Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 20-20)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
التقدير هنا : واذكر يا محمد يوم يُعرض الذين كفروا على النار ، فساعة ترى الظرف فابحث عن الحدث الذي فيه ، لأن الزمن لا يُمدح ولا يُذمُّ لذاته ، إنما بحسب الفعل الذي يحدث فيه . والحدث هنا أنْ يُعرض الذين كفروا على النار ، لكن مَنْ يُعرض على مَنْ ؟ النار غير عاقل والكافرون عُقلاء ، فالنار تُعرض عليهم كما تقول : عرضتُ القماش على المشتري ، لكن يوم القيامة سيتبين لهم أن النار عاقلة وهم الذين سيُعرضون عليها . واقرأ : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وثبت في الحديث الشريف أنها تشتاق لأهلها من الكافرين والعاصين وأنها ستتكلم وتنطق . والحق سبحانه يخاطب ما شاء بما شاء . إذن : لا نفهم هذه الآية بقوانين البشر ، لأن لله قوانين أخرى مع الأشياء ، لذلك لو علّمها الله لأحد من خَلْقه لعلمها وتعامل بها ، كما رأينا في قصة سيدنا سليمان عليه السلام { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ … } [ الأنبياء : 79 ] . فكان يفهم لغة الحيوان والطير ، لذلك لما سمع النملة وفهم منها تبسَّم ضاحكاً من قولها ، وشكر المنعم عليه بهذه النعمة . ومنهم من قال : إن في الآية قلباً كما تقول : عرضتُ الحوض على الناقة ، والواقع أنك تعرض الناقة على الحوض لتشرب منه . وقوله تعالى : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا … } [ الأحقاف : 20 ] أى : يقال لهم هذا الكلام في الآخرة بعد أنْ تقوم الساعة . لكن هناك آية أخرى يظن البعض أنها تتعارض مع هذه . وهي قوله تعالى : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ففهموا منها أن العرض يكون في الدنيا لأنه عطف عليها بقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ … } [ غافر : 46 ] . لكن المتأمل في هذه الآية يجد أن هذا العرش ليس في الدنيا ولا في الآخرة ، إنما في مرحلة البرزخ ، كيف ؟ لأن الغدو والعشي ناشىء من حركة الشمس ووجود الليل والنهار ، والآخرة ليس فيها شيء من هذا . فالآخرة ليس فيها شمس ولا قمر ، ولا ليل ولا نهار { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ … } [ إبراهيم : 48 ] فنحن في الدنيا نعيش بالأسباب ، أما في الآخرة فنعيش بالمسبِّب سبحانه الشمس تُنير لنا في الدنيا ، أما الآخرة { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا … } [ الزمر : 69 ] . إذن : العرض هنا في البرزخ { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] فالعرض ليس في الآخرة بل الدخول ، فالعرض في الأولى غير العرض في الثانية ، وما يدريك أنهم قبل أنْ يدخلوا النار يُعرضون عليها ، لأن الصراط مضروب على متن جهنم ، فيُعرضون على النار قبل أنْ يدخلوها . وقوله تعالى : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا … } [ الأحقاف : 20 ] هذه الآية حَلَّتْ لنا إشكالاً ، حيث نرى أهل الكفر والإلحاد أكثر منا مالاً وزينة في الدنيا ، والبعض يسأل عن المخترعين والمكتشفين من غير المسلمين الذين خدموا البشرية بعلومهم ، هل لهم جزاء على ذلك ؟ الجواب هنا { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا . . } الأحقاف : 20 ] ولم يبق لهم نصيب في الآخرة ، فهذه سنة الله التي لا تتبدل ، فالله تعالى أعطى الأسباب للمؤمنين وللكافرين . فمَنْ أحسن في الأسباب لم يُحرم ثمرة إحسانه . حتى لو كان كافراً ، ومَنْ قعد وتخاذل حُرم ولو كان مؤمناً ، لأن هذا عطاء الربوبية . والذين قدَّموا للبشرية هذا العطاء وخدموها هذه الخدمة ، أكان في بالهم الله ؟ أبداً كان في بالهم الحضارة والتقدم وخدمة التاريخ والإنسانية ، وقد أخذوا منها جزاءهم سمعة وصيتاً وتخليداً لذكراهم ، أقاموا لهم التماثيل وألَّفوا فيهم الكتب . إذن : أخذوا أجورهم ممَّنْ عملوا لهم وانتهت المسألة . لذلك يقول تعالى في وصف حال هؤلاء : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . فوجىء بإلهٍ يحاسبه لم يكُنْ في باله ساعة العمل ، هذا حال الكافر ، أما المؤمن فيعمل العمل في الدنيا وعَيْنه على الآخرة . " يُروى أن سيدنا رسول الله مرّ على أهل الصُّفَّة فوجدهم يلبسون الملابس المخرَّقة ولا يجدون ما يُرقِّعونها به ، فقال لهم : أيُّ أيامكم خير ؟ أهذا اليوم أو يوم يُغدي عليكم بجفَانٍ ويُراح عليكم بجفان ، وتغدون في حلة وتروحون في حُلة أخرى ، وعلى أبوابكم ستائر مثل ستائر الكعبة " . وسيدنا عمر بن عبد العزيز كان قبل الخلافة مشهوراً بأنه الفتى المدلَّل الذي يتقلب في النعيم ليل نهار ، حتى إنه كان يلبس الحرير ، وكان الخدم الذين يغسلون له ملابسه يأخذون من الناس رشوة ليغسلوا ملابسهم في الماء الذي غسل فيه ثياب عمر لكثرة ما بها من العطر والطيب . فلما تولى الخلافة زهد في هذا النعيم وعاش حياة الزهد والتقشف ، وارتدى الثياب الخشنة ، فلما سألوه عن ذلك قال : والله لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً وأحسنكم ثياباً ، لكني أستبقي طيباتي للآخرة ، وإن لي نفساً توَّاقة - يعني : عندهما طموح للأحسن - تاقتْ للإمارة ، فلما نلْتها تاقتْ للخلافة ، فلما نلتها تاقت للجنة . لذلك رُويَ عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالتْ : كان يمرُّ الهلال ثم يمر الهلال ، ثم يمر الهلال . يعني : ثلاثة أشهر ما يُوقد في بيت محمد نار . قيل : فما طعامكم ؟ قالت : الأسودان الماء والتمر . إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح ، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا . إذن : كان بيت سيدنا رسول الله نموذجاً ومثالاً وأُسْوة للفقراء . وقوله { فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا . . } [ الأحقاف : 20 ] بالله ساعة تفكر في معنى كلمة الدنيا ، هل تجد لها وصفا أدنى وأقل من هذا ؟ وساعة تسمع الدنيا لا بد أنْ تتذكر المقابل ، وأن هناك حياة مقابلة تُوصف بأنها العليا ، وهي التي فيها الجزاء . { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ … } [ الأحقاف : 20 ] أي : يوم القيامة تُجزون على أعمالكم عذاب الهون . يعني : الهوان والذلة ، لأنكم استكبرتم في الدنيا عن قبول الحق . ومن الهُون هذه أُخذِتْ كلمة الهون ، وهو الآلة التي ندقُّ فيها الأشياء في المطبخ ، فهو آلة الطحن والدقّ وسحق المادة التي تُوضع فيه . فكأن العذاب الذي سيلاقونه سيسحق كبرياءهم ويجعلهم أذلةَ مُهانين { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ … } [ الأحقاف : 20 ] يعني : بسبب استكباركم وتعاليكم عن قبول الحق { فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ … } [ الأحقاف : 20 ] دل على أن هناك استكباراً بالحق ، وهو أنْ تتكبَّر على المتكبر لذلك قيل : الكبر على أهل الكبر صدقة . لذلك كان سيدنا حمزة في الحرب يرتدي عصابةَ الموت ، وهي عصابة حمراء ويرفع سيفه ، ثم يسير بين الصفوف يتبختر مزْهُواً بنفسه ، فنظر إليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : هذه مِشْية يبغضها الله إلا في هذا الموقف ، وقال : رحم الله امرءاً أبدى لهم من نفسه قوة . ونفهم من آيات القرآن الكريم أن المؤمن مِنْ وصفه في القرآن أنه غير مطبوع على طبع واحد ولا قالب واحد ، إنما الموقف الذي يعيشه هو الذي يملي عليه الطبع المناسب للموقف . واقرأ : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] . إذن : هو عزيز في موقف ، وذليل في موقف آخر ، شديد في موقف ، ورحيم في موقف آخر ، فهو يجمع بين المتناقضيْن لأن المقام مختلف . وقوله : { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } [ الأحقاف : 20 ] إذن : هناك استكبار وهناك فسق ، الاستكبار : التعالي عن قبول الحق ، والفسق : من فسقَتْ الرُّطبة يعني : خرجت عن قشرتها . والبلح له في استوائه أعمار ، فلما يكتمل الحجم يبدأ اللون أحمر أو أصفر ثم يرطب وتكون له قشرة ، فإذا كان في بيئة جافة جَمُدَ وجَفّ ولصقتْ القشرة في لحم البلحة ، وهذا أجود أنواع التمر . فمعنى الفسق هنا يعني الخروج عن وعاء الطاعة ، ولما تتأمل الاستكبار والفسق تجد أنهما يجمعان بين عمل القلب وعمل الجوارح . فالإنسان له قلبٌ وقالب ، القلب محلُّ الأسرار والغيبيات ، ومحل الإخلاص أو الرياء ، ومحلُّ التواضع أو التعالي ، فالاستكبار من أعمال القلب ، قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً … } [ النمل : 14 ] . أما الفسق فهو الخروج عن الطاعة التي هي عمل الجوارح .