Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 114-114)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله الحق : { مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } إنما يعني أن هناك لله موائد منصوبة في الأرض . والكون كله مائدة فيها من الخير الكثير إن استطاع الإنسان أن يكد ويكدح . والإنسان منا عندما يكد ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى الحيوانات فإنه يأتي إلى زوجه بمخزون قد يكفيهم كأسرة لمدة عام من دقيق وأرز وعسل وسكر وزيت ، فتأخذ الزوجة طيراً فتذبحه وتطهو معه الخبز والخضراوات . إذن فالكون كله مائدة الله المنصوبة والتي يأخذ منها كل إنسان على قدر عمله . وكلمة " مائدة " لا تطلق إلا على الخوان وعليه طعام . أما إن كانت بغير طعام فنطلق عليها " خواناً " لأن " المائدة " مأخوذة من مادة " الميم والألف والدال " والمائدة تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من أشياء . أو هي تعطي مما عليها من أشياء . فالمائد هو المُعْطَي . وقول عيسى عليه السلام يمتلئ بكل المعاني القيمة ، فهو يطلب أن تكون المائدة مناسبة لعيد يفرح به الأولون والآخرون وآية من الحق سبحانه وتعالى ، ويطلب من فضل ربوبية الرازق أن يرزقهم ، ويعترف بامتنان أن الحق هو خير الرازقين . والمقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى تدلنا على الفارق بين إيمان المبلغ عن الله ، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عن عيسى . إيمان عيسى هو الإيمان القوي الناضج . أما إيمان الحواريين فهو إيمان ناقص ، لقد كانت قوة إيمان عيسى نابعة من أنه يتلقى عن الله مباشرة ، أما الحواريون فليسوا كذلك ، على الرغم من أنهم آمنوا بالبلاغ عن الله وتم ذلك بواسطة رسول ، ولذلك يعلو الرسول على المؤمنين ببلاغة في سلم الإيمان درجة أعلى . إنه يتلقى عن الله ، ولهذا صحح عيسى عليه السلام طلبهم من الله وهو يدعو ربه . إنه رسول مُصطفى مُجتَبَى لذلك يضع الأمور في نصابها اللائق فيقول : " اللهم ربنا " و " اللهم " هي في الأصل " يا الله " ، وعندما كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضناه بالميم في آخرها ، فصارت : " اللهم " . وكأن هذا اللفظ : " اللهم " تتهيأ به نفس الإنسان لمناجاة الله في تقديس وثقة في أنه سبحانه يستجيب ، وهو نداء يقوم على عشق العبد لمولاه ، فلا يوسط بينه وبين اسم ربه أي حرف من حروف النداء . إننا نلحظ أن عيسى عليه السلام قدم كلامه لله بصفة الألوهية : " اللهم " فهو كنبي مرسل يعلم تجليات صفة الله . وهي تجليات عبادة من معبود إلى عابد . أما تجليات كلمة " رب " فهي تجليات تربية من رب إلى مربوب ، والفارق بين عطاء الألوهية للخلق ، وعطاء الربوبية ، هو أن عطاء الألوهية تكليف من معبود إلى عابد . والعابد يطيع المعبود فيما يأمر به وفيما ينهى عنه ، أما عطاء الربوبية فهو سبحانه المتولي للتربية للأجسام والعقول والمواهب والقلوب ، والرب هو رب للمؤمن وللكافر . ويتولى الرب تربية الكافر على الرغم من إنكار الكافر للألوهية . فسبحانه يربي الماديات التي تقيم حياته . ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء الكافرين : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ لقمان : 25 ] . والحق سبحانه يبلغ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الكفار عمن خلق السماوات والأرض ، ولن يجدوا إجابة على ذلك إلا قولهم : إن الله هو الخالق . وهي إجابة الفطرة الأولى . ونرى في حياتنا أكثر من مثل على ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يسأل الأطفال عن شيء من الذي أحضره ؟ فإننا نجد الإجابات تتسلسل إلى أن تصل إلى أن معطي كل شيء هو الله ، فإن سأل الطفل أمه : ماذا سنأكل ؟ وتجيب الأم - على سبيل المثال - سنأكل بامية مثلاً . ويسأل الطفل : من أين ؟ تجيب الأم : اشتراها والدك من بائع الخضر . ويسأل الطفل : ومن أين جاء بها بائع الخضر ؟ تقول : الأم . من تاجر في السوق . يسأل الطفل : ومن أين جاء بها التاجر ؟ تجيب الأم : من الفلاح الذي حرث الأرض وبذر فيها بذور البامية . يقول الطفل : من الذي خلق الأرض وأنبت النبات ؟ تقول الأم : إنه الله ربنا خالق كل شيء . لقد وصلت الأم بحوارها مع الطفل إلى عطاء الربوبية الذي يستوفي فيه المؤمن والكافر ، والمؤمن هو الذي يأخذ بجانب عطاء الربوبية عطاء الألوهية أيضاً ، وهو التكليف . فعطاء الألوهية يعطي المؤمن عطاء الربوبية مضافاً إليه العطاء الذي لا ينفذ ، إنه يعطي المؤمن زمانا لا يموت فيه ونعمة لا يتركها ولا تتركه ، ويأخذ المؤمن بالمنهج يقين الإشراق والإقبال على العمل في ضوء منهج الله . لقد قال عيسى ابن مريم داعيا الله : { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } وألزم عيسى نفسه بنداء الألوهية أولاً معترفاً بالعبودية لله ملتزماً بالتكليف القادم منه ثم جاء بنداء الربوبية . فيا من أنزلت علينا التكليف ويا من تتولى تربيتنا نحن ندعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء . وأخذ نداءه زاوية القيم ثم زاوية المادية وهي الرزق ، لكن الحواريين قدموا بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام فقالوا : نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ، أما عيسى ابن مريم بصفائية اختياره رسولاً فقد أخر الطعام عن القيم فقال : { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } . صحيح أن الرزق يمس الأكل ، ولكن الرزق ليس كله أكلاً . فالرزق هو كل شيء تحتاج إليه وتنتفع به ، فالأكل رزق ، والشرب رزق ، والملبس رزق ، والعلم رزق ، والحلم رزق ، وكل شيء تنتفع به هو رزق من عند الله ، ولذلك جاء عيسى بالكلمة العامة التي يدخل فيها الأكل وتتسع لغيره . ويجيب الحق على دعاء عيسى ابن مريم : { قَالَ ٱللَّهُ … } .