Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تأمل هنا ما أحسن التقاء وتناسب نهاية السورة مع بداية الأخرى ، ففي نهاية الأحقاف : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ الأحقاف : 35 ] وهنا { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ } [ محمد : 1 ] فكأن الفاسقين هم الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله . عرَّفنا الكفر أنه الستر سَتْر الحقيقة ، أو ستر آثار الحقيقة ، فكلمة كفر تقتضي بمدلولها وجود مستور ، والكفر ماذا يستر ؟ يستر نقيضه وهو الإيمان ، إذن : وُجد الإيمان أولاً ، ثم جاء الكفر ليَستره . فكلمة الكفر أول دليل من أدلة الإيمان ، لأن الإيمان أمر فطريّ ، وغريزة في النفس البشرية وهي ما تزال في عالم الذر لما أخذ الله عليها العهد { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ … } [ الأعراف : 172 ] . وقد لا يستر الكفر الشيء ، إنما يستر آثاره ، كما في قوله تعالى : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ … } [ النحل : 112 ] . إذن : كفرت بالله شيء ، وكفرت بأنعم الله شيء آخر . والكفر بالنعمة يكون من عدة وجوه ، فمن كُفر النعمة الغفلة عنها وعدم البحث عن أسبابها ، وعدم استنباطها في الكون بما فيه من أسباب : الماء والهواء والأرض . اقرأ مثلاً : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 9 - 10 ] . إذن : ربنا أعطانا الأسباب وأمرنا بالبحث فيها واستنباطها ، وعدم التكاسل عن استخراج ما في الطبيعة من خيرات ، فبعد أنْ أعطاك الله أسباب النعمة فلا تتهاون في شأنها وتعيش شحاذاً عالة على غيرك . وقد يبحث الإنسان عن النعمة ويستنبطها لكن يسترها عن مستحقيها ويكنزها عنهم ، وهؤلاء قال الله فيهم : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [ التوبة : 34 - 35 ] . إذن : الكفر إما كفر بالله بإنكار وجوده سبحانه ، أو كفر بنعمه والآئه . وقوله تعالى { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ محمد : 1 ] يعني : منعوا الناس أنْ يؤمنوا بالله ، أو منعوا آذانهم أنْ تسمع إنذار الدعوة إلى الله ، وصدُّوا أبصارهم ومنعوها أنْ ترى آيات الله في الكون وأنْ تتخذ منها دليلاً على الخالق سبحانه ، وصدُّوا قلوبهم عن الإيمان بالله وقبول اليقين . فهذه كلها مفعولات لصدُّوا ، إذن : هؤلاء كفروا ولم يقتنعوا بكفر أنفسهم ، بل حاولوا أنْ يجرُّوا غيرهم إلى ساحتهم . لذلك وقف المستشرقون عند هذه المسألة يقولون : أنتم تقولون آيات محكمة ، ثم بعد ذلك نجد فيها شبهة التناقض ، مثل قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ … } [ الزمر : 7 ] . ويقول في موضع آخر : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ … } [ النحل : 25 ] الواقع أنه لا تناقضَ بين الآيتين ، لأن الحدث مختلف ، لأنهم لما ضلوا في أنفسهم حملوا أوزارهم ، ولما أضلوا غيرهم حملوا وزر ضلالهم ، ووزر إضلالهم للغير . ومعنى : { أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ } [ محمد : 1 ] أبطلها وجعلها غير ذات فائدة ، لأن معنى الضلال عدم الاهتداء إلى الطريق الموصّل للغاية وهؤلاء عملوا أعمالاً لا تعود عليهم بالنفع ، وما النفع في الكفر وصدّ الناس عن الإيمان ؟ حتى الذين يفعلون الخير وهم خارج ساحة الإيمان لا يُقبل منهم ولا يشفع لهم هذا الخير في الآخرة ، لأنهم ما فعلوه من منطلق الإيمان ، إنما فعلوه من منطلق الشهرة والسمعة والحضارة وخدمة البشرية إلى آخر هذه الشعارات . لذلك يقول تعالى : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . ويقول : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] فهؤلاء هم الذين يُقال لهم يوم القيامة : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا … } [ الأحقاف : 20 ] . وفى المقابل يقول سبحانه : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } .