Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 2-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سبق في سورة محمد أنْ بيَّنا معنى الذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم وقلنا : إنه من باب : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، لذلك عدّ النسيان في حقه ذنباً لأنه نبي موصول بالوحي ، مؤتمن على منهج الله ، فلا يُتصوَّر منه النسيان الذي يحدث من باقي أمته . لذلك تجاوز الله لهم عن النسيان في حين لم يتجاوز عنه لرسول الله ، ومثّلنا لذلك بنسيان سيدنا آدم { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] وسمّي هذا النسيان معصية . فالمغفرة لرسول الله من هذه الأمور أمثال عتاب الله له : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ … } [ التحريم : 1 ] وقوله : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] وقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] . فالله يعاتب رسوله شفقة عليه ورحمة به صلى الله عليه وسلم ، وكأنه يقول له : يا محمد لا تحزن ولا تُحمِّل نفسك فوق طاقتها ، لأن لك رصيداً من الله فالاستغفار من مثل هذه الأمور ، لا أنه أذنب ذنباً فيه مخالفة للمنهج حاشاه صلى الله عليه وسلم أنْ يكون منه ذلك . وكلمة { لِّيَغْفِرَ … } [ الفتح : 2 ] من غفر والغفر هو الستر ، وسَتْر الذنب إما أنْ يكون بعده بمنع العقوبة عليه أو يستر الذنب قبل أنْ يحدث فلا يحدث أصلاً ، هذا معنى { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ … } [ الفتح : 2 ] ما تقدم يستر عقوبته ، وما تأخر يستر الذنب نفسه فلا يقع . { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ … } [ الفتح : 2 ] تمام النعمة على رسول الله أنْ بعثه الله للناس كافة لكل زمان ولكل مكان ، وكان الرسلُ قبله يُبعث الرسولُ إلى قوم معينين في زمن معين ، أما سيدنا رسول الله فقد جاء على موعد مع التقاء حضارات الدنيا كلها واتصال بين المشرق والمغرب ، فجاء رسولاً عاماً وخاتماً للرسالات ، لذلك نقول : سيد الرسل وخاتم الأنبياء . ومن تمام النعمة أن الله فتح له ، وأزال من أمامه العقبات التي كانت تعرقل مسيرة الدعوة حتى دانتْ له الجزيرة العربية كلها وشملها الإسلام ، وعلى يديه هدى اللهُ هذه الأمة فحملت رسالته من بعده وساحت بها في شتى بقاع المعمورة . فجذب إليه أعظم حضارتين في هذا الوقت ، هما : حضارة فارس في الشرق ، وحضارة الروم في الغرب ، حتى إنهم ليقولون : من عجائب هذا الدين أنه فتح نصف الكرة الأرضية في نصف قرن من الزمان ، وهذه لم تحدث من قبل . والحق سبحانه يشرح لنا مسألة تمام النعمة هذه في قوله تعالى : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً … } [ المائدة : 3 ] . لذلك لما سمع سيدنا أبو بكر هذه الآية قال : لقد نعى محمد نفسه بهذه الآية . لأنه لا شيء بعد التمام إلا النقصان ، فأخذوا من هذه إشارة إلى قرب موته صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لينال الجزاء . " لذلك لما جاءه ملك الموت وخيّره صلى الله عليه وسلم قال : بل الرفيق الأعلى " . فاختار جوار ربه ليس هرباً من المسئولية بل لعلمه بتمام الأمر واستوائه ، وأنه ليس له مهمة بعد ذلك ، بعد أنْ أدَّى الأمانة وبلَّغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وأظهر أمر الدين ، وأرسى قواعده . وقوله : { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] فبعد أنْ رأى النعمة قد تمتْ ، وليس هناك مغاليق اطمأن إلى أن الله لا يتخلى عنه . وقوله تعالى : { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } [ الفتح : 3 ] هل النصر هو العزيز أم المنصور ؟ المنصور هو العزيز ، إنما وصف النصر بالعزة فكأن نصر الحق يُسِعد النصرَ نفسه ويعزه وليقول له : إنك بهذا النصر أخذتَ ما لم يأخذه مثلك أبداً . وفي موضع آخر بيَّن الحق سبحانه أنه ناصر رسوله في وقت الرخاء كما في فتح مكة ، وناصره وقت الشدة كما في حنين : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 25 - 26 ] . فلما اغتروا بالكثرة أدَّبهم ، ثم تداركهم برحمته ونصرهم ، وما كان الله لينصرهم في فتح مكة ثم يخذلهم في حنين ، كان الله يقول لرسوله : أعلم أن الله وراءك وناصرك ومؤيدك ، لكن عليك وعلى أمتك ألاَّ تغتروا بنصر أو بقوة أو بعدد { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 249 ] .