Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ مُّحَمَّدٌ } اسمه صلى الله عليه وسلم { رَّسُولُ ٱللَّهِ … } [ الفتح : 29 ] وصفه الجديد ، لأننا عرفنا محمداً أولاً قبل أنْ يكون رسول الله ، ومحمد من الحمد يعني أن الناس تحمده وقد حمده قومه منذ صِغَره ، وقالوا : الصادق الأمين . فقد كانت سيرته وماضيه بينهم يدلّ على هذه الصفات ، وعلى أنه شخص مميَّز بين أقرانه وأنه غير عادي . وقد أجمعوا على ذلك حتى قبل الرسالة ، وكانوا يرون في طفولته أنه لم يُصَبْ بشيء من لوثة الطفولة ولهوها ولعبها ، رأوا أنه كان يرعى الغنم وكان مثله من الفتيان الذين يرعون الغنم في البادية ينزلون بالليل إلى مكة يحضرون سهرات اللهو . أما هو فقد فكر مرة في أنْ ينزل معهم ، فلما ذهب معهم إلى هناك أخذه النوم ، فلم يستيقظ إلا بعد أنْ انفضَّ السامر . فكأن الله عصمه ونزَّه سمعه وبصره أنْ يسمع أو يرى شيئاً من هذا ، أما رفاقه فقد تعجَّبوا لأنهم لم يروْه بينهم ، لذلك أصبح مأموناً عندهم ، ولما لم يُجرِّبوا عليه كذباً قط أصبح جديراً بأنْ يقولوا عنه : الصادق الأمين . وفي يوم من الأيام اجتمع الصبيان لحمل حجر ثقيل يلعبون به ، فلما ثَقُلَ عليهم شمَّروا ثيابهم حتى لايؤثر الحجر في أكتافهم ، وكان معهم رسول الله فأمسك بثوبه ، وأراد أن يفعل مثلهم ، فسمع صوتاً يقول له : عورتك يا محمد ، فكان هو الوحيد الذي لم يكشف عن عورته . وقد لاحظوا عليه ذلك قبل سنِّ التمييز ، فأخذوا عنه فكرة أنه مُهيأ من ناحية أخرى ، ثم عرفوا سداد رأيه وحُسْن تفكيره في مسألة وضع الحجر الأسود في مكانه ، حينما اختلفتْ قبائل قريش مَنْ ينال شرف وضع الحجر في مكانه حتى كادوا أنْ يتقاتلوا ، ثم قالوا : نُحكِّم أول داخل علينا . فكان محمد الصادق الأمين الذي لا يختلف على أمانته اثنان ، فأخذ رداءه ووضع عليه الحجر ، وأمر كل قبيلة أنْ تأخذ بطرف منه ، حتى إذا ما وصلوا به إلى موضعه من الكعبة حمله ووضعه في مكانه ، وهكذا انتهى الخلاف الذي أثار حفيظة القوم . فقوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ … } [ الفتح : 29 ] أي : هذا الذي تعرفونه وتعرفون صِدْقه وأمانته وكرم أخلاقه ، هذا الذي لبث بين ظهرانيكم أربعينَ سنة هو رسول الله الذي اختاره الله للرسالة . إذن : أنتم شهدتم له قبل أنْ أرسله إليكم ، وما دام قد شهدتم له بالخُلق الجميل وسداد الرأي فواجبٌ عليكم أنْ تُصدقوه . والحق سبحانه وتعالى لم يصف محمداً في ذاته إنما صفَّى أصوله ، وزكَّاهم بأنْ عصمهم من السجود للأصنام ، وهي عبادة كانت شائعة في هذا الوقت ، وقد أجمعوا على أن أجداده لم يسجد أحدٌ منهم لصنم . لذلك جاء في الحديث الشريف : " ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " أي : أنه صلى الله عليه وسلم جاء من نسل طاهر لم يخالطه شيء من سفاح الجاهلية . وقصة أبيه عبد الله مع زينب الخثعمية معروفة في الجزيرة العربية كلها خاصة في مكة ، حيث رأت فيه جمالاً وجلالاً فعشقته حتى راودته عن نفسه ، وعندها قال الأبيات المشهورة : @ أمَّا الحَرَامُ فَالمَمَاتُ دُونَهُ والحِلّ لا حل فَأسْتبِينَه يَحْمِي الكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَه فَكْيفَ بالأمْرِ الذِي تَبْغِينه ؟ @@ فلما تزوج عبد الله من آمنة بنت وهب وحملت في رسول الله انتقل إليها هذا النور الذي كان في وجه عبد الله ، فلما رأتْه الخثعمية بعد ذلك قالت : وماذا أفعل به وقد ذهب النور الذي كان في وجهه ؟ وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى صنع محمداً على عينه ، وحماه من سِفَاح الجاهلية ، وحماه في كل مراحله . وبعد ذلك مات أبوه واستُرضع في بني سعد ، ورأت له مرضعته كثيراً من الكرامات والمعجزات ، فلما قالت لإخوته في الرضاعة : احموا محمداً من حر الشمس . فقالوا : والله يا أماه ما نجده أبداً في حرِّها ، لأنه إذا سار نرى فوقه غمامة تُظلله . إذن : شهد له في ذاته ، وشهد له في آبائه ، علم الجميع أنه مُؤيَّد من أعلى . فقوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ … } [ الفتح : 29 ] يعني أنه اختار الرسول على وفْق رأيكم ، فإياكم أنْ تكذِّبوه ، ومحمد هنا مبتدأ مُخبر عنه بقوله : { رَّسُولُ ٱللَّهِ … } [ الفتح : 29 ] . أي : أن محمداً المعروف لكم هو رسول الله ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، فكان الواجب ساعة يُرسَل إليكم أنْ تؤمنوا به وأنْ تُصدقوه . والحق سبحانه وتعالى لما أيَّد محمداً بالمعجزات أيّده بمعجزة عقلية ، وفرَّق بين معجزة عقلية ومعجزة كونية ، فالمعجزة الكونية تقع مرة احدة ، كما رأينا في قصة سيدنا عيسى عليه السلام ، وأنه كلَّم الناس في المهد ، ولم يَرَ هذه المعجزة سوى القوم الذين حضروها وعاينوا هذا الموقف . أما بالنسبة لنا فهو خبر نُصدقه ونؤمن به ، لأن القرآنَ أخبر به . أما محمد فرسالته عامة وخاتمة للرسالات إلى قيام الساعة ، إذن : فمعجزته يجب أن تتناسب مع عمومية الرسالة ، يجب أن تكون معجزة خالدة باقية لا تنتهي بانتهاء الموقف . لذلك جاء القرآن معجزة باقية ببقاء الرسالة إلى قيام الساعة ، فمنذ نزلت الرسالة ونحن نقرأ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ … } [ الفتح : 29 ] وستظل تُقرأ إلى قيام الساعة ، محمد رسول الله بدليل هذا القرآن المعجز . لذلك قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] فتولَّى الحق سبحانه بنفسه حِفْظ القرآن على خلاف الكتب السابقة عليه ، حيث وكل الله حفْظها إلى أهلها ومَنْ آمن بها . { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ … } [ المائدة : 44 ] ومعنى { ٱسْتُحْفِظُواْ … } [ المائدة : 44 ] أي : طُلِب منهم حفظها تكليفاً من الله ، والتكليف عرضة لأنْ يُطاع ولأنْ يُعصَى ، وقد رأيناهم لم يحافظوا بل بدَّلوها وغيَّروها ونسُوا الكثير منها . أما القرآن فهو كما هو منذ أنزله الله على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن الله حفظه بحفظه ، ولم يأتمن على ذلك البشر . ومن مظاهر حفظ الله للقرآن أنْ يسخر له مَنْ يخدمه حتى ممَّنْ لا يؤمنون به ، فكثيرٌ ممَّنْ يقومون على طباعة القرآن وزخرفته الآن من غير المسلمين ، وقد رأينا الرجل الألماني الذي طبع القرآن كله في صفحة واحدة مع أنه لم يفعل هذا في الإنجيل وهو كتابه . إذن : نقول أن ماضي رسول الله بين قومه أهَّله لمهمة الرسالة ، لذلك الذين استقبلوا خبر بعثته صلى الله عليه وسلم سارعوا إلى تصديقه قبل أنْ يسمعوا من القرآن آية واحدة ، لماذا ؟ لأنهم أخذوا الدليل على صدقه من ماضيه فيهم ، فما جرَّبوا عليه كذباً قط ، والذي لا يكذب على الناسَ من باب أوْلَى لا يكذب على الله ربّ الناس . ومثل هذا الموقف رأيناه أيضاً من الصِّديق أبي بكر في حادثة الإسراء والمعراج ، فلما بلغه أن رسول الله يدَّعي أنه أُسْري به قال : إنْ كان قال فقد صدق . أما المعجزة فقد جاءتْ لمن كذَّب وأنكر رسالته صلى الله عليه وسلم ، جاءت لمَنْ لم يؤمن ولمَنْ اتهم القرآن بأنه كذبٌ وافتراء ، فجاء ليقول لهم { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ … } [ يونس : 38 ] أي : مفتراة . وقوله : { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ … } [ الفتح : 29 ] أي : آمنوا به وأصلحوا في معيته البشرية والمنهجية ، وهؤلاء وصفهم بأنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] إذن : جمعوا بين الشيء ونقيضه ، بين الشدة والرحمة . وهذا دليل على أن المؤمن ليس له طبْع واحد يحكمه ، إنما يتغير تبع التكليف الذي يأتيه من ربه عز وجل ، فمع الأعداء تجده قوياً شديداً عليهم ، يُريهم أن قناة المؤمن لا تلين ، أما مع إخوانه المؤمنين فهو رحيم بهم شفيق عليهم . وفي موضع آخر عبَّر القرآن عن هذا المعنى ، فقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] فالمنهج الإيماني هو الذي يحكم سلوك المؤمن ويُوجهه ، وهذا ما رأيناه بالفعل في تصرّفات كل من الصِّديق أبي بكر والفاروق عمر . فأبو بكر مع ما عُرِف عنه من اللين والرحمة لما جاءت مسألة الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيناه يخرج عن هذا الطبع الليِّن ، ويكون في أشدِّ ما يمكن . ويقول لعمر : والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتُهم عليه ، وينهر عمر ويقول له : أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام . والمتأمل في مسألة الردة يجد أنها تحتاج إلى قسوة وحزم ، وإلا انتشرتْ خاصة بين ضعاف الإيمان ، والناس ما يزالون حديثي عهد بالدين ، وهذا ما أخرج أبا بكر من طبْع اللين إلى طبْع الشدة . وقوله تعالى : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً … } [ الفتح : 29 ] فهم مع هذه الشدة على الكفار تراهم ركعاً سجداً ، والركوع والسجود مراحل لإظهار العبودية الكاملة لله تعالى ، فالركوع تنحني بقامتك لله ، والسجود أعظم من الركوع حيث تخرّ إلى الأرض وتضع جبهتك ، وهي أشرف موضع فيك على الأرض تواضعاً وتذللاً لله وخضوعاً له سبحانه . لذلك قلنا : في الركوع والسجود كمال العبودية لله ، وهذا فهمناه من قول إبليس الذي حكاه عنه القرآن : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ … } [ الأعراف : 17 ] . فلم يذكر باقي الاتجاهات أعلى وأسفل ، لماذا ؟ لأن الأعلى يمثل علو الألوهية ، حين نرفع أيدينا بالدعاء ، والأسفل يمثل ذُلَّ العبودية حينما تسجد الجباه ، وتخضع لله تعالى ، لذلك لا يأتي الشيطان من هذين . وقوله تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً … } [ الفتح : 29 ] هذه هي علة كونهم أشداء على الكفار ورحماء بينهم ، وكوْنهم يحافظون على الركوع والسجود ، أي : يفعلون هذا ابتغاء فضل الله وطمعاً في رضوان الله عنهم . وهذا قمة الإخلاص في الأعمال ، فهدفهم من العمل وجه الله لا ينظرون إلى غيره ، لماذا ؟ لأنهم يحسبون حساب هذا اليوم الذي سيقفون فيه أمام الله ، ولا يجدون غير الله يحاسبهم ويجازيهم . لذلك قلنا في العلماء والمخترعين الذين خدموا البشرية بأعمالهم الحسنة ومع ذلك لا نصيبَ لهم في الآخرة ، لأنهم ما عملوا لله إنما للبشرية وللحضارة . لذلك قال الله عنهم : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] فُوجئ بالإله الحق الذي لم يكُنْ في باله هو الذي يحاسبه ، وهو الذي يجازيه . ومن علامات هؤلاء المؤمنين أيضاً { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ … } [ الفتح : 29 ] سيماهم أي علامتهم المميزة لهم هي الأثر الذي يتركه السجود في جبهة الإنسان والتي نسميها زبيبة الصلاة . فالخالق سبحانه لم يخلق البشر في الكون على قالب واحد ، إنما لكل إنسان قالبه الخاص به ، والذي لا يتطابق مع قالب آخر على كثرة الخَلْق ، وهذه من طلاقة القدرة في عملية الخَلْق ، فالناس مختلفون في الطول والقِصَر والعرض واللون والملامح … إلخ . لكن الصفة المميزة لجميع المؤمنين الذين وصفهم الله بهذه الصفات ، { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ … } [ الفتح : 29 ] وهذه العلامة يلازمها نور في الوجه وبشاشة نلاحظها على وجه المؤمن ، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وكثيرون منّا يجد لذة في إطالة السجود ، ويجد فيه أنْساً بالله فيعتاد ذلك ، فتظهر هذه العلامة على جبهته إلى جانب هذا النور والإشراق الذي يبدو على وجهه . وتستطيع أنْ تلاحظ هذا إذا قارنت بين رجل قضى ليله في الشرب والخلاعة والاستهتار ، وآخر قضى ليله في عبادة الله وتسبيحه . وهذه الوجوه تأتي هكذا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [ عبس : 38 - 42 ] . ونحن نلاحظ هذه الصورة ، ونرى بدايتها في الدنيا قبل الآخرة . وقوله تعالى : { ذَلِكَ … } [ الفتح : 29 ] أي : الأوصاف التي سبق ذكرها للمؤمنين مع محمد وهي : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ … } [ الفتح : 29 ] هذه الصفات هي : { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ … } [ الفتح : 29 ] وهكذا وصفتهم التوراة ، فكأن التوراة فيها ذكر ومثَلٌ للمؤمنين الذين يؤمنون بمحمد الرسول الخاتم ، لأن التوراة مُبشِّرة به . أما الإنجيل فقد وصفهم بأوصاف أخرى غير هذه { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ … } [ الفتح : 29 ] . فهؤلاء المؤمنون مثلهم في الإنجيل مثل الزرع الذي أخرج { شَطْأَهُ … } [ الفتح : 29 ] أي فروعه ، والشطأ هو أعلى العود أو السنبلة { فَٱسْتَغْلَظَ … } [ الفتح : 29 ] يعني : اشتد العود وقوِيَ وامتلأ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ … } [ الفتح : 29 ] يعني : بلغ مبلغه حتى إنه { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ … } [ الفتح : 29 ] لكمال استوائه واستقامته { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ … } [ الفتح : 29 ] . ولك الآن أنْ تقارن بين هذين المثالين تجد المثل الأول في التوراة اهتم بالنواحي الروحية ، وذكر أموراً وأوصافاً كلها قيم ومعنويات ، فأتباع محمد أشداء على الكفار رحماءُ بينهم ، وهم رُكَّعٌ وسُجَّد يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، وهم سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، كلها قيم ومعنويات ليس فيها شيء من الماديات أبداً . أما مثلهم في الإنجيل فمثل مادي يخلو تماماً من الروحانيات أو القيم ، لماذا ؟ قالوا : لأن اليهود كانوا قوماً ماديين مبالغيين فيها بحيث لا يقتنعون إلا بها . ففي فترة التيه التي كتبها الله عليهم رزقهم المنَّ والسَّلْوى ، وهو طعام حُلو شهيٌّ يأتيهم دون تعب ، وينزل عليهم دون سَعي منهم ، فلم يرضوا به لأنه غيبٌ لا يعلمون مصدره ، وطلبوا من الله أن يرزقهم مما تنبت الأرض من بقْلها وقثَّائها وفُومها وعدسها وبصلها . أي : ما يزرعونه بأيديهم ويباشرونه بأنفسهم . حتى في علاقتهم بالله أرادوا أنْ يكون سبحانه مادة ، فقالوا : لموسى عليه السلام { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً … } [ البقرة : 55 ] والحق سبحانه وتعالى غيب { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ … } [ الأنعام : 103 ] . أما رؤيتنا له سبحانه في الآخرة فلأننا نُعَدُّ فيها إعداداً آخر يناسب هذا الشرف ، بحيث نتمكن من رؤيته تعالى ، أما في الدنيا فلا نقدر على ذلك لأن الله تعالى لم يمنع تجليه على خَلْقه ، لكن نحن في الدنيا لا نقدر على تحمل هذا التجلي . وهذا المعنى واضح في قصة سيدنا موسى عليه السلام ، لما قال لربه عز وجل { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ … } [ الأعراف : 143 ] فكان الجواب { قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي … } [ الأعراف : 143 ] وهذا يعني أن غيرك يمكن أنْ يراني . { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً … } [ الأعراف : 143 ] فلما تجلّى ربنا للجبل اندكّ الجبل ، فكيف إذا تجلى سبحانه وتعالى على الإنسان ، وموسى عليه السلام رأى الجبل وهو يندكّ فخرَّ وصعق من هَوْل ما رأى من أثر التجلِّي على المتجلَّى عليه . نقول : فلما كانوا بهذه الصورة من المادية جاء لهم بمثَل كله روحانيات وقيم ، فكأنه ذكر في التوراة من صفات المؤمنين بمحمد ما ينقض أهل التوراة ، يقول لهم : أنتم بالغتم في المادية ، وسوف آتي بنبي له أمة تقيم الروحانيات والقيم التي قصَّرتم أنتم فيها . أما النصارى فكانوا يُغلِّبون الروحانيات ، والإنجيل ذاته كله روحانيات وقيم ، لذلك لما سُئِلَ سيدنا عيسى عليه السلام عن مسألة ميراث قال : أنا لم أبعث مورثاً . وهذا التباين بين التوراة والإنجيل جعل اليهود والنصارى يلتقون على كتاب واحد ، مزيج من التوراة والإنجيل ليجمعوا بين المادية والروحانية ، وسمَّوْه الكتاب المقدس ، التقوا عليه رغم ما بينهم من العداوة والخلاف . ولما كان الإنجيل بهذا الوصف جاء مثَلُ المؤمنين فيه مثلاً مادياً تماماً ، وهو الشيء الذي يفتقده الإنجيل ، فالإنجيل يخلو تماماً من الحديث عن المعاملات وعن حركة الحياة ، إذن : فكلُّ مثل منهما جاء ليجبر نقصاً ، فاليهود ينقصهم الروحانيات ، والنصارى ينقصهم الماديات في حركة الحياة . ونقف هنا عند قوله تعالى : { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ … } [ الفتح : 29 ] هذه إشارة إلى أن تقدمنا في الماديات وبلوغنا فيها درجة الاستواء والاستقامة والاكتفاء الذاتي ، هذا أمر يغيظ الكفار ، فاحذروا أنْ يسبقوكم في هذا المجال . إنهم إن سبقوكم فيه أذلوا أعناقكم ، وتحكموا في مقدراتكم ، واستعلوا عليكم بما يملكون من إمكانيات ليست عندكم . وهذا للأسف ما حدث ، فقد احتجنا إليهم في معظم الصناعات حتى في لقمة العيش ، وها هم يفعلون بنا الأفاعيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لنا : يا مَنْ آمن بمحمد فارتضى بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً عليكم أنْ تأخذوا من كلٍّ بطرف ، خذوا من الماديات ما يُعلي شأنكم ، وما يُعينكم على حركة الحياة . وخذوا من الروحانيات ما يعصمكم من الزلل ، ويصلح دينكم ودنياكم ، لأن مثلكم في التوراة قِيَم ، ومثلكم في الإنجيل مادة . لذلك جاء الإسلام مُؤيّداً بالعلم الكوني لا يتعارض معه ، والقرآن مليء بالحديث عن هذه الكونيات ، واقرأ إنْ شئتَ وتدبر هذه الآيات : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ فاطر : 27 - 28 ] . فذكر أجناس الوجود كلها الإنسان والحيوان والنبات والجماد ، وكلمة العلماء هنا لا تقتصر على علماء الدين ، إنما كل العلماء في كل المجالات دينية أو دنيوية . فكأن الحق سبحانه أراد لنا ديناً يجمع بين الدنيا والآخرة ، بين العبادة وحركة الحياة ، فإياكم أنْ تأخذوا الدين وتتركوا الدنيا لأعدائكم يستزلونكم بها . وسبق أنْ قلنا : مَنْ أراد أنْ تكون كلمته من رأسه فلتكُنْ لقمته من فأسه ، فإياكم أنْ يتفوق عليكم أعداؤكم في هذا المجال ، لأن عطاء الربوبية واحد للمؤمن وللكافر ، فلا تتركوه اعتماداً على عطاء الألوهية . إنك لا تستطيع أنْ تقيم العبودية لله إلا إذا أخذتَ بعطاء الربوبية ، وسعيْتَ إلى تطوير حركة الحياة والاستفادة منها والمشاركة فيها . وسبق أنْ أشرنا إلى مسألة ستر العورة مثلاً ، وهي واجبة ، ولا تتم العبادة إلا بها ، انظر كم حركة من حركات الحياة نقوم بها لنستر عورتنا باللباس ؟ تتبع بذرة القطن من حين أنْ تضعها في الأرض إلى أنْ تصير ثوباً تلبسه ، إذن : نقول حركة الحياة هي التي تعين على حركة الدين . ثم يقول تعالى : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الفتح : 29 ] انظر { آمَنُواْ … } [ الفتح : 29 ] هذا جانب الدين { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ الفتح : 29 ] هذا جانب الدنيا وما تحتاجه من حركة الحياة . فإياك إذن أنْ تهمل جانباً لحساب الآخر ، لأن دينك دينٌ جامع للروح وللمادة . والذين آمنوا هم الذين جمعوا هذه الصفات ووعدهم الله هذا الوعد . والإيمان هو العقيدة الراسخة المستقرة في النفس ، والتي لا تقبل المناقشة ، فالقلب مطمئن بهذه العقيدة ، وأنها تُسعد دنياه وآخرته ، والأصل في الإيمان أنْ تؤمن بالله رباً وخالقاً للكون ، تؤمن بأسمائه وصفاته . فإذا آمنتَ بهذه الصفات اطمأن قلبك إلى ما يجري عليك من قضائه وقدره ، فهو سبحانه يبتليك بالخير لتشكر ، ويبتليك بالشر لتصبر ، فأنت مُثَاب في كلتا الحالتين . والإيمان من مادة أمن فهي تدور حول الأمان والاطمئنان . تقول : آمنت بكذا . يعني : اعتقدتُه اعتقاداً جازماً لا يدخله شَكٌّ ، وآمنت له يعني : صدَّقته . وأمَّنه يعني : طمأنه على مستقبل حياته ، إذن : كلها تدور حول الاستقرار والثبات وعدم التحول إلى النقيض . وثمرة الإيمان { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ الفتح : 29 ] يُراد بها ما تقدَّم من قوله تعالى : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ … } [ الفتح : 29 ] وهم في الماديات وفي حركة الحياة مثل الزرع الذي استوى على سُوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار . والوعد للمؤمنين بماذا ؟ { مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الفتح : 29 ] قلنا : فيها تخلية ثم تحلية يغفر أولاً . ثم يعطي الأجر . والقاعدة الشرعية أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة . لذلك يقول تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ … } [ آل عمران : 185 ] فالزحزحة عن النار في ذاتها نعمة ، لذلك ضُرب الصراط على متن جهنم ، فلا بد لمن يمر عليه أنْ يرى جهنم بعينه { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 7 ] . وهذا يُشعرك بعظمة الإيمان ، وأنه النعمة الكبرى لأنه نجانا من هذه النار وأدخلنا الجنة ، والعمل الصالح هو الذي أخذ بيدك وتجاوز بك هذه العقبة . واقرأ : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] فمطلق الإنسان في خُسْر لا يستثنى منهم ، ولا ينجو إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . والتواصي بالحق يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتواصي بالصبر يدل على أن هذا الطريق محفوفٌ بالمخاطر ، ويحتاج منك إلى صبر على الأذى من الخصوم ومن المعارضين فالنصح ثقيل . وكلمة { وَتَوَاصَوْاْ … } [ العصر : 3 ] تعني أن الكلَّ يوصي ، ففيها استمرارية ومداومة وعدم يأس ، لأن المعارض الذي تنصحه قد يصبر هو أيضاً ويتمادى ، فعليك أنْ تغالبه في الصبر ، وهذا معنى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ … } [ آل عمران : 200 ] . ووعد الله هو الوعد الحق الذي لا يتخلف ، لماذا ؟ لأنه وعد ممَّنْ يملك كلَّ أسباب الوفاء ولا يعوقه عن الوفاء شيء ولا يمنعه مانع ، ولأنه سبحانه الحق الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر ولا يتحول ، فمَنْ إذن يحول دونه ودون تحقيق وعده ؟ فهو سبحانه الإله الواحد الأحد الذي لا شريك له في مُلكه ، ولا منازعَ له في سلطانه ، وهو القوي ، فلا توجد قوة أخرى تمنعه . أما الوعد من البشر فقد لا يتحقق لأنَّ الإنسان لا يملك كلَّ أسباب الوفاء ، وهو أهل أغيار وتقلُّب . لذلك يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ … } [ الرعد : 11 ] . إذن : نقول إن الحق سبحانه ثابت لا يتغير من أجلنا ، لكن علينا نحن أنْ نغير من أنفسنا من أجله تعالى . وكلمة { مَّغْفِرَةً … } [ الفتح : 29 ] تعني : أن الخالق سبحانه وهو أعلم بخَلْقه علم أننا خطاءون كثيرو النسيان كثيرو الجهل ، لكن هذا كله مُتوقع منا ، ولا ينبغي أنْ يُيئسنا من رحمة الله لأنه هو الذي خلقنا على هذه الصورة ، وهو الذي تكفّل لنا بالمغفرة ، وما علينا نحن إلا أنْ نطرق أبوابها { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] .