Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 1-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه واحدة من الحواميم السبع ، وهي السور التي بدأتْ بقوله تعالى حم ، وهي سبع سور مُتصلة في القرآن الكريم أولها غافر : { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [ غافر : 1 - 2 ] أى : العليم بما يصلحكم ، ولا تَخْفى عليه منكم خافية . ثم فصلَّت : { حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ فصلت : 1 - 2 ] ثم الشورى : { حـمۤ * عۤسۤقۤ * كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الشورى : 1 - 3 ] ثم الزخرف : { حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الزخرف 1 - 2 ] ثم الدخان : { حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الدخان : 1 - 2 ] ثم الجاثية : { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [ الجاثية : 1 - 2 ] ثم الأحقاف : { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [ الأحقاف : 1 - 2 ] . وهي آخر الحَواميم . ونلاحظ أن هذه السُّور تسير في بدايتها على نظام واحد يؤكد على أن حم وغيرها من الحروف المقطَّعة مُنزَّلة من عند الله ، وهي وحْي يعلم الله مراده ، وهي في التنزيل مثل باقي القرآن وباقي الآيات الواضحات ، لذلك مرة يقول { حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ فصلت : 1 - 2 ] أي : هي ذاتها مُنزلة . وفي آية أخرى يقول : { حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الزخرف : 1 - 2 ] يعني : حم والقرآن الظاهر الواضح المعنى ، كلاهما تنزيل مُنزَّل من عند الله { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] . ونحن نؤمن بأن كل هذه الآيات من عند الله الذي نعرف معناه والذي لا نعرف معناه . قلنا : لأن الله تعالى يريد أنْ يحرس كلَّ إيمان بمشهد ، فالإيمان لا يكون إلا في الغيبيات ، ولا يكون الإيمانُ في المُشَاهد لنا . فمثلاً لا يصح أنْ نقول : نحن نؤمن بأننا نجلس الآن مع الإخوان في مسجد الفردوس ونُلقي درساً ، لكن نقول : نؤمن بأن الله موجود ، بأن الجنة حَقّ . ومن رحمة الله ولُطفه بنا أنْ يحرس الإيمان الغيبي بأمر مُشاهد لنأخذ من المشاهد لنا دليلاً على صدقه فيما غاب عنا . إذن : هذه الحروف المقطَّعة التي لا نعرف معناها نزلتْ هكذا لحكمة . خُذْ مثلاً رحلة الإسراء والمعراج تجد فيها غيباً يحرسه مشهد ، كيف ؟ تعرفون أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرّض لكثير من الأذى وضُيْق عليه وعلى دعوته وعلى المؤمنين به ، وكان آخر ذلك في الطائف حيث آذاه أهلها حتى شقَّ عليه ما يلاقي . وقلنا : إنه جلس يناجي ربه ويشتكي إليه قسوة هؤلاء ويطلب منه النُّصْرة . بعدها جاء حادث الإسراء والمعراج ، وكأنه رحلة تخفِّف عن رسول الله ورسالة تقول له : يا محمد إنْ جفاك أهل الأرض فسوف احتفل بك في أهل السماء وأذهب بك إلى مكان لم يذهب إليه أحدٌ قبلك ، وأريك من آياتي ما لم يره أحد قبلك . والمتأمل في سَيْر هذه الرحلة يجد أن الحق سبحان مهَّد بالإسراء للمعراج ، فجعل رحلة الإسراء آية أرضية وهي آية مشاهدة معروفة أبعادها وتفاصيلها ، وكثيرٌ من أهل مكة يذهبون في هذه الرحلة من مكة إلى بيت المقدس ، ويمكن أن يقام عليها دليل عقلي لمن لا يؤمن بها ؟ لذلك لما كذَّبه قومه وقالو : أتزعم أنك أتيتَ بي المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ؟ ثم طلبوا من رسول الله أنْ يصف لهم بيت المقدس ، وأنْ يعطيهم علامات في الطريق ، ولو كانوا على يقين من هذه الرحلة ما سألوا رسول الله ذلك . فهم إذن يريدون تعجيز رسول الله . لكن الله أيَّد رسوله وعرض أمامه صورة تفصيلية لبيت المقدس فأخذ رسول الله يصفه لهم ، ثم أخبرهم بالعير التي لهم في طريق التجارة ، وأنها بمكان كذا ، وفيها كذا وكذا ، ولما وصلتْ قوافلهم التجارية وجدوها كما أخبر رسول الله . إذن : أمكن إقامة الدليل على صدقه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء لتكونَ مقدمة للمعراج ، وهو رحلة سماوية لا يطلع عليها أحد ، ولا يمكن إقامة الدليل العقلي عليها ، لكن الذي خرق القوانين الكونية لمحمد في رحلة الإسراء يمكن أنْ يخرق له القوانين في رحلة المعراج . إذن : جعل الغيب الذي يُقام عليه دليلٌ مقدمة للغيب الذي لا دليلَ عليه . ثم إن كلمتهم التي اعترضوا بها على رسول الله لمَّا قالوا : كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ، هذه الكلمة نفعتنا فيما بعد ونردّ بها على دعاة التنوير والفلسفة الفارغة الذين يقولون إن الإسراء كان بالروح لا بالجسد . فنقول لهم : لو كان الإسراء بالروح ما قال كفار مكة هذه الكلمة ، وما قالوها إلا لعلمهم أنه كان حقيقة بالروح وبالجسد ، وأن رسول الله ذهب إليها وقطع المسافات على وجه الحقيقة . فالله تعالى يُنطق ألسنتهم بما يُؤيِّد الحق دون أنْ يشعروا ، وبما يثبت عنادهم وتغفيلهم كما فعل اليهود في حادثة تحويل القبلة ، علم الله ما سيقولونه وأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا … } [ البقرة : 142 ] . وأعلن محمد صلى الله عليه وسلم هذه الآية وتلاها على الملأ وتداولتها الألسنة ومع ذلك قالوها ، ولو كان عندهم قليلٌ من التعقل الديني لا الدنيوي لتوقَّفوا عن قولها . ومن ذلك أيضاً قولهم : { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ … } [ المنافقون : 7 ] فالحق ينطلق من ألسنتهم دون أنْ يشعروا به . كذلك الحال في آيات القرآن الكريم فيها مشهد وغيب ، فنأخذ المشهد دليلاً على صِدْق الغيب ، نأخذ الآيات الواضحة المعنى دليلاً على الآيات ذات الحروف المقطَّعة التي لا نعرف معناها ونقف عندها ونقول : الله أعلم بمراده منها ، لكن هي حَقٌّ وهي من عند الله نزلتْ كما نزلت باقي الآيات لكن معناها غير واضح . لذلك الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى هذه المسألة إشارة تفرق بين حم { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الزخرف : 2 ] حم الآيات الغامضة التى لا تعرفون لها معنى { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الزخرف : 2 ] البيِّن الواضح المعنى . فجعل الآيات الواضحات المعنى مبنية كلها على الوصل من أول بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة إلى { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [ الناس : 4 ] . فالقرآن في مُجْمله مبنيٌّ على الوَصْل إلا هذه الحروف المقطَّعة الأربعة عشر فهي مبنية على الوقف ، فتقرأ : ألف لام ميم حاميم وكأن هذا الوقفَ إشارة من الحق سبحانه أنْ لا تأخذوا هذه الحروف على نفس نسَق القرآن في النطق لأنها شيء آخر له خصوصية . صحيح أنها جميعاً من معين واحد ، وكلها من عند الله لكن قفُوا عند هذه الحروف وأرجعوا معناها إلى مُنزلها سبحانه ، فقد استَأثر بها لنفسه ليستديم إيماننا بالغيب ، وليصلنا دائماً به إيماناً وإسلاماً . وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرح لنا هذه المسألة فيقول : " ولا أقول ألم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " فكأن هذا الحرف وحده قائم بذاته له مدلول وله معنى يحسُن السكوت عليه ، وإلا لما بُنيتْ هذه الحروف على الوقف . وطالما أنها مختلفة عن باقي آيات القرآن في النطق ، فلا بدَّ أن لها خصوصية ، وأنَّ فيها أسراراً وكلّ ما بأيدينا أن نحوم حولها . ونلاحظ أيضاً أن الحروف في اللغة تنقسم إلى حروف مبني وحروف معنى ، فالكاف مثلاً حرف مبني يعني يدخل في بناء الكلمة ، ولا معنى له في كتب لكنه حين ينضم إلى غيره يعطي معنى كتب . أما الكاف في { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] فالكاف هنا حرف معنى يفيد التشبيه ، كذلك الباء حرف مبني في كتب وحرف معنى في بالله لأنه يفيد القسم ، كذلك في الحروف المقطَّعة في أوائل السور هي حروف مبني في شكل نطقها ، لكنها حروف معنى عند قائلها الذي يعلم معناها . وقد يُطلِع بعض عباده على هذه المعاني أو شيء منها فيفهمون منها معاني ، ولذلك نقول في تفسيرها : والله أعلم بمراده ، لأن حديثنا عنها مجرد اجتهاد ومحاولة للفهم . وقلنا : إن هذه الحروف أربعة عشر حرفاً من حروف الهجاء الثمانية والعشرين ، يعني أخذ نصف حروف المعجم ، ولكن أخذها بنظام محكم لا يمكن أن يأتي عَفْواً ، فأخذ من التسعة أحرف الأولى الألف والحاء وأخذ من التسعة الأخيرة سبعة وترك اثنين على عكس التسعة الأولى ، فلم يترك منها إلا الواو والفاء . إذن : ليس لها نسق معين ، لكن هندسة مقصودة لغاية مقصودة ، ثم العشرة الباقية في الوسط أخذ منها غير المنقوط ، وترك المنقوط ، فأخذ الراء وترك الزاي ، وأخذ السين وترك الشين ، وأخذ الصاد وترك الضاد ، وأخذ الطاء وترك الظاء ، وأخذ العين وترك الغين . فإنْ قال قائل : كيف وإعجام الحروف أي نقطها لم يأتِ إلا في عصر الدولة الأُموية . نقول : ربُّها وقائلها الناطق بها يعلم ما تصير إليه ، فكلها داخلة في العلم الأعلى ، لذلك نقف عندها ونأخذها بالكمال الذي وضعه قائلها فيها ، فهي كما قلنا مثل أسنان المفتاح التي تفتح لك . فإذا تغيَّر المفتاح لا يفتح . إذن : كل شيء في القرآن وُضع بحكمة ، حتى في القراءة سواء المتعلم الذي يعرف المعنى أو الأمي الذي لا يعرف تجد القراءة على نوعين قراءة تأمل وتعبد وقراءة استنباط ، وهذه ينبغي أنْ تُعملَ فيها عقلك . وإنْ قرأت للتعبد فإياك أنْ تُعملَ عقلك ، وخذ الكلمة أو الحرف بمراد قائله منه ، وأنت حين تأتي بالمعنى الذي على قدرك سوف تحدد كمال الله وكمالاته التي لا تتناهى . لذلك وجدنا أسرع الناس حفْظاً للقرآن هم الذين يقرأونه دون توقُّف عند معناه ، بل يقرأونه كما هو بفَهْم أو بغير فهم . وقوله تعالى : { تَنزِيلُ … } [ الأحقاف : 2 ] أي : الذي نزّل حم نزلّ { ٱلْكِتَابِ … } [ الأحقاف : 2 ] أي : القرآن { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [ الأحقاف : 2 ] وتأمل هنا الوصف بالحكمة ، فكل شيء نزل بحكمة حتى في هذه الحروف التي لا نعرف لها معنى . ثم يقول الحق سبحانه : { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ … } .