Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 2-2)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلنا : إن المتقابلات يُظهر بعضها بعضاً ، وذكر المتقابلات من أسلوب القرآن ، ليحدث مقارنة بين الأمرين فتتضح الصورة كما في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] . وهنا يقول في مقابل الذين كفروا { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ محمد : 2 ] ولم يقل آمنوا بمَنْ ، لأن الإيمان أمر فطري ، وساعة يُطلق ينصرف إلى الإيمان بالله ، لأنه هو الإيمان الأول . والفعل آمن يتعدى بالباء تقول آمن به يعني : اعتقد وجوده ، ويتعدَّى باللام ، تقول آمن له : يعني صدَّقه ، وقد يتعدَّى بلا حرف كما في { وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 4 ] وكلها تؤدي معنى الأمان والاطمئنان والسلام . وقوله : { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ محمد : 2 ] دائماً ما يقرن القرآن بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن الإيمان عمل القلب ، أما العمل الصالح فعمل القالب والجوارح ، فمن القلب والقالب يكون الامتثال إيمان قلب للعقيدة ، وإيمان قالب لطاعة الأمر ممن يعتقد به . وسيد الجوارح كلها في الإنسان هو القلب ، لأنه الآلة التي تضخ الدم وهو سائل الحياة إلى جميع أجزاء الجسم ، فإذا عَمُر القلب بالإيمان ضخَّه إلى كل الأعضاء فاستقامتْ . لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة ، إذا صلُحتْ صَلْح الجسد كله ، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . عمل القلب أنْ يؤمن بالله وبما يخبر الله به من الغيبيات : يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويؤمن بالقدر خيره وشره ، ثم يأتي عمل الجوارح ، فالعين لا تمدها إلى محارم غيرك ، واللسان لا تشهد به زوراً ، ولا تغتب به الناس ، ولا تقذف به المحصنات ، ولا تحلف به يميناً كاذبة . والبطن لا تملؤها إلا من الحلال ، واليد لا تسرق بها ، ولا تقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ، والرِّجْل لا تسعى بها إلى محرم . إذن : كل جارحة لها عمل صالح ، ويجب أنْ تجنبها الحرام ، وهناك من العمل الصالح ما يشمل كل الجوارح وهو بر الوالدين . لذلك قرنه الله بعبادته فقال : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً … } [ النساء : 36 ] . وفي سورة العصر بيان لأهمية العمل الصالح بعد الإيمان بالله ، فقال تعالى : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ العصر : 1 - 3 ] . وقوله تعالى : { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ … } [ محمد : 2 ] قوله تعالى : { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ … } [ محمد : 2 ] بعد { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ محمد : 2 ] دل على وجوب الإيمان بالرسل السابقين . لذلك قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ … } [ الشورى : 13 ] . ذلك لأن أصل الدين واحد وهو عبادة الله وحده ، فقضية الإيمان واحدة عند كل رسل الله ، ومن الإيمان بالله يتفرع الإيمان بالكتب وبالرسل وبالآخرة والحساب ، لأنك آمنتَ بالله . لكن هل يخاطبك اللهُ وحدك ويقول لك : افعل كذا ولا تفعل كذا ؟ لا إنما يختار للبلاغ عنه مَنْ يصطفيه من الرسل { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ … } [ الحج : 75 ] . اصطفى من الملائكة جبريل ليكون آمين وحيه ، واصطفى من الناس الرسل والأنبياء ، ففرع الإيمان بالله أنْ نؤمن برسل الله كلهم ، وأنْ نُسوِّيَ بينهم في التعظيم . وأذكر أن أحد المستشرقين سألني في سان فرانسيسكو : كيف تبيحون للمسلم أنْ يتزوج كتابية ، ولا تبيحون للكتابي أنْ يتزوج بمسلمة ؟ لماذا لم تجعلوها كالطعام والشراب ؟ قلت لهم : لأن المسلم مؤمن برسول الكتابية ، أما الكتابيّ فهو غير مؤمن برسول من يريد أن يتزوجها المسلمة . وقوله : { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ … } [ محمد : 2 ] أي : ما نزل على محمد هو الحق ، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغيّر ولا يتبدَّل ، ثم تأتي ثمرة الإيمان { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [ محمد : 2 ] . من رحمة الله بعباده أنْ شرعَ لهم التوبة ، وفتح لهم باب الاستغفار ، فهو سبحانه خالقهم وأعلم بهم وبما يصلحهم ، يعلم أن الإنسان من طبيعته الغفلة . لذلك قال : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ … } [ المائدة : 15 ] وشرع لنا الكفارات ، فالصلاة إلى الصلاة ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، كلها مُكفِّرات للذنوب وكأنها أوكازيونات للمغفرة حتى لا نيأس من رحمة الله ، ولا نتمادى في المعصية . فالمغفرة للذنوب رحمة يرحم اللهُ بها عباده حتى لا يدخلوا من باب اليأس وتنتشر المعصية وتستشري بين الناس . وقوله : { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [ محمد : 2 ] كل المفسرين يقولون يعني : أصلح حالهم كله النفسيّ والمعنوي والمادي ، لكن فَرْق بين بال وحال : البال هو في الواقع الخاطر الذي يخطر في العقل ، تقول : هذا الشيء في بالي يعني : في عقلي لا يفارقني ، والإنسان عادة ما يشغل باله بالحالة التي هو فيها ، فالطالب مثلاً : يشغل باله بالنجاح والرسوب والكلية والعمل بعد التخرج ، فمَنْ أصلح الله باله انصلح حاله .