Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 31-31)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ونعرف السوءة وهي ما تَتَكرّهه النفس . وهي من " ساء ، يسوء ، سوءا " أي يتكره ، وسمينا " العَورة " سَوْءَة لأنها تتكره . { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ } . هل بعثه الله حتى يُرِي قابيل كيف يواري سوءة هابيل ، أم أن الغراب هو الذي سيقول له ؟ كلا الأمرين متساوٍ لأن ربنا هو الذي بعث ، فإن كنت ستنظر للوسيلة القريبة فيكون الغُراب ، وإن كنت ستنظر لوسيلة الباعث يكون هو الله فالمسألة كلها واصلة لله ، وأنت حين تنسب الأسباب تجدها كلها من الله . { قَالَ يَاوَيْلَتَا } . ساعة تسمع كلمة " يا ويلتى " يكون لها معنيان في الاستعمال : المعنى الأول للويل : هو الهلاك ، وإن أردنا المبالغة في الهلاك نأتي بتاء التأنيث ونقول : ويلة ، ولذلك عندما نحب أن نبالغ في وصف عالم نقول : فلان عالم وفلان علاّم وفلان عَلاَّمة ، وتأتي التاء هنا لتؤكد المعنى ، إذن فالويل : الهلاك ، و " ويلة " تعني أيضا الهلاك ، وماذا تعني " يا ويلتى " ؟ إننا نعرف أن النداء يكون بـ " يا " فكيف نُنادي الويل والهلاك ؟ وهل يُنادي غير العاقل ؟ نعم ، يُنادي لأنه مادام " الويل " و " الويلة " : الهلاك . كأنك تقول : أنا لم أعد أطيق ما أنا فيه من الهم والغم ، ولا يُخلصني فيه إلا الهلاك ، يا هلاكي تعال فهذا وقتك ! إذن فقوله : " يا ويلتى " يعني يا هلاك تعال ، والمتنبي فطن لهذه المسألة وقال : @ كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا @@ فأي داء هذا الذي تقول فيه : يارب أرحني بالموت ! ! إذن فالذي يراه من ينادي الهلاك هو أكثر من الموت . المعنى الأول : أنك تنادي الهلاك أن يحضر ولذلك يقول الحق : { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] إنهم يتمنّون الموت وكذلك قال قابيل " يا ويلتى " . وهل تأتيه الويلة عندما يطلبها ؟ لا ، فقد انتهت المسألة وصار قاتلاً لأخيه . والمعنى الثاني : أن تأتي " يا ويلتنا " بمعنى التعجب من أمر لا تعطيه الأسباب ، وهناك فرق بين عطاء الأسباب وبين عطاء المُسبّب . فلو ظل عطاء الأسباب هو المُتحكّم في نواميس الكون ، لكان معنى هذا أن الحق سبحانه قد زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة ، وكأنه خلق الأسباب والنواميس وتركها تتحكم ونقول : لا . فبطلاقة القدرة خلقت الأسباب ، وهي تأتي لتثبيت ذاتية القدرة وقيّوميّتها ، فيقول الحق حينما يشاء : توقفي يا أسباب . إذن فهناك أسباب وهناك مُسبّب . والأمر العجيب لا تعطيه الأسباب . وحين لا يعطى السبب يتعجب الإنسان ، ولذلك يَرُدّ الأمر إلى الأصل الذي لا يتعجب منه . وها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما جاءه الضيوف وقدم لهم الطعام ورأى أيديهم لا تصل إليه نكرهَم ونفر منهم ولم يأنس إليهم وأوجس منهم خِيفة . ويقول الحق عن هذا الموقف : { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ * فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 28 - 29 ] وقال الحق أيضاً في هذا الموقف : { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] وهنا قالت امرأة سيدنا إبراهيم : { يَٰوَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] أي أن الأسباب لا تعطى ، ورُدّت إلى المُسبّب . أتعجبين من أمر الله ؟ كان لك أن تتعجبي من الأسباب لأنها تعطلت ، أما حين تصل الأسباب إلى الله ، فلا عجب . وقال سيدنا زكريا عليه السلام مثل قولها فحين رأى السيدة مريم وهو الذي كَفلها ، وكان يجيء لها بمطلوبات مقومات حياتها ، وفُوجئ بأن عندها رزقا من طعامٍ وفاكهة . فسألها : { يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [ آل عمران : 37 ] كيف يقول لها ذلك ؟ لا بد أنه رأى شيئا عندها لم يأتِ هُو به ، وهنا ردَّت عجبه لتنبهه بالحقيقة الخالدة : { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ويشاء الحق أن تقولها سيدتنا مريم وهي صغيرة السن ، وكأنها تقول ذلك كتمهيد لأنها - كما قلنا سابقا - ستتعرض لمسألة لا يمكن أن يحلها إلا المُسبِّب ، فسوف تلدِ بدون رُجولة ، وهي مسألة عجيبة ، لذلك كان لا بد أن تفهم هي وأن تنطق : { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] وكأن الحق ينبئها ضمناً بأن عليها أن تتذكّر أنها هي التي قالت هذه الكلمة لأن المستقبل سوف يأتي لك بأحداث تحتاج إلى تذكُر هذا القول . وهي التي تُذكِرّ سيدنا زكريا عليه السلام بهذه الحقيقية . ولنر دِقّة إشارة القرآن إلى الموقع الذي ذكرت له مريم فيه تلك الحقيقة : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] كأن ساعة سمع هذه المسألة قرّر أن يدعو الله بأمنيته في المحراب نفسه . وهل كان سيدنا زكريا لا يعرف تلك الحقيقة ؟ كان يعرفها ، ولكن هناك فرق بين حكم يكون في حاشية الشعور ، وبين حكم يكون في بؤرة الشعور . وقول مريم لزكريا : { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } جعل القضية تنتقل من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور . { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] لماذا لم يدعُ ربَّه من البداية ؟ . كان سيدنا زكريا سائراً مع الأسباب ورتابة الأسباب قد تذهل وتُشغل عن المُسبِّب ، وعندما سمع من مريم : { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أراد أن يدخل من هذا الباب ، فدعا ربه وبشّره الحق بأنه سيأتي له بذريّة ، وتعجّب زكريا مرّة أخرى من هذا الأمر شارحاً حالته : { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] ومادمت يا زكريا قد دعوت الله أن يهبك الذّرّية وقفزت قضية رزق الله لمن يشاء من حاشية شعورك إلى بؤرة شعورك . فقد جاء أمر الله : { كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ } [ مريم : 9 ] إذن فلا بحث في الأسباب والمسببات . فهي إرادة الله . ويوضح الحق حيثيّات { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ويأتيك بالولد فيقول سبحانه : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] وكل هذه مقدمات من مريم ومن سيدنا زكريا الكفيل لها ذلك أن سيدنا زكريا سوف يكون عنصراً شاهداً عندما يأتيها الولد من غير أب وتلد ، وهو كفيل لها ، وهو الذي سيتعرض لهذا الأمر . ولماذا كل هذا التمهيد ؟ لأن خرق الأسباب وخرق النواميس وخرق السُنن إنما حدث في أمور أخرى غير العِرْض ، لكن عند مريم سيكون ذلك في العِرض وهو أقدس شيء بالنسبة للمرأة ، لذلك لابد من كل هذه التمهيدات . إذن ، هو أمر عجيب لكنه ليس بعجيب على الله . وها هوذا قابيل يقول : { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ } كأن عملية الغراب أظهرت لقابيل أنه لم يعرف شيئاً يفعله الطائر الذي أمامه ، فها هي ذي مسألة يفعلها غراب ولا تفعلها أنت يا قابيل ، لقد امتلكت قدرة لتقتل بها أخاك ، لكنك عاجز أن تفعل مثل هذا الغراب . فقابيل لا يقولها - إذن - إلا بعد أن مرّ بمعنى نفسيّ شديد قاسٍ على وجدانه . لقد قدر على أخيه وقتله وهو لم يعرف كيف يواريه ، بينما عرف الغراب كيف يواري جثة غراب آخر . وهكذا أصبح قابيل من النادمين { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } . إن علينا أن ننتبه إلى الفارق بين " نَدَمٍ " و " نَدَمٍ " . وعلى سبيل المثال : هناك إنسان قد جرؤ على حدود الله وشرب الخمر بالنقود التي كان عليه أن يشتري بها طعام الأسرة . وعندما عاد إلى منزله ووجد أهله في انتظار الطعام ، ندم لأنه شرب الخمر ، فهل كان ندم الرجل على أنه عصى الله ، أو ندم لأنه لم يشتر الطعام لأهله ؟ . لقد ندم على عدم شراء الطعام وذلك ندم مرفوض ، ليس من التوبة . وقد يكون هذا الشارب للخمر قد ارتدى أفخر ثيابه وخرج فشرب الخمر ووقع على الأرض ، وهنا ندم لأن شُرب الخمر أوصله إلى هذا الحال فهل ندم لأنه عصى ربه ؟ . أو ندم لأنه صار هُزْأة بين الناس ؟ . وكذلك كان ندم قابيل ، لقد ندم على خيبته لأنه لم يعرف ما عرفه الغراب . ويقول الحق من بعد ذلك : { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ … } .