Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 29-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ينتقل السياق بنا إلى مجال آخر من مجالات الدعوة ، فبعد أنْ حدَّثنا عن موقف الإنس وما كان منهم من تصديق لرسول الله أو تكذيب يُحدِّثنا عن الجن ، وهم الجنس المقابل للإنس في الدعوة . حيث أُرسل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن ، إذن : الجن جنس مكلّف مثلنا ، لكنه غيب عنا فلا نراه { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ … } [ الأعراف : 27 ] . والجن له خِفَّة في الحركة وتغلغل في الأشياء لطبيعته النارية ، لذلك لو أشعلت النار خلف هذا الجدار بعد لحظات تُحس بها هنا . إذن : صدِّق أنه من نار ، وأنه يتغلغل خلال الأشياء ، وأن له طبيعة غير طبيعة الآدمي . الحق سبحانه يريد أنْ يُبيِّن لنا أن الجن وإنْ كان غائباً عنَّا إلا أنه مثلنا في التكليف وأنه مثلنا مُخاطب بالقرآن ، ومنه المؤمن والكافر والطائع والعاصي . ونحن نعلم قصة الصراع بين الجن والإنسان ، منذ خلق آدم عليه السلام وأمر إبليس بالسجود له فأبى واستكبر ، وكانت حجته أنه خُلِق من نار ، وآدم خُلِق من طين ، فكيف يسجد له وهو أفضل منه على حَدِّ قوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الاعراف : 12 ] . صحيح أن آدم هو أيضاً وقع في المعصية ، لكن فرْقٌ كبير بين معصية آدم ومعصية إبليس ، آدم عصى ربه حين أكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها ، عصى عن غفلة وتغلب النفس ووسوسة الشيطان . ثم لما عرف معصيته اعترف بها وتاب عنها واعترف بأنه أخطأ في حَقِّ ربه وظلم نفسه { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] وقال في البقرة : { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [ البقرة : 37 ] . إذن : قُبلت توبة آدم لأنه لم يرد حكم الله ، أما إبليس فردّ الحكم ولم يخضع له فطُرد من رحمة الله وأُبْعد ، وفرْق بين أنْ تعصي الحكم وأنت معترف به ، مُصدِّق بأنه من الله ، وبين أنْ ترده . لذلك نقول هذا الكلام لمن يجادل مثلاً في مسائل من الدين الحكم فيها واضح ، كالربا مثلاً أو إطلاق اللحية فيقول : التعامل بالربا الآن حلال ، نقول لهذا : أنت بهذا القول ترد حكم الله في الربا ، والأسلم لك أن تقول أنه حرام لكن ظروفي تجبرني عليه مثلاً . ثم لك أنْ تقتدي بأبيك آدم فتتوب ، تستغفر لعل الله يغفر لك ، بدل أنْ تعاند ربك في حكمه ، وهذه لا تقدر عليها ، وتذكَّر قول الشيطان { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ … } [ النساء : 119 ] . فاحذر هذه المسألة ، وأنت تعلم أن إبليس كان في يوم من الأيام طاووس الملائكة فلما عاند واستكبر وردَّ حكم الله جعله ملعوناً مطروداً من رحمة الله . ولنا ملحظ هام في أمر الله لآدم بعدم الأكل من الشجرة { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ … } [ البقرة : 35 ] فالنهي عن مجرد قربها ، وهكذا كل أمر في ما حرَّمه الله { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] . أما ما أحلَّ الله لك فقال فيه : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] يعني : لا تتعدوا ما أحلَّ الله ، أما الحرام فلا تقربوه لأن مَنْ حام حول الحِمَى يوشك أنْ يقع فيه . وذرية إبليس تسير على نهجه في إغواء بني آدم ، ونحن لا نراهم كما لا نرى الملائكة ، مع الفارق بينهما ، فالملائكة من نور ، والشياطين من نار . وهنا ينقل الحديث في شأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس إلى الجن ، والإخبار بأن الجن مُكلف ، وبأنه يستمع القرآن لم يأتِ به محمد صلى الله عليه وسلم من عند نفسه ، إنما يحكي لنا ما أخبره الله به من أن الجن يستمعون القرآن . فقال في سورة الجن : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ … } [ الجن : 1 - 2 ] . وكأن الحق سبحانه يقول لنبيه محمد : أنا لم أبعثك لتذهب إلى الجن وتخاطبهم لأنك لا تراهم ، لذلك صرفتهم إليك ، وأتيتُ بهم إليك ليستمعوا القرآن وأنت لا تشعر بهم ، ولولا إخباري لك بذلك ما كنت تعلمه . وهنا يقول : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ … } [ الأحقاف : 29 ] فأنت تقرأ وهم حولك يستمعون . وقولهم في سورة الجن { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ … } [ الجن : 2 ] وهنا قالوا : { كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ … } [ الأحقاف : 30 ] دلّ على أن للجن صلة بالأنبياء السابقين ، وأنهم مكلفون مثلنا . وفي سورة الرحمن : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } [ الرحمن : 31 ] يعني : نفرغ لحسابكم ، فبعد أنْ تركناكم على راحتكم تفعلون ما تريدون ، لا تظنوا أن هذه غفلة منا عنكم ، إنما أمهلناكم لنؤكد أمر الاختيار الذي خلقناه فيكم ومنحناكم إيَاه . فالثقلان : الجن والإنس سواء في الحساب ، كما هم سواء في التكليف . روُي عن سيدنا أنس رضي الله عنه أنه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبل من جبال مكة ، فإذا رجل عجوز يُقبل علينا معه عكاز يتكىء عليه ، فلما رآه رسول الله عرفه . وقال : كأنها مِشْية جِنِّي ونظمته ، فقال الرجل : نعم أنا من الجن ، فقال له رسول الله : من أنت ؟ قال : أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس ، فقال له : بينك وبين أبيك إبليس أبوان اثنان ؟ قال : نعم ، ولقد أدركتُ من الزمن أكثره وبقى أقلُّه ، ولقد شاهدتُ قابيل وهو يقتل هابيل . فهذه الرواية دليلٌ على طول أعمارهم ، وأنهم يتشكلون بأشكال مختلفة ، كما يتشكل الملَك ، فنحن لا نرى الملَك على حقيقته ، ولا نرى الجني على حقيقته ، إلا إذا تشكَّل في صورة إنسي . وأنتم تعرفون حديث جبريل الطويل " لما جاء مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل غريب ، لكن لا يُرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه من الجالسين أحد ، حتى جلس بجوار رسول الله ، وأخذ يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والرسول يجيب ، ثم انصرف فلما سأل الصحابة عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه جبريل : جاء يُعلِّمكم أمور دينكم " . لذلك رأينا بعض أعداء الدعوة المحمدية يثيرون حولها بعض الإشكالات ، ومنها قولهم أنْ يكون الرسول ملكاً وهذا إشكال مردود ، فلو جاء الرسول ملَكاً لجاءهم في صورة رجل ، وإلا كيف يُبلِّغهم وكيف يكون التلقي عنه ؟ إذن : سيظل الإشكال قائما ، ثم إن المَلك لا تصح الأسوة به ، لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فكيف يكون أُسوةً لمَنْ في طبيعته الخطأ والغفلة والنسيان ؟ إذن : شرط في النبي الرسول أنْ يكون من جنس مَنْ أُرسل إليهم لتقوم به الأُسوة . والحق سبحانه أعطانا صورة تفصيلية لحال الجن ، وأن منهم المؤمن والكافر ، فقال حكايةً عنهم : { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً * وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 14 - 15 ] . لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد قرأتُ سورة الرحمن على إخوانكم الجن ، فكانوا أشدَّ استجابة منكم ، كانوا إذا سمعوا { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ينطقون في نَفَس واحد : لا بشيء من نَعْمائك ربنا نكذب " ، فلك الحمد ، يكررونها بتكرار الآية . واسمعهم يقولون : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا … } [ الجن : 3 ] يعني : تعالتْ عظمته ، ولهذه العظمة { مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [ الجن : 3 ] إذن : الجن يعلمون قضايا الإيمان وقضايا التوحيد ، وربما كانوا أدقَّ منا في التعبير عنها ، ويكفي أنهم حكموا على إبليس بالسَّفَه ، فقالوا : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } [ الجن : 4 ] . نعود إلى ما كنا بصدده من قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ … } [ الأحقاف : 29 ] النفر : هم الجماعة من الثلاثة إلى الأربعين ، صرفناهم إليك يعني : أتينا بهم إليك بدل أنْ تذهبَ أنتَ إليهم . { فَلَمَّا حَضَرُوهُ … } [ الأحقاف : 29 ] حضروا القراءة { قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ … } [ الأحقاف : 29 ] استمعوا باهتمام وتدبُّر يعني : وصَّى بعضهم بعضاً بالإنصات { فَلَمَّا قُضِيَ … } [ الأحقاف : 29 ] انتهتْ القراءة { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] ذهبوا إلى قومهم ينذروهم ويُبلِّغونهم ما سمعوه . { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ … } [ الأحقاف : 30 ] أي : القرآن ، وقولهم { مِن بَعْدِ مُوسَىٰ … } [ الأحقاف : 30 ] يدل على أنهم كانوا على صلة بالرسل السابقين ، وأنهم كانوا مؤمنين بسيدنا موسى يعني : كانوا من اليهود . وذكروا موسى دون عيسى - عليهما السلام - لأن كتاب موسى هو المنهج الذي ينظم حركة الحياة وفيه شرائع وأحكام ، أما كتاب عيسى فكان مجرد وجدانيات ووصايا ، لذلك تنبهوا لهذه المسألة وجمعوا بين الإنجيل والتوراة في كتاب واحد مع وجود عصبية بينهما ، وأسمَوْهُ الكتاب المقدس . ومعنى { مُصَدِّقاً … } [ الأحقاف : 30 ] أي : القرآن مُصدِّق { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ … } [ الأحقاف : 30 ] لما قبله من الكتب السماوية ، وما دام مُصدِّقاً لها إذن جاء بما جاءتْ به ولكن يزيد عليها أنه { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الأحقاف : 30 ] بما يناسب عالمية التدين . فكلّ رسول قبل محمد كان يأتي ليعالج أمراض مجتمعه في زمن محدود ومكان محدود ، وقد يتعاصر الرسولان ، كما رأينا في سيدنا إبراهيم ، عاصره سيدنا لوط ، وسيدنا موسى عاصر سيدنا شعيب . فالعالم في هذا الوقت كان في انعزال ووحدة ، لم يكُنْ هناك الالتقاء الموجود الآن ، والذي يجعل العالم كله كقرية صغيرة ، فهذه الحياة المنعزلة تجعل كلَّ مجتمع لا يدري بغيره . لذلك كان لهم مفاسد خاصة تحتاج كلٌّ منها إلى رسول ليُصلحها ويأخذ بأيدي قومه إلى الله ، فقوم عبدوا الأصنام من دون الله ، وآخرون طفَّفوا المكيال والميزان ، وآخرون انحرفوا جنسياً عن الطبيعة التي خلقها الله ، وكل جماعة من هؤلاء تحتاج إلى رسول . لكن لما التقى العالم ، ووُجدتْ بينه وسائل انتقال كان لا بُدَّ من رسول واحد ، لأن المفاسد والآفاق ستتحد ، لا بد من رسول واحد يصلح لكلِّ زمان ومكان ، لذلك شرف كل زمان ومكان بالجامع للخير في كل زمان ومكان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . إذن : من الجن جماعة سمعوا وتحمَّلوا مهمة البلاغ ، لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نضَّر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها ، وأدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها ، فرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع " . نعم ومن يدريك لعل المبلَّغ يكون أحرصَ على التطبيق من السامع ، وقد فطن الشاعر العربي إلى هذا المعنى فقال : @ فَخُذْ بِعلْمي وَلاَ تَنْظُرْ إلَى عَملِي وَاجْنِ الثِّمارَ وَخَلِّ العُودَ لِلنارِ @@ ثم يستمر هؤلاء الجماعة من الجن فى تبليغ قومهم وإنذارهم بما سمعوه : { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ … } .