Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 45, Ayat: 3-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الجاثية : 3 ] جعل السماوات والأرض ظرفاً فلا تنظر إلى السماوات والأرض في ذاتها ، بل انظر لما فيهما من الآيات والأسرار ، فهي مليئةٌ بالآيات التي يجلِّيها الله لوقتها ، وكلما تفتحتْ العقول وتطوَّرتْ العلوم ظهر لنا آية من آيات الله في السماوات والأرض . انظر مثلاً إلى الثورة في مجال الاتصالات ، وما في الهواء من ذبذبات وبثٍّ للتلفزيون ، ومع ذلك لا تختلط ولا تتداخل ، انظر إلى الفضاء الواسع وما توصَّل إليه الإنسان من غزو الفضاء وإطلاق سفن وصواريخ تصل إلى كواكب أخرى وتستقرّ عليها وترسل لنا صُوراً منها ، كلُّ هذه آياتٌ من آيات الله يُجلِّيها سبحانه لنا في وقتها المناسب . إذن : آياتُ الله كثيرة في السماوات والأرض بل وتحت الأرض ، لذلك يمتنُّ الله بنعمه علينا ، فيقول : { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } [ طه : 6 ] . لذلك سيدنا عبد الله بن مسعود يقول : أثيروا القرآن . يعني هيجوه مثل الأرض حينما نحرثها لنأخذ ما فيها من خيرات ، كذلك كل شيء منسوب إلى الله تعالى فيه ما لا يُحصَى من كنوز الخير . وإذا كانت السماواتُ والأرض ظرفاً فلنا أنْ نسأل : أيهما أثمن الظرف أم المظروف فيه ؟ فالخطاب أو الرسالة أثمن أم الظرف الذي تُوضَع فيه ؟ الخزينة أو ما يوضع فيها أنفس . كذلك السماوات والأرض مع عظِمهما وقُوتهما ، فما فيهما من آيات وعجائب أعظم منهما وأنفس ، لذلك تذكرون أننا حرَّمنا أنْ نضع شيئاً بين أوراق المصحف ، لماذا ؟ حتى لا يكون كتاب الله تعالى ظرفاً لشيء ، مهما كان غالياً وثميناً عندك ، لأن القرآن أثمن وأغلى من أي شيء آخر ، فلا تجعله ظرفاً لشيء . وقوله : { لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الجاثية : 3 ] آيات جمع آية ، وهي الشيء البالغ في الحُسْن مَبْلغاً كما نقول : فلان آيةٌ في الحسن أو في البلاغة ، أو في الكرم ، إذن : آية تعني الشيء العجيب في بابه . وبيَّنا أن كلمة آية تُطلق على مَعانٍ ثلاثة : آيات كونية تثبت قدرة الخالق سبحانه وحكمته { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ … } [ فصلت : 37 ] . فإنْ كان هذا الشيء مُتفرداً بشيء عجيب دالٍّ على القدرة سُمِّي آية وحده ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ … } [ الإسراء : 12 ] فكلٌّ منهما آية وحده . وقال في عيسى بن مريم عليه السلام وأمه مريم : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً … } [ المؤمنون : 50 ] فهما آية واحدة ، لأن وجه العجب فيهما واحدة ، والجامع بينهما في الإعجاز أمر واحد ، فكانا آية واحدة . ثم بعد ذلك آيات معجزات تأتي مصاحبة للرسل لتؤيدهم وتُثبت صدقهم في البلاغ عن الله مثل : عصا موسى ، وناقة صالح . ثم النوع الثالث من الآيات هي آيات الذكر الحكيم في القرآن الكريم ، ويُسمُّونها حاملة الأحكام . فمعنى : { لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الجاثية : 3 ] يعني : أيها المؤمنون بي تنبهوا لهذه الآيات لتُقنعوا بها غيركم ممَّنْ لم يؤمن من الكافرين والملاحدة ، لذلك نقعد ندادي فيهم ونقول لهم : انظروا كذا وانظروا كذا ، تأملوا قدرة الله في كذا وكذا . هذه رسالتنا أنْ ندعو الناسَ ، وأنْ ندلَّهم على الله بماذا ؟ بآياته في الكون ، لذلك ربنا سبحانه يُعلِّمنا كيف ندلُّ الناسَ بالآيات فيقول : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] . يعني : لا تغرنكم عظمة هذه الآيات فخالقها أعظم ، وأحلى من الحُسْن مَنْ خلق الحسن ، فايَّاكم أنْ تنصرفوا بإعجابكم بالليل والنهار والشمس والقمر عن خالقها ، فهو المستحق للعبادة وليس هي ، وهذا يعني أن الخالق سبحانه حريصٌ على صَنْعته ، حريصٌ على هداية الناس ونجاتهم مما يهلكهم . فكأن هذه الآية تقول للمؤمنين بالله إنَّ هذه الآيات الكونية جعلها الله لتقنعكم أولاً ، ثم تقنعون بها غيركم . لذلك لو نظرنا إلى علماء الدين وعلماء الطبيعة في مجالات الإنسان والحيوان والنبات والجمادات وجدنا علماءَ الطبيعة أسبقَ لأن علماء الدين يُبيِّنون للناس الحلال والحرام ، إنما ينطلقون أولاً من الإيمان بالله ، فبيان الأحكام فرعُ الإيمان ، فكأن النظر في الآيات الكونية والاستدلال بها على خالقها عز وجل أهمّ . ومن عجائب صُنْع الله في خلقه أنهم في أواخر العشرينيات قالوا عن السماوات السبع أنها الكواكب السبع التي تدور حول الشمس ، وفي العام الذي يليه اكتشفوا كوكباً آخر إلى أنْ وصل عددهم إلى عشرة ، ثم اكتشفوا كوكب الزُّهرة ، وهكذا تغيرتْ كلّ النظريات القديمة . ومن عجائب الخَلْق في هذه الكواكب أننا نعرف أن اليوم أقلُّ في الزمن من السنة ، لأن اليوم 1 / 365 من السنة ، وبعد أنْ عرفنا علم الهندسة الفراغية وجدنا الزهرة وهو ثاني نجم بعد الشمس ، وقبله عطارد . ومن العجيب أنهم وجدوا أن يوم الزهرة أطولُ من عام الزهرة ، فاليوم عندنا هو دورة الأرض حول نفسها ، والسنة دورتها حول الشمس ، فلما لاحظوا يوم الزهرة قياساً على يوم الأرض وجدوا أن اليوم أطولُ من السنة ، فيوم الزهرة 244 من أيام الأرض ، والسنة 225 من أيام الأرض . وهذا صحيح لأن الجهة مُنفكَّة ، فلكلِّ نجم حركته ، وهذه الحركة قد تكون سريعة في دورانه حول نفسه ، وبطيئة في دورانه حول الشمس أو العكس ، ومن هنا يأتي الاختلاف ولا مانعَ أنْ يكونَ اليومُ أطولَ من السنة ، وآخر هذه الكواكب بلوتو وجدوا أن يومه يساوي 6 . 5 يوم من أيام الأرض ، وسنته 268 يوماً من أيام الأرض . نفهم من هذا قدرة الخالق سبحانه ، وأن هذا الكون خُلِقَ بدقّة وإحكام ليس مصادفةً ، وليس مجرد نظام رتيب مثل القوالب الجامدة ، إنما طلاقة قدرة وقيومية تحرك هذا الكون وتديره بكلِّ دقَّة وإحكام . ثم لو نظر الإنسانُ في نفسه لوجد عالماً آخر مليئاً بالآيات ، انظر إلى الناس واختلاف لغاتهم ولهجاتهم وتكوينهم وبصماتهم : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ } [ الروم : 22 ] . ولو شاء سبحانه لَجعَلنا على لون واحد ، ولسان واحد ، لكن من حكمته تعالى في الخَلْق أنْ يجمعك بغيرك في شيء متفق ، ثم يُميِّزك عنه بشيء آخر مختلف تماماً . كنا نعرف في التمييز بين الناس بصمة الإصبع ، الآن وجدوا بصمة للصوت ، وبصمة للفكِّ ، وبصمة للرائحة ، كل هذه البصمات تميز الإنسان ، بمعنى أنها لا تتكرر في شخص آخر على كثرة العدد ، أليس هذا إعجازاً في الخَلْق يدعونا إلى الإيمان بالخالق جلَّ وعلا ؟ قلنا : من عجائب الخَلْق في جسم الإنسان أنه لا يحدث فيه استطراقٌ حراريٌّ كما يحدث في باقي الأجسام ، فحرارة الجسم العادية 37 ْ تجدها في الإنسان عند خَطِّ الاستواء وفي الإنسان في القطب المتجمد ، لأن الجسم يحتفظ في داخله بهذه الدرجة ، ثم تجد لكل عضو من أعضاء الجسم حرارته المناسبة له كي يؤدي مهمته . فتتعجب حين تعلم أن العين لا تزيد حرارتها عن 9 ْ ، في حين أن الكبد لا تقلّ حرارته عن 40 ْ ، وهما في جسم واحد متصل ، ومع ذلك لا يحدث فيه استطراقٌ حراريٌّ فتتعدَّى حرارة الكبد إلى حرارة العين مثلاً . لذلك كما اهتمَّ الإسلام بتشريع الحلال والحرام وبيانه للناس اهتمَّ بدرجة أكبر ببيان آيات الله الكونية في كُلِّ أنواع المخلوقات إنسان وحيوان ونبات وجماد . واقرأ إن شئت : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ فاطر : 27 - 28 ] . ها هنا حكم شرعي في الصلاة أو الحج أو الصيام ؟ كلها دعوة للنظر وللتأمل في الكون ، والعلماء هنا هم علماء الكونيات لا علماء الدين ، فهم أعرفُ الناس بآيات الله ، وهم أعرفُ الناس بالله وهم أكثرُ الناس لله خشية ، لماذا ؟ لأنهم وقفوا على آياته بأنفسهم ، فهم أعرفُ الناس بها ، لذلك لم يهمل الدين علماً من العلوم أبداً ، لأن العلم يخدم قضية الإيمان وقضية التوحيد . الحق سبحانه وتعالى يعطينا في القرآن كلَّ هذه الأمثال لنأخذ منها الدليل على وجوده تعالى ، ونأخذ منها صفات القهر والحكمة والعزة والرحمة … الخ بل نأخذ من الآيات الكونية ما تستقيم به حياتنا وما نُصحِّح به مفاهيمنا عن الأشياء . فمثلاً خُذْ علاقة الرجل بالمرأة ، البعض يرى أن الرجل ضد المرأة وأنهما على طرفي نقيض ، فنسمع أنصارَ المرأة ويقابلهم أنصار الرجل وكأنها معركة ، في حين أننا نقرأ القرآن فنجد قوله تعالى { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [ الليل : 1 - 4 ] . فالمخلوقات المتقابلة لا تعني أنها متضادة ، وإياك أنْ تظنَّ أن الليل ضدُّ النهار ، نعم هو يقابله في طبيعة الأشياء لكن لا يضاده ، فالليل يساند النهار ويساعده ، والنهار يساند الليل ويساعده فهما متكاملان ، الليل للراحة والنهار للعمل ، وكلاهما مُهم للآخر ، وكلاهما له مهمة في الحياة ودَوْرٌ . كذلك الحال في الذكر والأنثى . إذن : هذه الآية الكونية تُعلِّمنا درساً في حياتنا الاجتماعية ، وأنه لا داعيَ لكلِّ هذه الضجة حول علاقة الرجل بالمرأة ، وعودوا إلى القرآن ففيه الشفاء ، وفيه حلول كل مشاكلنا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ … } .