Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 4-4)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
السياق القرآني هنا ينقلنا من النظر في آيات السماوات والأرض إلى النظر في ذات أنفسنا ، كما قال سبحانه : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] فالدليل على الوجود الأعلى لا يقتصر على آيات السماوات والأرض ، فالإعجاز في الذرَّة كما هو في المجرَّة ، وفي جسم الإنسان وأعضائه آيات وعجائب . وقد عبَّر الشاعر عن ذلك حين قال : @ وتَحسَبُ أنَّكَ جرْمٌ صَغيرٌ وَفيكَ انْطَوَى العَالَمُ الأكبر @@ وكلمة { خَلْقِكُمْ … } [ الجاثية : 4 ] ساعة تسمع كلمة الخَلْق تفهم منها الإيجادَ من العدم ، كان الشيء معدوماً فأوجده الله ، والخَلْق لا يُطلق على الحدث إنما يُطلق على المخلوق لذلك قال تعالى : { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ … } [ لقمان : 11 ] فمعنى خَلْق هنا يعني مخلوق . وبمعنى الحدث في { مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ … } [ لقمان : 11 ] . فقوله : { وَفِي خَلْقِكُمْ … } [ الجاثية : 4 ] أي : من الآيات الكونية خلقكم أي البشر . عملية الخَلْق لها مراحل هي التي مَرَّ بها سيدنا آدم حيث لم يكُنْ موجوداً فأوجده الله من العدم ، فكان طيناً فسوَّاه ونفخ فيه الروح فدبَّتْ فيه الحياة وصار إنساناً ، ثم جعل نسله من بعده بالتزاوج بين الذكر والأنثى . إذن : في خَلْقنا مرحلتان مرحلة الخَلْق الأول لأبينا آدم ، ومرحلة البَثِّ والنشْر عن طريق التكاثر ، لذلك قال سبحانه في آية أخرى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً … } [ النساء : 1 ] . إذن : لنا خَلْق من عدم وبَثٌّ أي نشر ، وانتشار من التناسل ، أما الدواب فلم يذكر فيها إلا مرحلة البث { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ … } [ الجاثية : 4 ] أي : ينشر ، فأين مرحلة خَلْقها ؟ أولاً : الدابة هي كلُّ ما يدبّ على الأرض غير الإنسان ، وفي اللغة لوْنٌ من الأسلوب يُسمُّونه الاحتباك وهو باب من أبواب البلاغة يعرفه المتخصصون فيها . والاحتباك أن يكون في الكلام شيئان يُوضح أحدهما الآخرَ ، ويغني عنه ، وأوضح مثال على ذلك في القرآن قوله تعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ … } [ آل عمران : 13 ] . فقوله { وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ … } [ آل عمران : 13 ] دلَّ على أن الأولى مؤمنة ، أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان ، فدلَّ المذكور على المحذوف بالمقابلة . فالمعنى في قوله تعالى : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } [ الجاثية : 4 ] أتى بالخَلْق في الأولى وترك البث ، وأتى بالبثِّ في الثانية وترك الخَلْق ، وعليه يكون المعنى : وفي خلقكم وما بثَّ منكم ، وفي خلق الدواب وما بثَّ منها . { ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ الجاثية : 4 ] فالحق سبحانه عرَّفنا كيفية الخَلْق الأول من العدم بخلقه لآدم ، وأخبرنا بمراحل هذا الخَلْق حتى استوى آدمُ إنساناً كاملاً يتحرَّك ويسعى في الأرض ولم يذكر تفاصيل خَلْق غيره لنقيسَ نحن على ما عرفناه . فلما تكلَّم عن حواء قال : { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا … } [ النساء : 1 ] يعني : على طريقتها ، كذلك لم يتكلم في خَلْق الدواب لأنها تُقاس على خَلْق آدم . ولا شكَّ أن المتأمل في خَلْق الإنسان والدوابّ يجد الكثير من الآيات والمعجزات الدالَّة على طلاقة القدرة للخالق سبحانه ، ففي الخَلْق الأول طلاقَةُ قدرة حيث خلق من العدم وعلى غير مثال سابق ، فأوجد آدم بلا أب وبلا أم ، ثم خلق منه حواء فكانت من أب بلا أم ، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب ، وخلق عامة الخَلْق من أب وأم . إذن : طلاقة القدرة استوعبتْ كُلَّ احتمالات المسألة عقلياً ، حتى ولو مرة واحدة ليحدثَ بها الدليلُ والإعجاز وليثبت الحقّ لنفسه سبحانه : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . والذي يملك العطاء يملك المنع ، فقد تتوافر دواعي الخَلْق والإنجاب لكن لا يحدث { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً … } [ الشورى : 49 - 50 ] . وتعرفون من قصة سيدنا زكريا عليه السلام كيف أنه لم يُنجب حتى بلغ من الكِبر عِتياً ، وكانت امرأته عاقراً حتى إنه يئس من هذه المسألة ، فلما أراد الله أنْ ينجب طَوَّع له الأسباب وبشَّره بولد وأيضاً سمَّاه له . هذه كلها آياتٌ من آياتِ الخَلْق ، وهي كثيرة وممتدة ، ففي كل مرحلة من مراحلها إعجازٌ وقدرة ، بدايةً من اللقاء بين الزوج والزوجة والتقاء الحيوان المنوي الذكري بالبويضة الأنثوية ، فإنْ تمَّ تخصيب البويضة حدث الحمل وتحوَّل الدم في غذاء للجنين فهو رزقه حتى يُولد ، وإن لم يحدث الحمل نزل هذا الدم في فترة الحيْض . وهذا يعني أن الخالق سبحانه حين يخلق الإنسانَ يخلق معه رزقه ، فالجنينُ لا يتغذَّى بغذاء أمه إنما بغذائه الخاص ، بدليل أن الأم لا تستفيد بهذا الدم إنْ لم يحدث حمل . وقوله سبحانه : { ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ الجاثية : 4 ] من اليقين وهو الإيمان والعقيدة الراسخة التي استقرتْ في القلب ، بحيث لا يتطرق إليها شك ، وبحيث لا تطفو إلى العقل ليناقشها مرة أخرى ، فهي عقيدة يعني القلب معقود عليها . وسبق أنْ بيَّنا هذه المسألة بأن الحواسَّ تنقل المحسَّات والقضايا إلى العقل الذي يُفاضل بينها ويُغربلها ، فما اقتنع به استقرَّ في القلب عقيدةً ومبدأ يسير عليه ويؤمن به بحيث لا يطفو للعقل مرة أخرى . هذا اليقين درجاتٌ أولها علم اليقين ، وعين اليقين ، ثم حَقُّ اليقين ، فعلم اليقين حين يُخبرك بالخبر صادقٌ لا تشكّ في صِدْقه ، وعين اليقين حين تراه بعينك ، وحَقُّ اليقين هو أنْ تباشره بنفسك . وقلتُ : أننا ذهبنا مرة إلى إندونيسيا ، ورأينا هناك أصبع الموز قرابة نصف المتر ، فلما عُدْتُ أخبرتُ أولادي بذلك ، فصار عندهم علم بذلك لأنهم يثقون بي ويعرفون أنِّي لا أكذب . فلما رأيتُهم مندهشين من الخبر فتحت الشنطة وأخرجتُ منها أصابع الموز ، فلما رأوْها صار عندهم عَيْنُ اليقين بهذه القضية ، لكن لعله شيء آخر غير الموز أو نموذج من مادة أخرى ، فأخذنا الموز وقطَّعناه وأكلنا منه فتحوَّلت المسألة إلى حق اليقين . وهذه المراحل الثلاث ذُكِرَتْ في القرآن الكريم في سورة التكاثر : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 5 - 7 ] وفي سورة الواقعة : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الواقعة : 95 - 96 ] .