Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 105-105)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والحق سبحانه قد قال من قبل : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } [ المائدة : 104 ] . والقولان يدلان على أن هناك فريقين : فريقا يسير على الضلال ، وفريقا يسير على الهداية . وهناك معركة بين الفريقين . فهل تدوم هذه المعركة طويلاً ؟ نعم ستظل هذه المعركة طويلاً لأن أهل الضلال لا يحبون أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه ، وكذلك فهم يستفيدون من فساد الكون . والمؤمن يحب الطاعة ويحاول أن يجعل أخاه المؤمن مُحباً للطاعة ، فإن رآه على مُنكر فإنه ينهاه عنه ويدفعه إلى المعروف ، فالخير حين يكون من الإنسان ينفع سواه ، وقد يتأجل نفعه هو لنفسه إلى الآخرة . وخير المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال . وصدق المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال . ونزاهة المؤمن يستفيد منها المجتمع ، وتضر أهل الضلال . أما إن كان المجتمع فاسداً فالمؤمن يشقى بفساد هذا المجتمع . إذن فمن مصلحة المؤمن أن يعدي الخير منه إلى سواه ، حتى ينتشر الخير ويعود الخير إلى المؤمن من حركة الخير في المجتمع . ولذلك قال الحق سبحانه : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي ألزموا أنفسكم ، وكأن نفوس المؤمنين وحدة واحدة . وهو تعبير عن ضرورة شيوع الرتابة الإيمانية المتبادلة . ومثل هذا الأمر جاء في التعامل مع أموال السفهاء لقد قال الحق : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } [ النساء : 5 ] . لأن السفيه لا حق له في إدارة ماله حتى يرشد لأن المال في الواقع هو مال كل المسلمين ، وعليهم إدارته لينتفع به كل المسلمين . وتكون إدارة الأمر أولاً بالنصح ، فإن لم يرتدع السفيه فليرفع عليه أقرب الناس إليه قضية حجر ، ذلك لأن أي شر ينتج من سلوك السفيه بماله إنما يعود على المجتمع ، وعلى هذا فالمال يظل مال الناس يقومون على إدارته إلى أن يعود السفيه إلى رشده فيعود له حق التصرف في ماله . { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] . لم يقل الحق إذن : " فادفعوا إليهم أموالكم " ذلك أن الرشيد أصبح مأموناً على ماله لذلك يعود المال إلى السفيه من فور عودته إلى الرشد . وكذلك قول الحق : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي أنكم يا جماعة المؤمنين كل منكم مسئول عن نفسه وعن بقية النفوس المؤمنة ، ومن الهداية أن نقوّم الذي على فساد . ولا يقولنّ مؤمن : " وأنا مالي " . وتتابع الآية { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } فما دمتم قد حاولتم تقويم الفساد فأنتم قد أديتم ما عليكم في ضوء قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " . ولكن كيف يكون التغيير بالقلب ؟ أي أن يكون تصرف الإنسان المؤمن هو المقاطعة لمن يخرج على منهج الله ، فإن قاطع كلُّ المؤمنين أيَّ خارج على منهج الله فلا بد أن يرتدع ، وعلى المؤمن ألا يقابل منحرفاً أو منحرفة بترحيب أو تعظيم ، فالتغيير بالقلب أن يكون التصرف السلوكي الظاهري مطابقاً لما في القلب ، فيحس فاعل المنكر أنه مستهجن من غيره . وقد يستسهل الناس أمور الشر أولاً إذا ما صادفهم من ينافقهم بمجاملات في غير محلها ، لكن لو استشعر فاعل المنكر أنه مقاطع من جماعة المسلمين وإن لم تضربه على يده ، فلا بد أن يرتدع ، والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] . أي أنك ساعة تعرض عن الذين يخالفون منهج الله ، وساعة يعرض غيرك عنه ، فإن ذلك يؤذيه ، ولا يجعل الناس يستشرون في الشر ويتفاقم ويعظم ضررهم إلا احترام المجتمع لهم . والمثال في القرى نجد أن الذي يمتلك بندقية ينال احتراماً ومجاملات تجعله يتجبر بسلاحه ، ولو أن الناس أعرضت عنه لضاعت هيبته ولعاد مرة أخرى يسلك السلوك الملتزم . وما المقياس في أمر التغيير بالقلب ومعاملة فاعل المنكر بعدم مودة ومحبة ؟ نقول : علينا أن نستمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل مرة عن هذه الآية : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } ، فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متّبعاً ودنيا مُؤثَرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك - بخاصة نفسك - ودع عنك العوامّ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم " . وأنت حين لا تُولي منحرفاً عن منهج الله مودة ، ورحمة ، ومعروفاً تكون قد ألزمت نفسك بالإيجابية . وإذا سأل المؤمن : وكيف يقاوم الإنسان ؟ . أجاب العلماء : من فرّ من اثنين ، فقد فرّ ، ومن فرّ من ثلاثة لم يفرّ . أي أن الإنسان في القتال إن واجهه شخصان ففِراره هَربٌ من المواجهة . وأما إن فرّ الإنسان وهو يواجه ثلاثة من الأعداء ، فهذه حماية للنفس وليست فِراراً . واستنبط العلماء هذا الحكم من وعد الله بنصر المؤمنين إن كان أعداؤهم مثليهم أي كعددهم مرتين وذلك من قول الحق تعالى : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 66 ] . هي إذن نسبة الرجل إلى الرجلين ، فإن فرّ مؤمن من أمام اثنين في أثناء القتال فقد خرج عن موعود الله بالنصر له ويسمى فاراً ويبوء ويرجع بغضب الله ويكون مآله جهنم لأن الله قد قال : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فقد وعد الله المقاتل المؤمن الصابر بالنصر إذا كان يقابل اثنين من الكفار . لكن إذا هرب من مواجهة ثلاثة فقد فعل ما يحمي حياته لأن الدين لا يدعو إلى الانتحار لذلك نقول لمن يبغون تغيير المنكرات في الدنيا : لا ترموا بأنفسكم إلى التهلكة ولا تقاتلوا عدوّاً يغلبكم بكثرته . واتبعوا قول النبي الصادق الأمين على استمرار أمته ما دامت تتمسك بمنهج الله . وتغيير المنكر بالقلب يتمثل - كما قلنا - في مقاطعة المنحرف مصداقاً لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } ونلاحظ أن " على " حرف جر ، والكاف للخطاب ، والميم للجمع ، و " أنفسكم " منصوبة . فعليكم هي " اسم فعل " أي هي ليست اسماً على حقيقته وليس حرفاً على حقيقته ، بل هي حرف دخل على ضمير فأدى مؤدى اسم الفعل ، أو هو اسم فعل منقول من الجار والمجرور . { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } أي ألزموها ، وحافظوا عليها ، ومن الهداية أن نعرف كيف نواجه القضايا بالعقيدة الإيمانية ، فينظر المؤمن إلى الكمية العددية للمهتدين ، والكمية العددية للضالين . فإن كانت الكمية العددية مساوية فلتقبل على المواجهة . وإن كانت الكمية الضالة ضعف الكمية المؤمنة فلتُقْبِل الكمية المؤمنة على المواجهة أيضاً . وإن كانت الكمية الضالة أكثر من الضعف فالمؤمن معذور إن حمى نفسه بعدم المواجهة ، ولكن عليه أن يقاطع كل منكر أو فاعلَ المنكر . كلنا نعرف تماماً أن كل فرد يحب أن تكون له مكانة في المجتمع . فإن رأى الإنسان أن الصيت والمكانة والذكر الحسن للصادق المستقيم فالإنسان يتجه إلى أن يكون صادقاً مستقيماً . وأن رأى الفرد أن المكانة في المجتمع تكون للكاذب المنحرف فهو يتجه إلى أن يكون كاذباً منحرفاً لذلك فعلى المؤمنين ألا يكرّموا إلا من يسير على المنهج الصالح . فقد روى الإمام أحمد قال : قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنّ الناس إذا رأوْا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله - عز وجل - أن يعمهم بعقابه " { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } ويطمْئِن الحق المؤمنين إلى أنهم إن قابلوا الضرر في حياتهم فليعلموا أن هذه الحياة ليست هي كل شيء ، بل هناك حياة أخرى نرجع فيها إلى الله ، فمن كان في جانب الله أعطاه الله خلوداً أبدياً في النعيم ، ومن كان ضد منهج الله أعطاه الله عذاب الجحيم . وقال الحق ذلك لأن المؤمن لا يضمن نفسه في كثير من المواقف ، فقد يدخل معركة وفي نيته الإخلاص لكنه قد ينحرف ، فيصيبه الضرر على قدر ما انحرف . وعلى الذين يسيرون في ضوء منهج الله دائماً أن يحتفظوا بتلك القضية في بؤرة شعورهم . ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة حينما كان في غزوة أحد ، وأمر الرماة ألا يبرحوا أماكنهم وإن رأوا المؤمنين في انتصار ورأوا الأعداء في هزيمة . واتجه الرماة إلى الغنائم من فور أن رأوا انتصار المؤمنين ، فلم ينصرهم الله وهم على مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وبذلك تعلم المؤمنون الدرس : أن يطيعوا الله والرسول في كل خطوة . ولو أن الله سبحانه لم يقل : { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . فماذا يكون موقف الذين لم يشهدوا نصراً لجند الله ، وهم قد دخلوا المعارك الأولى واستشهدوا ؟ . لقد علموا من البداية أن المرجع إلى الله وأنه سيعطيهم حياة أخرى . وسينبئهم الله بما فعلوا . والإنباء هنا بمعنى الجزاء والتكريم . وكما ساس الحق حياة المؤمن وهو يتحرك في الحياة الدنيا ، فإنه سبحانه يسوس حياة المؤمن بما يضمن له الحياة الآخرة في نعيم الخلد والجنة ، لذلك يقول الحق سبحانه : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .