Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 118-118)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولقائل أن يقول : أليس في ذلك الأمر إشكالٌ واضح ؟ . لقد ادّعى بعض أتباع عيسى أنهم أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله . فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآية . ونقول : إن عيسى لم يقل : " يا رب اغفر لهم " ولكنه قال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية ، وهو كرسول من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه ، وأن له سبحانه طلاقة القدرة ، فلا قدرة تقيده فطلاقة المشيئة موجودة . وهم عباد لله باختيارهم . إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله . ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم عباد الله . إذن فالخلق نوعان : عباد الله ذهبوا لله إيماناً ومحبة وطاعة ، والنوع الثاني هم العبيد الذين يُقهرون لقاهرية سيدهم ، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله . بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل ، وكان الحق قادراً على أن يخلق خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يأمرهم به الله . وقد فعل الحق ذلك مع الملائكة . لكن قدرة القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة ، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختاراً أن يؤمن أو أن يكفر ، ثم يختار الإيمان . إنه بذلك آمن بالمحبة لا بالقهر . وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به . إن كل الوجود - ما عدا الإنسان - مقهور ، ولا يقدر على المعصية : الشمس ، والقمر ، والمطر ، والهواء ، والسحاب وكل ما في الكون مقهور لله . إذن لو أراد الله خلقاً مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به ، ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان ، أما في الإنسان فقد خلقه الله مختاراً بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه ويتبعوا منهج الله ، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به . فلا يكلف - سبحانه - أحداً بأن يموت أو يمرض ، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل ، ولا يكلف من لم يبلغ رشد العقل لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود ثلاثة شروط : الأول : أن يوجد العقل ، والثاني : أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد ، والثالث : ألا تكون هناك قوة تهدد حياته وتقهره على فعل ما . وهكذا نعلم أن هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف . وهم : المجنون وغير ناضج العقل لأنه لم يبلغ الرشد ، والمقهور بفعل فاعل . وقد أعطى الحق مع التكليف الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وبذلك ليس لأحد عند الله حجة ، ومن دخل التكليف طائعاً فهو من عباد الله . ومن عصى الله وخرج عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كل شيء فيما عدا التكاليف التي خيّروا فيها . إذن فالعباد هم الذين دخلوا العبادية بأن وازنوا بين الإيمان ونقيضه الكفر … أي بين المراد لله وغير المراد لله . فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم على الرغم من علمه بكفرهم : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } ؟ . ونقول : إن معنى " العباد " و " العبيد " الذي شرحناه سابقاً هو وضع الإنسان في الدنيا وما يكون عليه فيها ، ولكن الحوار الذي نقرؤه في القرآن بين عيسى عليه السلام والحق سبحانه وتعالى يكون في الآخرة ، وكلنا في الآخرة عباد طائعون . وعندما نستقرئ كلمة " عباد " في القرآن نجد أن العباد هم الصفوة المختارة التي اختارت مراد الله فوق اختيارهم فاستوت مع المقهور تماماً . ومثال ذلك قول الحق سبحانه : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] . أنه يأتي هنا بالخصال الجميلة لهذه الصفوة من العباد . والشيطان نفسه يعلن عدم استطاعته إغواء العباد المخلصين كما يقرر القرآن الكريم : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 83 ] . أما في الآخرة فكلنا عباد ، وها هوذا الحق سبحانه يخاطب الذين أضلوا غيرهم بقوله تعالى : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي } [ الفرقان : 17 ] . إن الكل عباد لله يوم القيامة ، والكل ينفذ مراد الله ، ولا ولاية لأحد على أي شيء من أبعاضه وجوارحه ، فالعين التي كانت مسخرة للعبد في الدنيا تأتمر بأمر العبد فيختار أن يرى الحلال أو يرى الحرام ، هذه العين تسترد حريتها من صاحبها فلا ولاية له عليها في اليوم الآخر ، وكذلك اليد واللسان والجلد والقدم ، وكل الأبعاض . وتكون النفس الإنسانية في الدنيا كقائد لكل الأبعاض والجوارح تنفذ أوامر الإنسان سواء للخير أو للشر ، وسواء للطاعة أو للمعصية . لكن هذه الأبعاض والجوارح تنطلق يوم القيامة لتشهد على كل ما فعل الإنسان ، فليس لأحد مراد غير مراد الله : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . لقد انتهت مرادات البشر وبقي مراد الله فصار الكل عباداً لله . وعلى هذا فليس هناك إشكال في قول عيسى : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } . ونعلم أيضاً أن كلمة " عبيد " تشملنا كلنا فيما نحن غير مخيرين فيه مثل إرادة التنفس أو ميعاد الميلاد أو ميعاد الموت ، ولكن المؤمنين يرتقون من " العبيدية " إلى " العبادية " بتنفيذ منهج الله ، أما الكافرون والعصاة فهم يعصون الله بما لهم من اختيار ويسيرون في درب العصيان معاندة لمنهج الله . وحتى يثبت الحق لنا جميعاً أن الكافرين مجرد عبيد فهو يصيبهم بالمرض والفاقة والآلام النفسية العميقة ولا يجرؤ واحد منهم أن يصادم مراد الله في هذه الأحداث التي يجريها عليهم . ولذلك فالمؤمن يشكر الحق باختياره لأن الله حماه بأدوات الاختيار وجوداً ونضجاً وعدم إكراه . ولنا أن نلحظ أننا كلنا في يوم القيامة - كما قلنا من قبل - نصير عباداً لله فلا مراد لأحد فينا على أي شيء ، وكل المراد يكون لله ، وقد أورد الحق سبحانه ما جاء على لسان عيسى عليه السلام فقال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وهذا التذييل لكلمات عيسى ابن مريم لم يأت باعتذار أو طلب الحنان من الله على الذين كفروا بالله وأشركوا به ، فالعزيز الحكيم هو الذي لا يغلب على أمره ولا تسيطر عليه قوة ولا تحمي هؤلاء الناس قوة من دون الله ، فهو القادر العزيز ، إن شاء غفر لهم فلا راد لمشيئته . وبعض السطحيين الذين يتلمسون الأخطاء في القرآن قالوا : ألم يكن الأجدر أن يقول عيسى : إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ؟ . ونرد على هؤلاء السطحيين فنقول : إن كل كلمة في القرآن جاذبة لمعناها ، وكل معنى في القرآن عاشق لكلمته . ولذلك جاء التذييل في هذه الآية بما يخدم طلاقة المشيئة في تعذيبهم أو في الغفران لهم ، فإن عذبهم فليس هناك قوة ثانية تستطيع أن تحميهم من عذابه لأنه - سبحانه - عزيز ، وإن غفر لهم فلا توجد قوة أعلى تسأله : كيف غفرت لهم وقد كانوا كافرين ؟ إذن فسبحانه لا يسأل عما يفعل لأنه عزيز حكيم . وأيضاً فقولهم : كان الأنسب أن يقول : فإنك أنت الغفور الرحيم . نقول لهم : هي تناسب قوله { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } ولكنها لا تناسب { إِن تُعَذِّبْهُمْ } فكان لا بد أن يأتي تذييل الآية بما يناسب { إِن تُعَذِّبْهُمْ } وبما يناسب قوله تعالى : { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } . والحق بعد ذلك يقول : { قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ … } .