Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 18-18)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سبق أنْ أوضحنا أن السماوات والأرض ظرف ، وفي هذا الظرف عجائب وبدائع من خَلْق الله أعظم من الظرف ، لأن القاعدة أن المظروف أعلى وأعظم من المظروف فيه . لذلك الحق سبحانه يقول : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ آل عمران : 189 ] وفي موضع آخر : { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ النجم : 31 ] فالسماوات والأرض رغم ما فيهما من عجائب الخلْق وإبداع وهندسة كونية إلا أنهما يحويان ما هو أعجب . هنا يُحدِّثنا الحق سبحانه عما في السماوات والأرض من غيب ، والغيب كل ما غاب عن إدراكك ، والشيء قد يغيب عن إدراكك اليوم ويظهر لك غداً ، فمثلاً الكهرباء قبل اكتشافها كانت غيباً لا ندري عنه شيئاً ، والآن أصبحتْ مشهداً نحسُّه جميعاً ونتعامل معه . إنك لو نظرتَ إلى الموجبات التي تحمل الصوت والصورة في الهواء لوجدتَ أمراً عجيباً حقاً ، لأنك لو جئتَ مثلاً بمائة راديو ومائة تليفزيون ، ووضعتها في مكان واحد ، ووجَّهت كلاً منها إلى جهة لوجدتَ إرسالات مختلفة بالصوت والصورة . فكيف تداخلتْ هذه الموجات في هواء واحد ، ووصلتْ إلينا بهذه الدقة وهذا الوضوح ، وهي من أقصى بلاد الدنيا ؟ هذه كلها أسرار من غيب السماوات والأرض تدعونا إلى الإيمان بقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ … } [ فصلت : 53 ] . ورغم عظمة الخَلْق في السماوات والأرض ، فغيب السماوات والأرض أعظم من الجميع ، وسيظل هذا الغيب مدداً لا ينفد ، وعطاء لا ينتهي ، يُطالعنا من حين لآخر بشيء جديد من غيب الله ليظلّ القرآنُ معجزاً إلى قيام الساعة . ومن حكمة الحق سبحانه وتعالى أنْ وزَّع عطاءات القرآن على عصور الزمان كلها حتى لا يستقبل عصرٌ القرآنَ وهو بلا عطاء . ثم إن هذا العطاء يأتي على قدر العقول ، وعلى قدر البحث والتأمل في ملكوت الله ، وبذلك نفهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن : " لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَق عن كثرة الردِّ " . فأنت تقرأ مثلاً أعظم القصائد الشعرية ، ولا بدَّ أنْ تسأم منها بعد مرة أو حتى بعد عدة مرات ، لكن تقرأ القرآن فلا تمله ، بل تزداد له حباً كلما أمعنتَ في القراءة ، لأنه كلام الله وله سِرٌّ مع كل تَالٍ له ، وله عطاء لكل مُتأمل فيه ، فعطاءات القرآن متعددة يأخذ منه كل تَالٍ له على قدره . وختام السورة بهذه الآية { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الحجرات : 18 ] يدل على أن مُلْك الله واسع وعجائبه لا تنتهي ، وليس لها حصر ولا عدَ ، ومهما وصلت البشرية من التقدم فسوف يبقى عند القرآن الجديد ، وفي آيات الله ما يبهر العقول . كنا في الماضي نتحدث عن عصر الفحم ، ثم عصر البخار ، ثم عصر الكهرباء ، والآن يتحدثون عن عصر الطاقة النووية والطاقة الذرية ، فأين كانت هذه الطاقات ؟ كانت غيباً في علم الله وكشف عنها لعباده حينما تقدَّمتْ العقول وارتقتْ الأفكار ، وكلها اكتشافات لم يأتِ أحدٌ بشيء من عنده ، كلها من عند الله وفَيْض من عطائه مطمور إلى حين .