Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 40-40)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ويستخدم الحق سبحانه من أساليب البيان ما يخرجنا عن الغفلة ، فلم يقل : " الله له ملك السمٰوات والأرض " ، ولو كان قد قال ذلك لكان الأمر خَبَراً من المتكلم وهو الله ، ولكنه يريد أن يكون الخبر من المُخَاطَب إقراراً من العبد . ولا يخرج الخَبَر مَخرج الاستفهام إلا وقائل الخبر واثِقٌ من أن جواب الاستفهام في صالحه والمثال على هذا هو أن يأتيك إنسان ويقول : " انت تهملني " . فتقول : أنا أحسنت إليك . ولكن إن أردت أن تستخرج الخَبَر منه فأنت تقول : ألم أُحْسِن إليك ؟ وبذلك تستفهم منه ، والاستفهام يريد جوابا . فكأن المسئول حين يجيب عليه أن يدير ذهنه في كل مجال ولا يجد إلا أن يقول : نعم أنت أحسنت إليّ . ولو جاء ذلك من المتكلم لكانت دعوى ، لكن إن جاءت من المُخاطَب فهي إقرار ، ومثال ذلك قول الحق : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] إنه خَبرٌ من المتكلم والإقرار من المتلقي . وقد يقول قائل ولماذا لم يقل الحق : " أشرحنا لك صدرك " ؟ كان من الممكن ذلك ، ولكن الحق لم يقلها حتى لا يكون في السؤال إيحاء بجواب الإثبات بل جاءت بالنفي . وفي قوله الحق : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 40 ] نجد منطوق الآية ليس دعوى من الحق ، ولكنه استفهام للخلق ليديروا الجواب على هذا ، فلا يجدوا جواباً إلا أن يقولوا : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . وهذا أسلوب لإثبات الحجة والإقرار من العباد ، لا إخباراً من الحق : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ، وقد يقول إنسان : إن هناك أجزاء من الأرض ملكا للبشر . ونقول : صحيح أن في الأرض أجزاء هي ملك للبشر ، ولكن هناك فرق بين أن يملك إنسان ما لا يقدر على الاحتفاظ به … كملك البيت والأرض ، إنه مِلْك - بكسر الميم - لمالك . وهناك " مُلْك " - بضم الميم - لِمَلِكٍ هو الله . وفي الدنيا نجد أن لكل إنسان ملكية ما . ولكن المَلِك في الأرض يملك القرار في أملاك شعبه ، وهذا في دنيا الأسلوب ، أما في الآخرة فالأسباب كلها تمتنع : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] فلا أحد له مُلكٌ يوم القيامة . { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } والقارئ بإمعان للقرآن يجد فيه عبارات تجمع بين أمرين أحدهما يتقدم ، والآخر يتأخر . ويأتي الأمر في أحيان أخرى بالعكس . ولكن هذا القول هو الوحيد في القرآن الذي يأتي على هذا النسق ، فكل ما جاء في القرآن يكون الغفران مقدّماً على العذاب لأن الحق سبحانه قال في الحديث القدسي : " إن رَحمتي سبقت غَضبي " فلماذا جاء العذاب في هذه الآية مقدماً على الغُفران : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } هل السبب هو التَّفنَّن في الأساليب ؟ لا لأن جمهرة الآيات تأتي بالغفران أولاً ، ثم بالوعيد بالعذاب لمن يشاء سبحانه . ولننظر إلى السّياق . جاء الحديث أولاً عن السارق والسارقة ، وبعد ذلك عمّن تاب . فالسرقة إذن تقتضي التعذيب ، والتوبة تقتضي المغفرة ، إذن فالترتيب هنا منطقي . ونلحظ أن هذا القول قد جاء بعد آية السرقة وبعد آية الإعلام بأن له مُلْكَ السمٰوات والأرض . ولذلك كان لا بد من تذييل يخدم الاثنين معاً . ليؤكد سيطرة القدرة . وحين يريد الحق أن يرحم واحداً . فليس في قدرة المرحوم أن يقول : " لا أريد الرحمة " . وحين يعذب واحداً لن يقول المعذَّب - بفتح الذال - : " لا داعي للعذاب " . فسيطرة القدرة تؤكد أنه لا قدرة لأحد على رَدِّ العذاب أو الرحمة . إذن فالآية قد جاءت لتخدم أغراضاً مُتعددة . فإن حسبناها في ميزان الأحداث فللحق كل القدرة . وإن حسبناها في ميزان الزمن ، فكيف يكون الأمر ؟ . نعرف أن التعذيب للسّرقة قسمان … تعذيب بإقامة الحَدّ ، وفي الآخرة تكون المغفرة . إذن فالكلام منطقي مُتَّسق . إنني أقول دائماً : إياكم أن تُخدَعوا بأن الكافر يكفر ، والعاصي يعصى دون أن ينال عقابه لأن من تعوَّد أن يتأبَى على منهج الله ، فيكفر أو يعصي لا بد له من عقاب . لقد تمرَّدَ على المنهج ، ولكنه لا يجرؤ على التَمرُّد على الله . إن الإنسان قد يتمرد على المنهج فلا يؤمن أو لا يقيم الصلاة ، لكن لا قدرة لإنسان أن يتمرد على الله ، لأنه لا أحد يقدر على أن يقف في مواجهة الموت ، وهو بعضٌ من قُدْرةِ الله . وسبحانه وتعالى يحكم ما يريد . وقد أراد أن يوجِد للإنسان اختياراً في أشياء ، وأن يقهر الإنسان على أشياء ، فيا من مرَّنت نفسك على التمرّد على منهج الله عليك أن تحاول أن تتمرّد على صاحب المنهج وهو الله . ولن تستطيع لا في شكلك ولا لونك ولا صحتك ولا ميعاد موتك . وليفتح كل مُتَمرِّد أذنيه ، وليعرف أنه لن يقدر على أن يَتمرَّد على صاحب المنهج وهو الله . إذن صدق قول الله : { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ومن بعد ذلك يقول الحق : { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ … } .