Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 21-21)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذا بلاغ من موسى بما أوحى الله به إليه ، ومتى حدث ذلك ؟ نعرف أن صلة بني إسرائيل بمصر كانت منذ أيام يوسف عليه السلام ، وعندما جاء يوسف بأبيه وإخوته وعاشوا بمصر وكونوا شيعة بني إسرائيل ، ومكن الله ليوسف في الأرض وعاشوا في تلك الفترة . والعجيب أن المس القرآني للأحداث التاريخية فيه دقة متناهية ، ولم نعرف نحن تلك الأحداث إلا بعد مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر . فعندما جاءت تلك الحملة صحبت معها بعثة علمية . وكانت تلك البعثة تنقب عن المعلومات الأثرية ليتعرفوا على سر حضارة المصريين ، وسر تقدم العرب القديم ، الذي سبق أوربا بقرون ، وأخذت منه أوربا العلوم والفنون ، في حين صار هذا العالم العربي إلى غفلة . إن العرب المسلمين هم الذين اخترعوا أشياء ذهل لها العالم الغربي ، ويحكي لنا التاريخ عن هدية من أحد ملوك العرب إلى شارلمان ملك فرنسا وكانت الساعة دقاقة ، وظن الناس من أهل فرنسا أن بهذه الساعة الدقاقة شيطانا . وفكرة تلك الساعة أن العالم الذي صممها وضع فيها إناء من الماء به ثقب صغير تنزل منه القطرة بثقلها على شيء يشبه عقرب الساعة ، فتتحرك الساعة دقيقة واحدة من الزمن . وكانت الساعة تسير بنقطة الماء . وكان ضبطها في منتهى الدقة . وحين رآها الناس في بلاط شارلمان ملك فرنسا ظنوا أن بداخلها شياطين . وهذا نموذج من نماذج كثيرة لا حصر لها ولا عدد تدخل في نطاق قوله الحق : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] وحينما جاء الفرنسيون إلى القاهرة كان معهم تلك البعثة العلمية ومعهم مطبعة ، وعرض هؤلاء العلماء الفانوس السحري ، وجعلوا الناس البسطاء يذهلون من تقدمهم العلمي . واستترت تلك الحملة بعروض أقرب إلى " الأكروبات " . وكان عمل العلماء هو البحث عن سر حضارة المصريين والمسلمين لأنهم يعلمون أن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى مصر بالإضافة إلى حضارة المصريين القدماء . لقد كانوا يعرضون ألعابهم السحرية العلمية بدرب الجماميز ، وذلك حتى ينبهر الناس بالحضارة الفرنسية . وكان علماؤهم في الوقت نفسه يكتشفون ما نقش على حجر رشيد ، وهو الحجر الذي اكتشفه ضابط فرنسي شاب اسمه شامبليون ، وعلى هذا الحجر كتبت الكلمات الهيروغليفية . واستطاع شامبليون أن يفصل أسماء الأعلام الهيروغليفية ومن خلال ذلك استطاع أن يصل إلى أبجدية تلك اللغة . وكأن الله أراد أن يسخر الكافرين بمنهج الله ليؤيدوا منهج الله . إن في كل لغة شيئا اسمه " منطق الأعلامَ " ومثال ذلك أن يوجد اسم رجل أو أمير أو إنسان ، فهذا الاسم مكون من حروف لا تتغير ، مثال ذلك نأخذه من اللغة الإنجليزية كان اسم رئيس وزراء انجلترا في وقت من الأوقات هو " تشرشل " هي كلمة إذا ترجمناها ترجمة حرفية لم تدل على صاحبها ولم تعرفنا به لأننا عندما نترجمها نكتفي بكتابة الاسم بالحروف العربية بدلاً من اللاتينية . إذن فالأعْلاَم لا يتغير نطقها . وكشف شامبليون عن الحروف التي لم تتغير . واهتدى إلى فك طلاسم حروف اللغة الهيروغليفية فعرف كيف يقرأ المكتوب على حجر رشيد ، واستطاع أن يقدم لنا بدايات اكتشاف تاريخ مصر القديمة . واستطاع أن يقرأ اللغة المرسومة على ذلك الحجر . ولنا أن نرى عظمة القرآن حينما تعرض للأقدمين … تعرّض لعادٍ وتعرَّض لثمود وتعرض لفرعون . تعرض لتلك الحضارات