحت بقوله تعالى حم ، وسبق الكلام فيها ، لكن ما دام أن الحق كرَّرها فلا بدَّ لنا أنْ نتعرَّض لها بما يفتح الله به ولا يُعد هذا تكراراً . فإذا نظرنا إلى الحياة التي نراها وجدنا فيها مُلكاً مشاهداً ، وملكوتاً غير مشاهد ، وكل ما غاب عن حواسِّك فهو غَيْبٌ لا يعلمه إلا الله ، خُذْ مثلاً العقائد والعبادات تجد أنها تقوم على هذين الجانبين الغيب والمشهد . فأنت تستطيع بالعقل أنْ تبرهن على وحدانية الله ، وعلى وجوده سبحانه ، وأنه خالق هذا الكون كله ، فالإنسان طرأ على هذا الكون ووجده كما هو الآن ، الشمس والقمر والنجوم ، السماء والأرض ، الماء والهواء . لذلك لم يدَّع أحدٌ أنه خلقه ، قال سبحانه { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ لقمان : 25 ] وقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ الزخرف : 87 ] . هذا مشهد ، وفي العقائد أمور أخرى غَيْبٌ نؤمن بها لأن الله أخبرنا بها ، كأمور الآخرة والبعث والحساب والجنة والنار ، خُذْ مثلاً من العبادات الصلاة نستطيع أنْ نفهم لها عللاً عقلية ، فنقول : إن الله فرضها علينا خمْس مرات في اليوم والليلة ليتردد العبدُ على خالقه ، وليستمدَّ منه القوة والعوْن ، وليأنس بلقائه ، وليأخذ من فيض عطائه وإشراقاته . والصلاة كذلك تُسوِّي بين العباد الغني والفقير ، الرئيس والمرؤوس الكل ساجد لله ، هذا استطراقٌ عبوديّ في الكون ، هذا كله مشهد ، لكن بالله قُلْ لي : لماذا كان الصبحُ ركعتين ، والظهر أربعاً ، والمغرب ثلاثاً ؟ هذه غَيْبٌ نؤمن به كما هو ، وكما أخبرنا به رسول الله المؤتمن على شرع الله . كذلك في القرآن الكريم غيب ومشهد ، غيب في هذه الحروف المقطَّعة التي استأثر اللهُ بعلم معناها ، وباقي القرآن بعد ذلك مشهدٌ لأنه بيِّن واضح المعنى ظاهرُ القصد ، لأن الحق سبحانه يريد أنْ يتعبَّدنا بالغيب كما تعبدَّنا بالمشهد . والغيب هو محلُّ الإيمان . أما المشهد فليس مجالاً للإيمان أو الكفر ، فلا تقول مثلاً : أومن بأن الشمس طالعةٌ ، لكن أقول : أومن باليوم الآخر . فقوله تعالى هنا : حَم يعني : حروف مُقطَّعة في بداية بعض سور القرآن هي غيب نؤمن به ونترك معناه لمنْزله سبحانه { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ … } [ الجاثية : 2 ] هذا هو المشهد ، وفي السورة قبلها حم غَيْب { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الدخان : 2 ] مشهد . { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ … } [ الدخان : 3 ] يعني : الاثنان الغيب والمشهد مُنزّل من عند الله ، فهما سواء في التعبد لله تعالى ، فكما تعبَّدك بالواضح المفهوم تعبَّدك بالغيب الذي لا تفهمه ، وكُل ما هنالك أننا نحوم حولها ، نحاول أنْ نستشفّ بعض أسرارها . لذلك نقول : إن القرآن كله مبنيٌّ على الوَصْل في الآيات وفي السور ، حتى أن آخر كلمة في سورة الناس موصولة بأول كلمة في الفاتحة ، فنقول : { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وهكذا . لذلك نُسمِّي قارئ القرآن الحالّ المرتحل يعني : ما يكاد ينتهي من القرآن حتى يبدأ من أوله . أما الحروف المقطّعة في أوائل السور فمبنيةٌ على الوقْف تقول : حا ، ميم ، ألف لام ميم ، في حين أنك لا تقف على نفس الحروف في { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] . إذن : لكل نطق علَّة وله أسرار ، فهو أشبه بأسنان المفتاح الذي يفتح لك ، فمفتاح يفتح لك بسِنٍّ واحد ، ومفتاح يفتح لك بسنِّيْن ، ومفتاح يفتح لك بثلاثة . وقوله : { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [ الجاثية : 2 ] اختار هنا اسم العزيز ، لأن القرآن سينزل وسوف تجد من القوم مَنْ يكذِّبه ، فلا تهتم لذلك ولا يغرَّنك تكذيبهم ، فالله مُنزل هذا الكتاب عزيز لا يُغلب ، وهذه العزة ليستْ بقهر ، إنما عزة بحكمة { ٱلْحَكِيمِ } [ الجاثية : 2 ] والحكيم : هو الذي يضع الشيء في موضعه المناسب .