Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 11-11)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نلاحظ هنا أن القرآن وجَّه النهي ألى القوم مرة ، وإلى النساء مرة ، وخَصَّ كُلاًّ منهما بنهي ، ذلك لأن كلمة قوم لا تُقال إلا للرجال ، لأنهم هم الذين يقومون على شئون الأسرة ، أما المرأة فليس لها قيامٌ إلا على بيتها ، يقول الشاعر : @ وَمَا أدْري وَلْستُ إخَالُ أدْري أقوْمٌ آلُ حِصْن أمْ نِسَاءُ @@ إذن : القوم تُقال للنساء وفي آية أخرى قال تعالى : { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ … } [ النساء : 34 ] البعض يفهم من كلمة { قَوَّٰمُونَ } أنها للقهر وللضرب ، أبداً ، بل الرجال قوَّامون على النساء . يعني : يقومون على رعايتهن وتدبير أمورهن . لذلك نقول للمرأة ست بيت فكأن الرجل هو الخادم الراعي لها ، ونحن نقول : فلان قائم بهذا الأمر . يعني : يتولى العمل الشاقَّ فيه . تذكرون في قصة سيدنا آدم لما أسكنه اللهُ الجنةَ هو وزوجه ، وحدثتْ من آدم المخالفة لأمر الله ، قال تعالى : { فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } [ طه : 117 ] هذا خطاب لآدم وحواء . والقاعدة أن يقول فتشقيا بالتثنية ، لكن قال { فَتَشْقَىٰ } أي : آدم وحده ، لأن مهمة الكدح والشقاء وتحمُّل مسئولية الأسرة للرجل فقط ، اما المرأة فهي للبيت ولها دور فيه ودور هام يملأ كلَّ لحظة في حياتها ، لكن ماذا نفعل وهُنَّ يُردْنَ أنْ يشقيْنَ مع الرجال ؟ والنهي عن السخرية في هذه الآية له سببٌ في الرجال ، وله سببٌ في النساء : " فيُروى أن ثابت بن قيس دخل على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الصفَّ الأول قد اكتمل ، وأراد أنْ يجلس في الصف الأول لأنه كان ثقيل السمع ، فجاء إلى رجل من ضعفاء القوم وقال له : تزحزح فلم يتزحزح ، فقال له : منْ أنت ؟ قال : فلان ، قال : ابن فلانة ؟ وكانت لها سيرة سيئة بين الناس ، وسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من قال ابن فلانة ؟ قال : أنا يا رسول الله ، فقال : انظر في مجلسنا فنظر فيه ، فقال له : ماذا رأيتَ ؟ قال : رأيت الأسود والأبيض والأحمر . قال : أفضلكم عند الله أتقاكم " . ثم لم ينس الرجل الذي قيل له تفسح فلم يتفسح ، ونزل في حقِّه قوله تعالى : { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ … } [ المجادلة : 11 ] . ويُروَى أن السيدة أم سلمة كانت قصيرة ، وفي مرة أصابها وجع في رجلها فربطتها بقطعة من القماش ، وكان فيها بقية تتدلَّى على الأرض تجرُّها خلفها ، فرأتها على هذا الحال السيدة عائشة والسيدة حفصة . فقالت إحداهن للأخرى : تمشي ولها ذيل كذيل الكلب . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية . لذلك يقول الحق سبحانه في يوم القيامة : " جعلت نسباً ، وجعلتم نسباً ، فجعلتُ أكرمكم عند الله أتقاكم فأبْيتم وقُلْتم : أكرمنا فلان ابن فلان ، فاليوم - أي يوم القيامة - أرفع نسبي وأضَعُ أنسابكم " . ودخل رجل أعرج على أحدهم ، فراح ينظر إليه نظرة سخرية لعرجته ، ففهم الأعرجُ قصده ، فقال له : أتعيب الصَّنعة أم تعيب الصانع ؟ فأفحمه حتى ندم على سُوء أدبه معه ، وقال : والله لوددتُ عندها أنْ أكون أنا مثله وهو مثلي . والحق سبحانه وتعالى حينما ينهانا عن السخرية ، إنما يريد المساواة بين جميع خَلْقه ، فالخَلْق جميعاً خَلْقه وصنعته وعبيده ، وليس فيهم من هو ابن الله ، ولا مَنْ بينه وبين الله قرابة ، فلِمَ إذن يسخر بعضنا من بعض ؟ إياك والسخرية من الناس مهما كانوا أقلّ منك ، عليك إنْ رأيت عيباً في دين أو خُلق أنْ تُقوِّمه وتُصلح من شأنه ما استطعت . وإذا كان العيبُ في الخَلْق ، وفيما لا دخْلَ للمخلوق فيه فتأدَّبْ مع الخالق ، ووالله لو علمتم ما جعله الله للمؤوف - يعني : مَنْ به آفة - لتمنيتم جميعاً أنْ تكونوا مؤافين ، فإن الله تعالى ليس له ولد ، بل وزَّع أسبابَ فضله على عباده ، فإنْ أخذ من واحد منهم شيئاً فقد عوَّضه خيراً منه . والسخرية والاستهزاء لا يكونان إلا من إنسان عَلا في شيء أمام إنسان نقص في هذا الشيء كأن يسخر الغنيُّ من الفقير ، أو القوي من الضعيف ، أو سليم التكوين من المعاق … وهذا السلوك نتيجة الغفلة عن ميزان التفاضل بين الخلق جميعاً ، ألا وهو التقوى . وقلنا : إنك لو نظرتَ في الوجود كله لوجدتَ فيه قضية عادلة ، هي أن كل إنسان منَّا ، مجموع نعم الله عليه تساوي مجموع أيِّ إنسان آخر ، لأن الخالق سبحانه وزَّع فضله على عباده لكن هذا أخذ 100 % في العقل وهذا أخذ 100 % في الصحة لكن المجموع في النهاية متساوٍ . ذلك لأن الله تعالى لا يريد نسخاً مكررة من البشر ، إنما يريدنا متفاوتين في المواهب لتستقيم بنا حركة الحياة وتتكامل ويرتبط البشر ببعض ارتباط حاجة ، لذلك قلنا إن الباشا قد يحتاج إلى عامل المجاري . فقوله تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ … } [ الأنعام : 165 ] يعني كل منا مرفوع في شيء ، ومرفوع عليه في شيء آخر . تعلمون أن بتهوفن الموسيقي الشهير كان أصم لا يسمع ، وأن تيمور لنك الذي دوَّخ الدنيا بالفتوحات كان أعرج . هذا يعني أنك لا تسخر من أحد ، ولا تحتقر أحداً لأنك رأيته أقلَّ منك في شيء ما ، فكلنا سواسية في ميزان الحق سبحانه ، وكأنه سبحانه يريد أنْ يعطينا درساً في أنه سبحانه ليس له ولد وليس له صاحبة . لذلك كانت الجن أفضل فهماً منا حين قالت : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [ الجن : 3 ] فكلنا عيال الله ، بل تبلغ هذه المساواة إلى أن رسول الله يأمرنا بأنْ نسوِّيَ بينَ أولادنا ولو في القُبلة . وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا كيف نتصرف إذا ما حدث بيننا شيء من التهكم أو السخرية ، وكيف نقابله ونردّ عليه . فيُروي في سبب نزول هذه الآية " أن السيدة صفية بنت حُيي بن أخطب ، وكان زعيم بني المصطلق ، ولما غزاهم رسول الله كانت السيدة صفية في الأسرى فأراد صلى الله عليه وسلم أنْ يُكرمها لأنها بنت ملكهم فتزوجها فغارت منها نساء النبي ، والغيرة كما يقولون فقاقيع الحب . وكانت عائشة أكثر زوجات الرسول غيرةً عليه ، فقالت لصفية : يا يهودية بنت يهوديين ، فذهبت صفية باكية إلى رسول الله وحكتْ له ما كان من عائشة ، فضحك رسول الله لأنه يعلم غيرة عائشة عليه . لذلك لم يُؤنِّب عائشة ، إنما أرضى صفية وطيَّب خاطرها وقال لها : إنْ قالت لك هذا فقُولي لها : ولكن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد " . انظر كيف عالج سيدنا رسول الله هذا الموقف . وكيف أعلى من شأن صفية ، فهب سليلة الرسل والأنبياء وزوجة نبي ، نعم رد يفحم ولا يخطر على بال أحد ، ولم لا وقد أُوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم . ومثل هذا الموقف أيضاً حدث " من السيدة عائشة للسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله ، حيث كانت تغار من السيدة خديجة ، ومن ثناء رسول الله عليها في كل موقف ، حتى قالت له : ماذا يعجبك في عجوز شمطاء حمراء الشدقين ، قد أبدلك الله خيراً منها ؟ كيف ردَّ رسول الله ؟ قال لها : لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، فقد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذا كذنبي الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء " . وبعد ذلك لما قابلت فاطمة قال لها : لا يغرنّك ثناء رسول الله على أمك ، فقد تزوجها ثيِّباً وتزوجني بكْراً ، فلما اشتكتْ لرسول الله قوْلَ عائشة قال لها : إذا قالت لك هذا فقولي لها : ولكن أمي تزوجت رسول الله بكْراً وأنت تزوجته ثيباً " . والبعض يقول : كيف يحدث كل هذا في بيت رسول الله ؟ نقول : نفهم من هذه الغيرة إلى جانب أنها علامة الحب لسيدنا رسول الله ، إلا أنها أيضاً تعني أن عائشة التي تزوجها رسول الله وهي بنت التاسعة ، ومع ذلك كانت تغار على كِبره ، وهذا يعني أنه صلى الله عليه وسلم غير مزهود فيه . وقوله سبحانه : { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ … } [ الحجرات : 11 ] هنا نَهْي عن صفة أخرى مذمومة لا تليق بأهل الإيمان ، هي صفة اللمز وهو أنْ تعيب الآخرين ، وتأمل دقة الأداء القرآني في قوله : { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ … } [ الحجرات : 11 ] والإنسان لا يلمز نفسه إنما يلمز غيره ، لكنه أنزل الآخرين منزلة الإنسان نفسه ، ثم إنك حين تلمز الناس تُجرّئهم على أنْ يلمزوك ، على حَدِّ قول الشاعر : @ لسَانُكَ لاَ تَذْكُر بِهِ عَوْرَةَ امْرِيء فكُلُّكَ عَوْراتٌ وللنَّاسِ ألْسُنُ وَعَيْنكَ إنْ أبدَتْ إليْكَ مَسَاوِئاً فَصُنْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أعيُنُ @@ ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ … } [ النور : 61 ] لأنك حين تُسلِّم على الناس يريدون عليك السلام فكأنك سلَّمتَ على نفسك . وقوله سبحانه : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ … } [ الحجرات : 11 ] نهي آخر عن التنابز بالألقاب . أي : لا يدع أحدكم أخاه بلقب يكرهه ، والتنابز من نبز الشيء يعني : أبعده وتركه ، كذلك حين تنادي شخصاً بلقب يكرهه ، فكأنك تبعده عنك وتُوسع الفجوة بينك وبينه . والأسماء عندنا في اللغة اسم ولقب وكُنية : الاسم هو ما يُطلق على المسمى فيصير عَلَماً مثل محمد . واللقب هو ما يُشعِر بمدح أو ذم مثل الصِّديق ، أو أن نسمي أحد الضعفاء مثلاً سليمان بطة ، أما الكُنْية فهي ما صُدِّرتْ بأب أو أم . مثل أبي بكر ، أم المؤمنين . إذن : لا يجوز أنْ ننادي شخصاً مثلاً بلفظ مكروه وهو لا يحبه ولا يحب أن يُنادى به ، من ذلك ما ذكرناه من قول عائشة لصفية : يا يهودية . والتنابز بالألقاب يزرع الأحقاد والضغائن ، ويهيج الغرائز والغضب عليك ، ولم لا تناديه بأحب الأسماء إليه لتعطفه إليك . حتى أن الفقهاء قالوا : إذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه إياك أنْ تُذكِّره به أو تُعيِّره به ، لأن ذلك يُعدُّ قذفاً له ، إلى جانب أنك تعين عليه الشيطان ، كمن تاب عن الخمر ونقول له يا خمورجي ، أو تاب عن القمار ونقول له يا قمرتي وهكذا . لذلك قال بعدها : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ … } [ الحجرات : 11 ] يعني : بئس ما تقول لأخيك حينما تُذكِّره بماض يريد أنْ ينساه ، وقبيح بك أنْ تُعيِّره بعد أنْ تاب ، كما أنه قبيحٌ بك الفسوق بعد الإيمان . { وَمَن لَّمْ يَتُبْ … } [ الحجرات : 11 ] يعني : عن التنابز بالألقاب { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ الحجرات : 11 ] نعم ظالمون لأنفسهم بعدم اتباع المنهج في هذا النهي ، وظالمون لغيرهم حين ينادونهم بهذه الألقاب المكروهة ، فمن حَقِّ الذي تاب ألاَّ تذكره بعيبه ، وألاَّ تُعيّره به .