Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 12-12)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق سبحانه يأمرنا أنْ نجنتب كثيراً من الظن ، والظن هو الخاطر يخطر بالبال . وهو نوعان : ظن حسن ، وظن سيء ، الظن الحسن لا شيء فيه ولا إثمَ عليه ، بل هو من مطلوبات الشرع كما سنرى ، والمنهي عنه هنا هو ظن السَّوء الذي يؤدي إلى فساد في العلاقات ويترتب عليه عقوبة . لذلك علّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتنب ظن السَّوْء ، " فلما كان صلى الله عليه وسلم معتكفاً وجاءته السيدة صفية تطلب منه شيئاً فخرج إليها وكانت محتجبة ، ورآهما أبو بكر وعمر فانصرفا مخافة أنْ يراهما رسول الله وهو في هذه الحالة لكنه ناداهما وقال : على رسلكما يعني : قِفَا إنها صفية ، وعلما ما أراد رسولُ الله ، فقالا له : لا يكون هذا معك يا رسول الله ، فقال : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " . إذن : فسيدنا رسول الله يُعلِّمنا أنْ نغلق باب ظن السَّوء ، ونقطع أسبابه ونربأ بأنفسنا أنْ نضعها في هذا الموضع . وفي قصة الإفك في سورة النور يُعلِّمنا الحق سبحانه ويحثّنا على أنْ نظن بالمؤمنين خيراً ، وأن نبتعد عن ظن السَّوْء فيهم ، فيقول سبحانه عن حديثهم في شأن السيدة عائشة : { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [ النور : 12 ] . والظن الحسن هو أن تحتاط للأمر ، ولا تجعل له أثراً سيئاً في نفسك ، فمثلاً إنْ جاءك رجل وقال لك : إن في هذا الطريق جماعة يتربَّصون بك ويريدون بك شراً ، كان عليك أنْ تأخذ بالأحوط لك وأنْ تصدقه وتِحذر ما حذَّرك منه ، لأن الغالب أنه يريد لك السلامة لا يريد لك الإيذاء . أما إنْ كان الظنُّ يترتب عليه حكم شرعي ، فقد وجب عليك أنْ تتحقق من صحته . وتأمل دقة الأداء القرآني واحتياطه في قوله تعالى : { كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ … } [ الحجرات : 12 ] يعني : أن أكثر الظن ظن سيء يجب اجتنابه ، والقليل ظنٌّ حسن لا مانع منه ، لذلك قال بعدها : { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ … } الحجرات : 12 ] لا كله ، فاحذر أنْ تقع في الإثم حين تظنّ بالمؤمنين السوء دون بينة . وقوله سبحانه : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ … } [ الحجرات : 12 ] لا تتبعوا عورات الناس ولا تبحثوا عن خصوصياتهم ، وفي الحديث : " مَنْ تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه في عقر داره " . ونذكر هنا لطيفة من لطائف أسماء الله الحسنى تلاحظ أن كثيراً من أسمائه تعالى لها مقابل كما في المحيي المميت ، المعز المذل القابض الباسط . لكن الستار ألها مقابل بنقول الفضاح ؟ تعالى الله سبحانه عن هذه الصفة لأن ستره مسدولٌ على عباده مهما حدث منهم لا يفضحهم ، والستار صيغة مبالغة من ستر ساتر . لذلك ورد في بعض الأحاديث قوله تعالى : أبغض العاصي ولكني أكره مَنْ يتتبعه ، لماذا ؟ لأن تتبع العورات والسقطات يُشيع الفاحشة في المجتمع . فالحق سبحانه يحمي مجتمع الإيمان من هذا ، ويكفي أن المستتر بالمعصية ما يزال عنده حياء الإيمان . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا بُليتم - أي بشيء من المعاصي - فاستتروا " . وهذا كمن لا يقدر على الصوم مثلاً وعنده عذر ويُباح له الفطر ، لكن مع ذلك لا يجوز له أنْ يجاهر بفطره أمام الناس ، حتى لا يكون قدوة سيئة للشباب الذين لا يدركون هذه الأعذار . فحين يرونه يفطر تتربَّى عندهم خميرة ذهنية أنه يجوز لهم الفطر في رمضان ، إذن : عليه أنْ يستر فطره حتى لا تَحدث هذه الأسوة . ولخطورة التجسس ، قال الفقهاء : لو أن رجلاً يعيش في عشة من البوص والعيدان ، وجاء آخر فنظر إليه من خلال الثقوب ، فجاء صاحب العشة بعود ففقأ عينه لا يكون لعينه مقابل ولا تعويض ، لأنه اقتحم على الأول منزله ، ونظر إليه دون إذنه . ومثل هذا في سنة رسول الله حيث بلغه أن رجلاً ينظر إليه من ثقب الباب . ويُروى أن سيدنا عمر كان يتفقَّد أحوال رعيته ، ويقوم بالعسِّ ليلاً ، وقد بلغه أن رجلاً يشرب الخمر مع أصحابه في بيته ، فتسوَّر عليه داره فوجده مع رجل من أصحابه جالسين ، وليس في المجلس خمر ولا شيء من هذا . فلما رأه الرجل قال : لقد ظننت بي كذا وكذا ، لكن فاتك من أمور الدين ما هو أهم من ذلك . أولاً : دخلت البيت من السور ، والله يقول : { وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا … } [ البقرة : 189 ] ثانياً : دخلت عليَّ بيتي بدون استئذان ، فانصرف عمر ولم يقل شيئاً . وفرْق بين التجسس بالجيم والتحسس بالحاء التحسس تتبُّع وبحث عن الغير ، لكن بدون قصد العورات ، ومن ذلك قوله تعالى : { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ … } [ يوسف : 87 ] أي : ابحثوا عنه حتى تصلوا إليه ، كما يفعل رجال المباحث مثلاً . وقوله : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً … } [ الحجرات : 12 ] هنا نَهْي عن الغيبة عموماً ، لأن القرآن لم يحدد مَنْ يغتاب ومَنْ يغتاب فيه . " ولما سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال : ذِكْرك أخاك بما يكره وهو غائب . فقال السائل : فإن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإنْ لم يكُنْ فيه ما تقول فقد بهته ، أي : افتريتَ عليه وكذبتَ " . ثم يعطينا القرآن صورة حسِّية للغيبة ، فيقول : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ … } [ الحجرات : 12 ] تأمل كم في هذه الصورة من منفرات تبين فظاعة هذا العمل ، فالذي يغتاب أخاه في غيبته كالذي يأكل لحمه وهو ميت . أي : غائب عن الحياة ولا يقدر أنْ يدافع عن نفسه . إذن : شبّهه بصورة شنيعة تنفر منها النفس السوية . وقالوا : إن سبب نزول هذه الآية أنها نزلتْ فى الوليد بن عقبة ابن أبي معيط حينما بعثه رسول الله لجمع أموال الزكاة من بني المصطلق ، وكان عليه لهم دية في الجاهلية ، فلما رأوْه خرجوا لمقابلته ، فخاف منهم الثأر وعاد إلى رسول الله ، وقال : إنهم امتنعوا عن دفع الزكاة . ورُوي أن أسامة بن زيد كان القائم على مؤنة الطعام في بيت رسول الله ، فأراد رجلان أنْ يذهبا لكي يَطْعما في بيت رسول الله ، فبعثوا سلمان الفارسي ليسأل أسامة الطعام ، فلما سأله قال : ليس عندنا طعام ، فعاد إليهما سلمان وقال : يقول أسامة : ليس عندنا طعام ، قالا : بل عنده لكنه بخل به ، ثم قالا لسلمان : أنت وجهك وجه شؤم ، ولو ذهبت إلى بئر سميحاً يعني : فواراً - لغاب ماؤه . وهكذا اغتابوا كلاً من أسامة وسلمان ، فلما رآهما رسول الله قال : إني لأشمُّ من أفواهكم ريح لحم نتن ، قالوا : يا رسول الله والله ما أكلنا لحماً ، قال : لقد اغتبتما أسامة وسلمان ، اذهبا فارضوهما لأنك إذا لم تُرض المغتاب فستكون عند الله أقبح من الزاني . لذلك لما اغتاب رجل ابن سيرين فجاءه وقال له : يا إمام أحل نفسي منك ، فقال : لم ؟ قال : لأنِّي اغتبتك ، فقال : أنا لا أُحِل ما حرم الله . والحسن البصري علم أن رجلاً اغتابه ، فأرسل إليه خادمه بطبق من الرُّطَب ، وقال له : قل له هذا هدية لك من سيدي ، لأنه علم أنك أهديتَ إليه حسناتك بالأمس . هذا يدل على أنك تدفع حَقَّ مَن اغتبته من حسناتك ، فَإنْ لم تكن لك حسنات أُخِذَ من سيئاته فطُرِح عليك ، وقد دلّ على ذلك الحديث النبوي الشريف . وقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 12 ] اتقوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، وتجنّبوا أسباب عقابه { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 12 ] أي : كثير التوبة على مَنْ تاب ، كثير الرحمة لمن أناب . وهذا الختام يعطي العاصي الأمل في رحمة الله ، ولا ييئس المغتابين من رحمته تعالى ، فمَنْ زلَّ لسانه بالغيبة فليبادر بالتوبة ، وإذا علم أن ربه تواب رحيم عاد من قريب ولا يستمريء هذه الفعلة ولا يتمادى فيها . وسبق أنْ أوضحنا أن من أعظم نعم الله علينا أنْ شرع لنا التوبة ، وفتح لنا بابَ القبول ، وإلا تمادى العاصون وفسدَت الحياة . ثم يقول الحق سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ … } .