Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 120-120)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والسماء والأرض هما ظرفان للوجود وللكائنات كلها من أبراج وكواكب وشمس وقمر ونجوم وهواء وغمام وماء وحيوان وإنسان . فالأرض وهي المُلْك الأسفل الذي نراه وما فيه من أقوات وحيوان وإنسان . والسماء وما تحوي وتضم من الملكوت الأعلى ، هما جميعاً لله مِلْكا ومُلْكاً فهو - سبحانه - الذي يملك كل شيء ويملك كذلك المالك للشيء . وقول الحق : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ينطبق مع قول المسيح عيسى ابن مريم : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] . أي أنه ليس لشيء من خلق الله أن يخرج عن مرادات الله ، أما في الدنيا فقد جعل الله أسبابها في أيدي الناس ، رزق إنسان في يد إنسان آخر ، ومَلَّك بعضنا أمر بعض ، فهناك مالك الطعام ومالك الثوب ، ولكن ليس كل مالك مَلِكاً لأن المَلِك هو الذي يملك المالك ، وهذه سنن الكون . وفي الآخرة هناك مالك واحد هو مالك يوم الدين . فكأن الحق أنهى هذه السورة بالحديث عن نهاية الحياة لأنه سبحانه قد بدأها بالحديث عن أحكام الله فقال : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } [ المائدة : 1 ] . لقد تكلم سبحانه في الأحكام عن الصيد في البر والصيد في البحر وعن الحلال والحرام من الأنعام وعن النكاح ، وعن كل ما يتعلق بمسئوليات الحياة ، ومَلَّكَ بعضنا أمر بعض ، لكن في اليوم الآخر فالمسألة مختلفة . فبدأ السورة بأمر هو : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] . إن كل أمر ورد من الأمر الأعلى ، فالمأمور يفعل أو لا يفعل . فهناك من الناس من يؤمن ومن يعصي ، ومعنى ذلك أن المأمورين لهم حرية الاختيار ، فلو كان الأمر لا بد أن يفعل دون اختيار لكان الآمر قد خلق الخلق وهم مفطورون على أن يفعلوا فيكون بذلك قد قهرهم ، لكن الآمر الأعلى ترك هذه الأوامر لاختيار البشر ، وهم صالحون للطاعة والوفاء بالعقود ، وهم صالحون للمعصية . لقد بدأ سبحانه السورة بمنطقة الاختيار في الإنسان التي خلقها الله لينشأ عنها التكليف . وأوضح بعد ذلك أن للاختيار أمداً محدداً سينتهي ، ويجمع الله الناس يوم ينفع الصادقين صدقهم ويكون الأمر كله لله . ويختم الحق السورة بقوله سبحانه : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي أنه سبحانه يملك الكون كله ، والكون - كما نعلم - مكون من أجناس متعددة . وأول جنس في الكون هو الخادم الذي لا يُخْدَم هو الجماد ، والجماد قد يكون ماءً أو جبالاً أو حديداً ، أو شمساً ، أو قمراً ، أو نجوماً ، كل هذه جمادات ، أي ليس لها حس . وهذه الجمادات تخدم أول ما تخدم النبات . والنبات يخدم الحيوان ، والحيوان يخدم الإنسان . هكذا يكون الجماد خادماً لكل ما يعلوه من نبات وحيوان وإنسان . النبات يخدم الحيوان والإنسان . والحيوان يخدم الإنسان . وكل هذه الأشياء التي تخدم الإنسان لا اختيار لها وكلها مقهورة لخدمة الإنسان فالشمس لم تغضب يوماً على البشر فلم تمدهم بحرارتها ولا المطية تأبت على صاحبها . والإنسان فيه قسمان : قسم مقهور للحق فلا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيه أو يسيطر عليه مثل المرض أو الموت وهو في ذلك يشترك مع الحيوان والنبات والجماد ، وقسم يكون الإنسان فيه مختاراً وهو تطبيق المنهج . إننا إذا نظرنا إلى الجانب الذي قهر فيه الحق الإنسان نجده لمصلحة الإنسان . فالإنسان لا يختار أن يتنفس ولا أن يسري الدم في عروقه ولا أن تعمل كليتاه . إنه مقهور في كل ذلك . ومن رحمة الله بالخلق أن جعلهم مسيّرين ومقهورين في هذه النواحي ، فلم يجعل تنفس أحد بيد صاحبه ولا جعل القلب يعمل بإرادة الإنسان . والإنسان - إذن - يُخير في مسائل التكليف فقط . وكأن الحق يذكر الإنسان أن منطقة الاختيار هي عقد بين المؤمن وربه لأن الاختيار سيسلب من العباد يوم القيامة ، ويكون كل العباد مقهورين ويصير الكائن البشري مثل الجماد والنبات والحيوان . ولذلك يقول الحق سبحانه : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] . إنّ الإنسان يوم القيامة سيصير بلا اختيار لأن الحق استعمل " ما " هنا وهي تدل على الأشياء غير العاقلة أي التي لا اختيار لها . كأن العقل له عمل في الدنيا وهو التمييز بين البدائل ، أما في الآخرة فالكل متساوٍ أمام خالقه . وعلمنا من قبل الفارق بين " مُلْك " و " ملكوت " وكلنا يقرأ قول الحق : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] . كأن الحق ينبهنا إلى أن العالم فيه ما يقع تحت الإحساس والإدراك ، وفيه ما لا يقع تحت الإحساس والإدراك . فالذي يقع تحت الحس والإدراك هو عالم المُلْك . والذي لا يقع تحت الحس والإدراك هو عالم الملكوت . ولا نعرف عن عالم الملكوت إلا ما أخبرنا به الله . وهناك في عالم الملك ما يخفيه الله عنا ، وسبحانه وحده هو القادر على كل شيء ، والحق يطلب منا أن نعتبر بما في العالم المشهود من ظواهر . وله سبحانه مطلق العلم بعالم " الملكوت " أي ببواطن هذه الظواهر غير المشهودة . و " الملك " و " الملكوت " موجودان في الدنيا والآخرة ، إلا أن المُلْك ظاهر والملكوت خفي . ويوزع الحق سبحانه وتعالى أسباب الملك في الدنيا بين أيدي خلقه ، ويملك التصرف فيما بين أيدينا وفيما خفي عنا ، ويشاء الحق أن ينهي هذه المسألة من مبررات الخلافة للإنسان على الإنسان في الأرض فيقول : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ } فلله الملكوت ، ولكم بعض الملك أيها العباد في ظواهر نسبة الأشياء إلى أسبابها وذلك في الدنيا ، أما يوم القيامة فكل شيء ينتهي إلى الله . ولكن لماذا قال الحق : { وَمَا فِيهِنَّ } على الرغم من أن الحق استخلف الإنسان في الأرض ، والإنسان عاقل وكان من حقه أن يُغلب فيأتي القول : ومن فيهن لأن مَن للعاقل ، لقد أراد الحق بذلك أن ينبئنا أن الكل أصبح لا اختيار له ، وأصبح مقهوراً على المراد منه فقد تساوى الجميع عاقلهم وغير عاقلهم فيقول لنا : { وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وبهذه الآية ختمت سورة المائدة . وهي سورة مدنية ، وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم ، وفيها التشريع . وفيها التكاليف . وفيها الأحكام . وفيها ما يتعلق بكل السور المدنية من بيان اعوجاج أهل الكتاب . ومن بعد ذلك جاءت سورة الأنعام ، وهي مكية . وجاءت المكية بعد المدنية في الترتيب المصحفي حسب ما انتهى إليه آخر عرض للقرآن في آخر رمضان من حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام . ومن المعلوم أن القرآن له " ترتيب نزولي " و " ترتيب مصحفي " . والترتيب النزولي حسب ما نزلت سورة القرآن في مكة أو المدنية . ورب قائل يقول : إن الحق أنزل هذا القول الكريم فوق عرفات وهو قوله سبحانه : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] . فكيف يقال ذلك ؟ . نقول : لنفهم معاً معنى الاصطلاح القائل : " مدني " و " مكي " ، هناك آيات من القرآن نزلت بالمدينة ، وآيات أخرى نزلت بمكة ، وآيات ثالثة فيما بينهما ، وآيات رابعة نزلت بين السماء والأرض . وجاء الاصطلاح " مكي " على الآيات التي نزلت قبل الهجرة ، وجاء الاصطلاح " المدني " على الآيات التي نزلت من بعد الهجرة ، وإن نزلت بمكة . وأراد الحق أن يكون للقرآن ترتيب نزولي وترتيب مصحفي ، وقد شاء سبحانه أن يعدل بالقرآن ميزان الكون الإنساني المضطرب ، واضطراب الكون الإنساني إنما يكون بواسطة أناس لا يؤمنون بإله ، أو بأناس يؤمنون بإله ويشركون معه غيره فيعبدون أوثاناً ، ويقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] أو بأناس يعبدون النار ، أو بأناس تابعين لمنهج سماوي ولكن حرفوا فيه قليلاً أو كثيراً . إننا نجد أن الأقرب إلى الإيمان بالله هم الأجناس الذين آمنوا بالرسالات السابقة على رسول الله ، فقد جاءتهم الرسل ومعهم المعجزات ، ومعهم كتب المناهج ، والمنطق يقتضي أن يكون هؤلاء هم الأقرب للإيمان من غيرهم ، ولذلك كان من المطلوب أن نواجه أولاً الوثنيين ونصفي المعركة مع أهل الكتاب من بعد ذلك لأن أهل الكتاب لهم إلف بنزول منهج السماء إلى الأرض بواسطة الرسل . إذن ففي نزول القرآن كانت الأمور المكية التي تتعلق بالعقيدة الأساسية هي الظاهرة . وهي الاعتراف بألوهية واحدة تحكم الكون . أما في المدينة فد ناقش الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في كل أمور الدين بعد أن استتب أمر التوحيد . لقد كان هذا الترتيب منطقياً مع هذه الحقيقة . فقد كان في العالم موجتان اثنتان : موجة إلحاد ، وموجة تغيير في منهج الله السماوي . ولذلك كانت قلوب المسلمين مع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب لأنهم على الأقل يؤمنون بإله ، وأن الإله يرسل الرسل ومعهم المنهج الإلهي والمعجزات الدالة على صدق رسالتهم ، وحتى الذين انحرفوا من أهل الكتاب كانوا يتمسحون في هذا الكتاب المنزل إليهم بالرغم من أنهم حرفوه . لقد وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقف بجانب الروم عندما واجهوا فارس . وعندما هزمت الروم حزن المسلمون وفرح الكفار لأن الروم كانوا أهل كتاب إنهم كانوا نصارى ، وكانت هزيمتهم تعني انهزام منطق السماء أمام منطق الإلحاد ، لذلك حزن المسلمون ، وفرح الكفار . وأراد الله أن يصور لنا الموقف ، وأن يوجه قلوبنا إلى الذين يؤمنون أيضاً بأن هناك إلهاً حتى ولو كانوا قد أخطأوا في تصور هذا الإله وفي البلاغ عنه ، أو أخطأوا في تأويل ما جاءت به الرسل فقال سبحانه : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } [ الروم : 1 - 5 ] . إنّ المسلمين يفرحون بنصر الروم على فارس لأن الروم لهم علاقة بالسماء ، والرسل ، والمناهج ، والوحي . وجعل الله الأمر واضحاً هكذا لكي يبين موقفنا وليجعلها إعجازاً لكتابه ولرسوله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موجوداً بمقر الدعوة وهو الجزيرة العربية ، وليس عنده سفارات ولا مخابرات ولا مكتب حربي حتى يأتيه بالأخبار وينبئه عن استعدادات الروم التي تُجري لرد الهزيمة . هذا الرسول يتنبأ بخبر معركة قادمة بين الفرس والروم ، وينتصر فيها الروم ، معركة تحدث بعد سبع أو تسع سنوات . وعندما راهن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه المشركين على ذلك ، وجعل بينه وبينهم خمس سنين أجلاً لغلبة الروم وظهورهم على الفرس ، ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل " فكانت مائة بعير إلى تسع سنين . إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم كلام الواثقين ، لأنه ينقل الخبر عن الله ، وجعله الله قرآناً يتلى ويصلى به ، ومحفوظاً أبد الدهر ، ولا يمكن أن يكذب هذا القائل إنه - سبحانه - هو الذي يملك ميزان الكون كله ، وأي إنسان من رجالات الحرب المعاصرين لا يمكنه أن يتنبأ بمصير معركة قادمة ، على الرغم مما قد يُجمع لها ويحشد من معلومات عن القوة والعدة والعتاد . ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله وهو واثق تمام الوثوق مما يبلغ . وقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الخصم الإلحادي ، وكان قلبه مع أهل الكتاب ، ونرى أيضاً أن أهل الكتاب كانوا يستبشرون بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ألم يقل بعض أهل الكتاب وهم اليهود في المدينة للأوس والخزرج : قد أظل زمان نبي يُبعث وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم . ولكنهم كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك لأنه سيسلب منهم السيادة ، والسلطة الزمنية . إذن فنزول القرآن أولاً كان في مكة ، ومن بعد ذلك نزل في المدينة . لكن في الترتيب المصحفي - كما قلنا - جاءت المدنيات أولاً ، وبعد ذلك جاءت المكيات . وذلك حسب ما أراد الله عندما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان الأخير من حياة الرسول الكريم . إنَّ أصل الإيمان واحد ، وهو الإيمان بإله ، ووحي ، ورسل ، ومنهج ، وكل ذلك له فائدة إقامة نظام يحكم الحياة . وهو نظام ضروري لتنصلح حال الحياة سواء آمن الناس بإله أو كفر بعضهم . وجاء هذا النظام الذي يحكم في السور المدنية أولاً ولم يغفله الحق في بعض السور المكية . إنّ الحق شاء لرسوله أن يوحد القلوب المؤمنة بإله واحد أولاً ليواجهوا معسكر الإلحاد . ولكن هناك من اختلف وتخلف عن مؤازرة موكب الإيمان . وهكذا تنتهي خواطرنا حول سورة المائدة ، ومع أن سورة المائدة مدنية وسورة الأنعام مكية إلا أن السياق بين تذييل المائدة وافتتاح الأنعام فيه اتساق واضح . فالحق يقول في آخر سورة المائدة : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ويقول سبحانه في أول سورة الأنعام : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] فسبحانه وتعالى قدير ويملك كل الكون ، ولم يأخذ ذلك الملك افتئاتاً أو ادعاء ، ولكنه جل شأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وهو الذي جعل الظلمات والنور .