كلها في سورة الفجر ، فقال سبحانه وتعالى : { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ * وَٱللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } [ الفجر : 1 - 7 ] وإرم ذات العماد هي التي في الأحقاف - في الجزيرة العربية - ولم نكتشفها بعد ، ولم نعرف عنها حتى الآن شيئاً ، وهي التي يقول عنها الحق : { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [ الفجر : 8 ] ثم يتكلم بعدها عن فرعون : { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } [ الفجر : 10 ] والأهرام أقيمت بالفعل على أوتاد ، وكذلك المسلات المصرية القديمة والمعابد . وغيرها من العجائب التي بهرت الناس في مختلف العصور . { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [ الفجر : 8 ] ثم جاء بحضارة ثمود . { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } [ الفجر : 9 ] وقد رأينا هذه الحضارة التي كان الناس أثناءها ينحتون البيوت في الصخر ، كما رأينا حضارة مصر . وحضارة عاد هي التي لم نرها حتى الآن ولا بد أن تكون مطمورة تحت الأرض . ونعرف أن الهبة الرملية الواحدة عندما تهب في تلك المناطق تطمر القافلة كلها ، فما بالنا بالقرون الطويلة التي مرت وهبت فيها آلاف العواصف الرملية ، إذن لا بد أن ننقب كثيراً لنكتشف حضارة عاد . والحق تكلم عن موسى عليه السلام ، تكلم - أيضاً - عن المعاصرين له وكان أحد هؤلاء الفراعنة ، فقال سبحانه لموسى ولأخيه هارون عليهما السلام : { ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } [ طه : 43 ] ويذهب موسى إلى فرعون حتى يخلص بني إسرائيل من ظلم فرعون . ولماذا ظلمهم فرعون ؟ نحن نعرف أن كل سياسة تعقب سياسة سابقة عليها تحاول أن تطمس السياسة الأولى ، وتعذب من نصروا السياسة الأولى ، وتلك قضية واضحة في الكون . وهذا ما يتضح لنا من سيرة سيدنا يوسف الذي صار وزيراً للعزيز ودعا أباه وأمه وشيعته إلى مصر ، ولم تأت سيرة فرعون في سورة يوسف . وعندما تكلم القرآن على رأس الدولة في أيام يوسف قال : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } [ يوسف : 54 ] لم يقل الحق : " فرعون " على الرغم من أنه قال قبل ذلك عنه إنه : " فرعون " وأيام موسى ذكر فرعون ، لكن في أيام يوسف لم يأت بسيرة فرعون إنما جاء بسيرة مَلِك . وعندما جاء اكتشاف حجر رشيد ، ظهر لنا أن فترة وجود يوسف عليه السلام في مصر هي فترة ملوك الرعاة أي الهكسوس الذين غَزَوْا مصر وأخذوا الْمُلْكَ من المصريين وحكموهم وصاروا ملوكاً ، وسمي عصرهم بعصر الملوك . وقال القرآن : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } . ولم يأت بذكر لفرعون . وعندما استرد الفراعنة ملكهم وطردوا الرعاة ، استبد الفراعنة بمن كانوا يخدمون الملوك وهم بنو إسرائيل . هكذا تتأكد دقة القرآن عندما ذكر فرعون لأنه كان الحاكم أيام موسى ، لكن في زمن يوسف سمي حاكم مصر باسم الملك . وتلك أمور لم نعرفها إلا حديثاً . ولكن القرآن عرفنا ذلك . وكانت تحتاج إلى استنباط . وهي تدخل ضمن الآيات التي لا حصر لها في قوله الحق : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] فسبحانه وتعالى بعد أن أيد موسى بالآيات وأغرق فرعون ، هنا قال لهم موسى : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ] فقد انتهت المهمة بتخليص بني إسرائيل من فرعون ، وخلصوا أهل مصر من فرعون . وكانت الدعوة لدخول الأرض المقدسة . وكلمة الأرض إذا أطلقت صارت علماً على الكرة الجامعة . ووردت كلمة " الأرض " في قصة بني إسرائيل في مواضع متعددة لمواقع متعددة . فها هوذا قول الله في آخر سورة الإسراء : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ } [ الإسراء : 104 ] فهل هناك سكن إلا الأرض ؟ إن أحداً لا يقول : اسكن كذا إلا إذا حدد مكاناً من الأرض لأن السكن بالقطع سيكون في الأرض ، فكيف يأتي القول : { ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ } ؟ والشائع أن يقال : اسكن المكان الفلاني من المدن ، مثل : المنصورة أو أريحا ، أو القدس . وقوله الحق : { ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ } هو لفتة قرآنية ، ومادام الحق لم يحدد من الأرض مسكوناً خاصاً ، فكأنه قال : ذوبوا في الأرض فليس لكم وطن ، وانساحوا في الأرض فليس لكم وطن ، أي لا توطن لكم أبداً ، وستسيحون في الأرض مقطعين ، وقال سبحانه : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } [ الأعراف : 168 ] وحين يأتي القرآن بقضية قرآنية فلنبحث أأيدتها القضايا الكونية أم عارضتها ؟ القضية القرآنية هنا هي تقطيع بني إسرائيل في الأرض أمما ، أي تفريقهم وتشتيتهم ولم يقل القرآن : " أذبناهم " بل قال : " قطعناهم " وتفيد أنه جعل بينهم أوصالاً ولكنهم مفرقون في البلاد . وعندما نراهم في أي بلد نزلوا فيها نجد أن لهم حيا مخصوصا ، ولا يذوبون في المواطنين أبداً ، ويكون لهم كل ما يخصهم من حاجات يستلقون بها ، فكأنهم شائعون في الأرض وهم مقطعون في الأرض ولكنهم أمم ، فهناك " حارات " وأماكن خاصة لليهود في كل بلد . حدث ذلك من بعد موسى عليه السلام ، لكن ماذا كان الأمر في أيام موسى ؟ قال لهم الحق : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي بعد رحلتكم مع فرعون اذهبوا إلى الأرض التي كتبها الله لكم . ونلحظ هنا أن كلمة " الأرض المقدسة " فيها تحييز وتحديد للأرض . ولكن ما معنى " مقدسة " ؟ المادة كلها تدل على الطهر والتطهير . فـ " قَدَّس " أي طهّر ونزّه ، ومقدسة يعني مطهرة . والألفاظ حين تأتي تتوارد جميع المادة على معانٍ متلاقية . ففي الريف المصري نجد ما نسميه " القَدَس " أو " القادوس " وهو الإناء الذي يرفع به الماء من الساقية ، وكانوا يستعملونه للتطهير ، فالقادوس في الريف المصري هو وعاء الماء النظيف . وعندما يقال : " مقدسة " أي مطهرة . إن من أسماء الحق " القُدُّوس " ، ويقال : " قُدِّس الله " أي نزه " ، فالله ذات وليست كذات الإنسان ، وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك ، وهو سبحانه له أفعال ، ولكن قدسه وطهره منزهة أن تكون كأفعالك . فذات الحق واجبة الوجود وذات الإنسان ممكنة الوجود لأن ذات الإنسان طرأ عليها عدم أول ، ويطرأ عليها عدم ثانٍ ، وهو سبحانه واجب الوجود لذاته ، والإنسان واجب لغيره وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد . ولله حياة وللإنسان حياة ، لكن أحياتك أيها الإنسان كحياة الله ؟ لا . إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك ، وصفاته ليست كصفاتك ، فأنت قادر قدرة محدودة وله سبحانه طلاقة القدرة ، وهو سبحانه سميع والعبد سميع لكن سمع البشر محدود وسمعه سبحانه لا حدود له . إذن فصفاته مقدسة ، ولذلك فعندما تسمع أنه سبحانه سميع عليم فليس سمعه كسمعنا ، وله فعل غير فعلنا . وعندما يقول الحق : إنه فعل ، ففعله منزه عن التشبيه بفعل البشر لأن البشر من خلق الله ، وفعل البشر معالجة ، ويكون للفعل بداية ووسط ونهاية ويفرغ من الأحداث على قدر الزمن . ونحن نحمل الأشياء في أزمان متعددة ويحتاج من يحمل الأشياء إلى قوة . ولكن فعل الحق مختلف ، إنه فعل بـ " كن " لذلك قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] أي أنه سبحانه وتعالى منزه عن التعب ، فهو يقول : { كُنْ فَيَكُونُ } ولذلك قلنا في مسألة الإسراء : إننا يجب أن ننسب الحدث إلى الله لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى نعرف أن الذين عارضوا رسول الله في مسألة الإسراء كانوا على خطأ فقد قالوا : أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة ؟ ! إن رسول الله لم يدع لنفسه هذا الأمر ، لأنه لم يقل : " سريت من مكة إلى بيت المقدس " حتى تقولوا : " أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة " . لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : أُسْرِيَ بي . أي أنه صلى الله عليه وسلم ليس له فعل في الحدث . والفعل إذن لله . ومادام هو من فعل الله فهو لا يحتاج إلى زمن لذلك كان يجب أن يفهموا على أي شيء يعترضون . ولكنا نعرف أن الله سبحانه وتعالى أراد لهم أن يفهموا على تلك الطريقة لأنه سيأتي أناس من المتحذلقين المعاصرين ويقولون : " إن الإسراء كان بالروح " نقول لهم : بالله لو قال محمد للعرب : أنا سريت بروحي أكانوا يكذبونه ؟ تماما مثلما يقول لنا قائل : " أنا كنت في نيويورك الليلة ورأيتها في المنام " فهل سيكذبه أحد ؟ لا . إذن لقد كذب العرب لأنهم فهموا أنه أُسْرِيَ به بمعنى كامل … أي كان الإسراء بالجسد والروح معا ، بدليل أنهم قارنوا فعلاً بفعل ، وحدثاً بحدث ، ونقلة بنقلة ، وقالوا قولهم السابق . لقد جاءت هذه المسألة لتخدم الإسلام . إذن فـ " قدوس " يعني مطهر ومنزه . وساعة ترى شيئاً مخالفاً لقضية العقل اقرنه بفعل الله ، ولا تقرنه بفعلك أنت أيها العبد لأن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل طرداً أو عكسا . فإن كان الفاعل صاحب قدرة قوية . فزمنه أقل . مثال ذلك : نقل أردب من القمح من مكان إلى مكان ، فإن كان الذي يحمل الأردب طفلاً فلن ينقل الأردب إلا قدحا بقدح وإن كان رجلا ناضجا سينقل الأردب " كيلة بكيلة " . وإن كان صاحب قوة كبيرة قد ينقل الأردب كله مرة واحدة . إذن فالزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا . فإن كثرت القوة قل الزمن . وهات أي فعل بقدرة الله فلن يستغرق أي زمن . إذن قدس الله في كل شيء . والأرض المقدسة هي المطهرة ، وذلك بإرادة الحق سبحانه ، تماما كما أراد سبحانه أن تكون بقعة من الأرض هي الحرم ، لا يتم فيها الاعتداء على صيد أو نبات أو اعتداء بعضكم على بعض ، وهل ذلك كلام كوني أو كلام تشريعي ؟ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] لو كانت المسألة إرادة كونية ، فكان لا بد ألا يحدث خلل أبداً وألا يعتدي أحد على أحد . وما الفرق بين الكوني والتشريعي ؟ إن الكوني يقع لأنه لا معارض في الأمور القهرية ، فالحق يريد أن يكون عبداً طويل القامة ، فتلك إرادة كونية تحدث ولا دخل للعبد بها . ولكن إن أراد الحق أن تكون طائعا مصليا ، فتلك إرادة تشريعية . والإرادة تكون تشريعية فيما إذا كان للمريد اختيار ، يصح أن يفعلها ويصح ألا يفعلها لكن الإرادة الكونية هي فيما لا إرادة للإنسان فيه وواقع على رغم أنف الإنسان . والله سبحانه وتعالى يريد الحرم آمنا . وتلك إرادة تشريعية لأنه حدث أن أهيج فيه أناس ولم يأمنوا . ولو كانت إرادة كونية لما حدثت أبداً . لذلك فهي إرادة تشريعية ، فإن أطعنا ربنا جعلنا الحرم آمنا ، وإن لم نطعه فالذي لا يطيع يهيج فيه الناس ويفزعهم ويخيفهم . فمراد الله عز ومطلوبه شرعا " أن يكون الحرم آمنا " . { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فهل هذه الأرض المقدسة كتبها الله لهم كتابة كونية أو كتابة تشريعية ؟ إن كانت كتابة كونية لكان من اللازم أن يدخلوها ولكنه قال : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 26 ] إذن هي إرادة تشريعية وليست إرادة كونية . فإن أطاعوا أمر الله وتشجعوا ودخلوا الأرض المقدسة فإنهم يأخذونها ، وإن لم يطيعوه فهي محرمة عليهم . إذن فلا تناقض بين أن يقول سبحانه : إنه كتبها لهم ، ثم قوله من بعد ذلك : إنها محرمة عليهم ، لقد كتبها سبحانه كتابة تشريعية . فإن دخلوها بشجاعة ولم يخافوا ممن فيها واستبسلوا ووثقوا أن وراءهم إلهاً قوياً سيساندهم فإنهم سيدخلونها ، أما إن لم يفعلوا ذلك فهي محرمة عليهم . { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ] وجاءت الأرض هنا أكثر من مرة : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ } [ الإسراء : 104 ] وعرفنا مراد ذلك القول . والدقة هنا أنه سبحانه جاء بأمر السكن في الأرض لبني إسرائيل أي في الأرض عموما ومحكوم عليهم أن يكونوا قطعا ومشردين . { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] أي أنه سبحانه يجمعهم من كل بلد ويجيء بعد ذلك وعد الآخرة الذي جاء في أول سورة الإسراء : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 4 ] لأن الحق حينما قال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] أي أنه سبحانه وتعالى يدخل بهذه الآية المسجد الأقصى في مقدسات الإسلام . وأوضح الحق لهم : يا أيها اليهود أنتم ستعيشون في مكان بعهد من رسولي ، ولكنكم ستفسدون في المكان الذي تعيشون فيه وسيتحملكم القوم مرة أو اثنتين وبعد ذلك يسلط الله عباداً له يجوسون خلال دياركم ويشردونكم من هذه البلاد . والحق يبلغنا : نحن أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم ما سيحدث لهم مع الإسلام : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 4 - 5 ] وبعض الناس يقولون : إن هذا كان أيام بختنصر ونقول لهم : افهموا قول الحق : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } وكلمة " وعد " لا تأتي لشيء يسبق الكلام بل الشيء يأتي من بعد ذلك . إذن فلم يكن ذلك في زمان بختنصر . فـ " إذا " الموجودة أولاً هي ظرف لما يُستقبل من الزمان ، أي بعد أن جاء هذا الكلام . ثم هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد الله ؟ . إن قوله الحق : { عِبَاداً لَّنَآ } مقصود به الجنود الإيمانيون ، وبختنصر هذا كان فارسيا مجوسيا . وهذا القول الحكيم يشير إلى الفساد الأول مع رسول الله بعد العهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أجلاهم . وهل هي تقتصر على هذه ؟ يقول سبحانه : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 5 ] ولنا أن نسأل : وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الأرض إلا مرتين ؟ . لا ، لولا أنهم لم يفسدوا في الأرض سوى مرتين ، لكان ذلك بالقياس إلى مافعلوه أمراً طيباً فقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير . ولابد أن يكون إفسادهم في الأرض المقصودة هو الفساد الذي صنعوه بالأرض التي كانت في حضانة الإسلام ، وسبحانه قد قال : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } فمادام يوجد " عباد الله " خالصوا الإيمان وأعدوا العدة فلا بد أن يتحقق وعد الله ، لكن إذا ما تخلى الناس عن هذا الوصف فعلى الناس الذين يعانون من إفساد بني إسرائيل أن يتلقوا ما قاله الله : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } [ الإسراء : 6 ] فكأن الكّرَّة لا ترد إلا إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب الإيمان . فإذا ما تساءل بعض المؤمنين : ولماذا تجعل يا الله الكّرَّة لبني إسرائيل ؟ . تكون الإجابة : لأنكم أيها الناس قد تخلفتم عن مطلوب العبودية الخالصة لله . ومادمنا قد تخلفنا عن مفهوم " عباد الله " فلا بد أن تحدث لنا تلك السلسلة الطويلة التي نعرفها من عدوان بني إسرائيل . ونحن الآن في مواجهة اليهود في مرحلة قوله الحق : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } [ الإسراء : 6 ] فإذا كنا عباداً لله فلن يتمكنوا منا . والله سبحانه وتعالى حينما يتكلم بقضية قرآنية فلا بد أن تأتي القضية الكونية مصدقة لها . ولو استمر الأمر دون كرّة من اليهود علينا ، بينما نحن قد ابتعدنا عن منهجنا وأصبح كل يتبع هواه ، لكانت القضية القرآنية غير ثابتة . ولكن لا بد من أن تأتي أحداث الكون مطابقة للقضية القرآنية . ولذلك رأينا أن بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من الله حينما جاء أحدهم خبر دخول اليهود بيت المقدس سجد لله . فقلنا : " أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس " . فقال : نعم . صدق ربنا لأنه قد قال : { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هكذا قال الحق ، وهل يكون دخول لثاني مرة إلا إذا كان هناك خروج من أول مرة ؟ . لقد حمد ذلك العارف بالله ربنا لأن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات ، فإذا ما قال الحق : { رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ } [ الإسراء : 6 ] فليست المسألة أنهم لكونهم يهوداً لا يعطيهم الله الكّرَّةَ . ولكن القضية هي أننا عندما نكون عباداً لله حقيقة … اعتقادا وسلوكا … قولا وعملا ننتصر عليهم . { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 6 ] وهم أغنياء لأنهم يديرون معظم حركة المال في العالم المعاصر . ولأنهم جميعاً في الجيش المدافع عن دولتهم . وذلك معنى بنين وأكثر نفيرا . النفير هو ما يستنفره الإنسان لنجدته لأن قوة ذاته قاصرة عن الفعل . واليهود ليسوا قوة ذاتية بمفرد دولتهم ، ولكن وراءهم أهم قوى في العالم المعاصر . إذن فقوله الحق : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ } [ الإسراء : 6 ] قول صدق وحق . وقوله الحق : { وَبَنِينَ } [ الإسراء : 6 ] قول صدق وحق . وقوله الحق : { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 6 ] قول صدق وحق . ثم بعد ذلك يحسم الله قضيته ويقول لليهود : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] وهل تستمر الكرَّة يا رب ؟ . لا . فها هوذا الحق سبحانه يقول : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ] كأن الحق يعطينا البشارة بأننا سننتصر ويكون الانتصار مرهونا بتنفيذ القاعدة التي شرعها الله بأن نكون عباداً لله حقا ، عندئذ سَيَكِلُ الله لنا تنفيذ وعده لليهود : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ] وأشرف ما في الإنسان هو الوجه ، وعندما نكون عباداً لله سنسوء وجوههم ، وفوق ذلك : { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ] ولم يأت الحق بذكر المسجد من قبل ، فها هوذا قوله الكريم : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 4 - 5 ] إذن فالحق هنا لم يأت بذكر المسجد في أول مرة . فكيف يكون دخولنا المسجد إذن ؟ . لقد دخلنا المسجد الأقصى أول مرة في الامتداد الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه . والمسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن في نطاق بني إسرائيل ، ولكن كان في نطاق الدولة الرومانية ، فدخولنا المسجد أول مرة لم يكن نكاية فيهم . ولكن الحق جاء بالمرة الثانية هنا والمسجد في نطاق سيطرة بني إسرائيل . { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الإسراء : 7 ] سنكون نحن إذن عباداً لَلَّهِ ذوي البأس الشديد الذين سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة ، وجاء الحق سبحانه بالمسجد هنا لأن دخول المسجد أول مرة لم يكن إذلالاً لليهود ، فقد كانت السلطة السياسية في ذلك الزمن تتبع - كما قلنا - الدولة الرومانية . ويضيف الحق من بعد ذلك : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ] وحتى نتبر ما يُعْلُونه - أي نجعله خرابا - لابد أن تمر مدة ليعلوا في البنيان . وعلينا أن نعد أنفسنا لنكون عباداً لله لنعيش وعد الآخرة وقد جعلها الله وعدا تشريعياً ، فإذا عدنا عباداً لله فسندخل المسجد ونتبر ما علوا تتبيرا ، والحق سبحانه وتعالى في آيات سورة المائدة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بلقطة عن بلاغه لسيدنا موسى بعد خروجه مع قومه من مصر ، فقال : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ] وقلنا إن الكتابة هنا تشريعية وليست كونية ، فلو كان الأمر كونياً لدخلوا الأرض المقدسة بدون عقبات وبدون صراع وبدون قتال . والدليل على أن الكتابة تشريعية هو قوله الحق : { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أي أنكم إن ارتددتم على أدباركم انقلبتم خاسرين . فإن أطعتم الله ودخلتم الأرض دون إدبار ، فستدخلون الأرض ، وإن لم تفعلوا فلن تدخلوها . إذن ليست كتابة الأرض هنا كونية ، ولكنها تشريعية . وقوله الحق : { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ } يشرح لنا طبيعة مواجهة الخصم فالإنسان حين يواجه خصمه فهو يواجهه بوجهه . فإن فرّ الخصم من أمامه فهو يولي أدباره . والتولي على الأدبار يكون على لونين : لون هو الإدبار من أجل أن ينحرف الإنسان إلى جماعة وفئة لتشتد قوتهم ويقووا على هزيمة العدو أو يصنع مكيدة ليعيد مواجهة الخصم ، ولون آخر وهو الفرار وذلك مذموم ، ومن المعاصي الموبقات المهلكات . وفي ذلك يقول الحق سبحانه : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ الأنفال : 16 ] فالارتداد على الأدبار ليس مذموماً إن كان من أجل حيلة أو صنع كمين للعدو . وفي هذه الحالة لا بأس أن يرتد الإنسان ، أما خلاف ذلك فهو مذموم . وهل الارتداد على الأدبار رجوع بالظهر إلى الوراء مع الاحتفاظ بالوجه في مواجهة الخصم ؟ . أو هو التفات بالوجه ناحية الدبر وفرار من العدو ؟ . كلا الأمرين يصح . وقد جاء الأمر إلى بني إسرائيلَ بعدم الفِرار ليدخلوا الأرض فماذا كان موقفهم مادامت الكتابة لهذا الأمر تشريعية ؟ .