Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 42-42)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي اللغة ألفاظ مفردة ، مثال : " سجنجل " وتفتح القاموس فتجد معناها " البلور " ، وكذلك الصفا والمروة وعندما تبحث في القاموس عن كلمة " مروة " تعرف أن معنى اللفظ بعيد عن النسبة ، فأول عمل للغة أن تعرف معنى الألفاظ بعيداً عن نسبتها . ومهمة القاموس أن يشرح لك معنى اللفظ بعيداً عن النسبة دون إثبات أو نفي ، مثال ذلك " الجو " معناها هو ما يحيط بك من هواء أو غير ذلك ، لكن القاموس لا يشرح هل الجو مُكفهر أو صافٍ أو باردٌ . وإن تقدمنا مرحلة أخرى وأخذنا اللفظ لنصنع له نسبته ، كأن نقول : " الجو صحو " ، هنا ننتقل من فهم معنى كلمة " جَوّ " ، إلى أننا نسبنا الصحو إليه . والكلام المفيد يأتي في النِسب . ولا تأتي النِسب إلا بعد معرفة معاني الألفاظ . والنِسب تعني أن ننسب شيئا إلى شيء ، كأن نقول : " محمد مجتهد " هنا نسبنا لمحمد الاجتهاد ، وذلك بعد أن عرفنا معنى كلمة " محمد " بمفردها ، ومعنى " مجتهد " بمفردها . إذن الكلام المفيد يتأتى في النسب . وقد تكون الإفادة بضميمة كلمة إلى ما سبقها ، فعندما يسألك إنسان : " من عندك " ؟ فتقول : " محمد " هذا القول أفاد لأنه انضم إلى كلمة أخرى فصار المعنى : " محمد عندي " . إذن هناك نسب ، والنسب هي أن تنسب حكماً إلى شيء إما إيجابا وإما نفياً . والنسبة تنقسم إلى قسمين نسبة واقعة ، ونسبة غير واقعة . وإن كانت النسبة واقعة فهل تعتقدها ؟ وهل تستطيع أن تقيم عليها دليلاً ؟ إن كانت النسبة الواقعة ومقام عليها الدليل تكون علماً . وإن كانت نسبة وواقعة وأنت تعتقدها ولا تستطيع أن تدلل عليها ، فهذا تقليد ، مثل الطفل الذي يقلد أباه فيقول : " الله أَحد " ، والطفل في هذه الحالة لا يستطيع أن يقيم على هذه النسبة دليلاً . إن العلم أعلى مراتب النسب لأنه نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل . أما إذا كانت نسبة معتقدة وغير واقعة ، فهذا هو الجهل لأن الجاهل هو الذي يعرف الشيء على غير وجهه الصحيح . أما الأمي فهو الذي لا يعرف شيئا ونجد صعوبة في الشرح للجاهل ، مثال ذلك الذي يقول الأرض مبسوطة ويدافع عنها ، إنه يقول نسبة يعتقدها ، ولكنها غير الواقع لأنها كروية . والجهل - إذن - أن تعرف نسبة تعتقدها وهي غير واقعة . ولا يرهق الدنيا غير الجاهل ، لا الأمي لأن الأمي له عقل فارغ يكفي أن تقول له الحقيقة فيصدقها ، أما الجاهل فيحتاج إلى أن نخلع من أفكاره الفكر الخاطئ ونضع له الفكر الصحيح . أما إن كانت النسبة غير واقعة . فالنفي فيها يساوي الإثبات ، وهذا هو الشك . وإن كانت هناك نسبة راجحة فهو الظن . والنسبة المرجوحة هي الوهم . إذن هناك عدد من النسب : نسبة علم ، نسبة تقليد ، نسبة جهل ، نسبة شك ، نسبة ظن ، نسبة وهم . وعلى ذلك يكون الكذب نسبة غير واقعة ، فإن كنت تعتقدها فأنت من الجاهلين . ويقابل الكذب الصدق ، وعندما يقول الحق : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } . فالنسبة هنا غير مطابقة للواقع . ويقتنص الملبِّسون بعض النسب التي تأتي في بعض من أسلوب القرآن ويقولون : في القرآن كلام لو مَحَّصناه لوجدناه غير دقيق . مثال ذلك : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } [ المنافقون : 1 ] كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله ، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] النسبة واحدة ، لكن الله يكذب المنافقين . وإن فطنا إلى قول الله حكاية عنهم : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] أي أن الله يُكذِّب شهادتهم ، لأن محمداً رسول الله بالفعل ، ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك ، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب . إذن قوله الحق : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي أن عملهم الاستماع للكذب ، وأكل السُّحت وكأنهم يرهقون إن أكلوا حلالاً ، وأكَّال صيغة للمبالغة وتكون إما في الحدث ، وإما في تكرار أنواع الحدث . فيقال : " فلان أكال " ، و " فلان أكول " وهو الإنسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل كثيراً ، والمبالغة - إذن - إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث . { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } ومادة " سَحت " تعني " استأصل ومحا " ، ولكنها تزيد أنها استأصلته استئصالاً لم يبق له أثراً وتعدى الاستئصال إلى ظرفه . مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو طعام على ثوب ، نستطيع استئصال البقعة ، ونستطيع المبالغة في استصالها إلى أن تنحت من الثوب . والسُّحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجوْر على الأصل قليلاً . أي يستأصل الذي جاء ومعه بعض من الأصل أيضاً لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الرِّبا لأن الله يصفه بالقول : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرِّبَا } [ البقرة : 276 ] والربا في مفهومنا أنه زيادة ، ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة لأنه يَدْخل ويستأصل ويأكل ويكحت أصل المال . وظاهر الرِّبا وباطنه محق واستئصال . أما الزكاة فظاهرها نقص ، ولكنها نماء ، وبذلك نرى اختلاف مقاييس الخلق عن مقاييس الحق . والمثل الواضح : أن النفس تلتفت دائماً إلى رزق الإيجاب ، ولا تلتفت إلى رزق السلب . فرجل راتبه خمسمائة جنيه ، وآخر راتبه مائة جنيه ، صاحب الراتب البالغ الخمسمائة فتح الله عليه أبواباً تحتاج إلى ألفٍ من الجنيهات ، والذي يأخذ مائة جنيه سَدَّ الحق عنه أبواباً لا تأخذ منه كل راتبه بل يتبقى له عشرة جنيهات . هناك - إذن - رزق إيجاب يزيد الدخل ، ورزق سلب أن يسلب الحق عنك المصارف في المصائب والمهالك ويبارك لك فيما أعطاك . والسًّحْت هو كل شيء تأخذه من غير طريق الحلال كالرشوة أو الربا أو السرقة أو الاختلاس أو الخطف . وكل أنواع المقامرة والمراهنة ، كل ذلك اسمه سُحْت . { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وهذا القول دليل على أن أُذَنَهُم اعتادت سماع الكذب ويقبلون عليه . وعندما نقول نحن في الصلاة : " سمع الله لمن حمده " ، أي أننا ندعو الله أن يقبل الحمد . وهم سماعون للكذب أي يقبلون الكذب . والسماع جارحة ، والأكل بناء ما به الجارحة لأنه مقوم لها . مثلما يأكل لينمو ، وإن كان ناضجاً يحفظ له الطاقة والقدرة . فالنّمو - إذن - معناه أن يدخل جوفه أكثر مما يخرج منه . وبعد فترة يدخل إلى جسمه على قدر ما يخرج منه ، ثم الشيخوخة نجد فيها أن ما يخرج أكثر مما يدخل . وماداموا سماعين للكذب أكَّالين للسُّحت ، فهم في بوارٍ دائم ، لأن أكل السُّحْت حيثية من حيثيات الاستماع المصدِّق للكذب لأنهم قد بنوا ذرات أجسادهم من حرام ، فكيف ترفض آذانهم الكذب ؟ بل آذانهم تستدعي الكذب ، وألسنتهم تحترفه . وعيونهم تستدعي المحارم ، وأيديهم تستدعي السرقة ، إنها الأبعاض التي بناها أصحابها من حرام . ولم يقل الحق عنهم : " سامعون " ، بل قال : " سماعون " أي جعلوا صناعتهم أن يتسمعوا ، وهم الجواسيس ، وإلا فإذا كان الأمر غير ذلك لكان كل من سمع كذبا يُعَد من هؤلاء . والقول مقصود به من جعل السماع صنعة له ، ولا يجعل إنسان السماع صنعة له إلا إذا كان عينا لغيره ، والعين للغير يتلصص على أمانة المجالس ، ولكل مجلس أمانة . فإذا ما حضر إنسان مجلسا فليس له أن ينقل ما في ذلك المجلس إلى غيره إلا أن يكون ذلك هو صناعته ، وتلك هي مهمته . { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وهنا قضيتان . فهل السماع للكذب سببه أكل السُّحت ، أم أكل السُّحت سببه السماع للكذب ؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان من طينة الأرض وصوره على شكل آدم نفخ فيه من روحه ، وحين صوره من طينة الأرض جعل كل مقومات حركة حياته من طبيعة طينة الأرض ، فإذا ما أخذ الإنسان شيئاً من حِلٍّ ، اعتدلت الذرات في نفسه على الهيئة التي خلقها الله . وإن تدخل فيها بحرام جعل في الذرات اختلالا تكوينيا . وهذا الاختلال التكويني هو الذي جعل آكل الحرام سماعا للكذب . ولو لم يكن فيه ذلك الاختلال التكويني الذي صنعه بنفسه لما سمع الكذب أبداً . أو أنه عندما أكل السُّحْت صار سماعا للكذب . أو سمع كذبا فصار أكَّالاً للسُّحْت . ولنلاحظ أن الحق لم يقل : " آكل للسُّحْت " ، ولم يقل : " سامع للكذب " ولكنه قال : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي أنهم تعودوا سماع الكذب وتعودوا أكل السُّحت ، فالواحد منهم أخذ حراما من أول الأمر ، وعندما صار أكالا وسمَّاعًا للكذب في آن واحد ، اختلت ذرَّات تكوينه ، ولم يعد في أعماقه نور ليرفض الكذب . بل أقبل عليه ، ويغريه الكذب ثانية بأن يأكل السُّحْت ، والأمر دائر بين سماع كذب وأكل سحت . وقضية الكذب هي قضية صراع الباطل مع الحق . ومادام الكذب غير مطابق لوازع كوني أو لواقع منهجي تكليفي فهذا يصنع خللاً في الكون . وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا المثل في ذلك جاء بالمثل في أمرٍ حسي حتى نراه جميعا : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] أي أن كل وادٍ تحمَّل على قدر طاقته . ومن بعد ذلك يقول الحق : { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } [ الرعد : 17 ] فقبل أن ينزل السيل من على الجبال إلى الوديان ، يأخذ كل الأشياء التي تصادفه على الجبل من آثار الرياح ، ومن أوراق النبات ، فينزله إلى الوادي ، وتلك هي الأشياء التي تصنع الزِّبَد ونقول عنه في لغتنا العامية : " الرَّغاوي " . { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } [ الرعد : 17 ] و " رابياً " أي عائماً وعاليا وطافيا فوق المياه ، لماذا ؟ لأنه مادام زبداً ففيه فقاقيع هواء تجعل حجمه أكبر من وزنه . وتصبح كثافته أقل من المياه لذلك يطفو فوقها . وماذا يكون الموقف بعد ذلك ؟ { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ } [ الرعد : 17 ] ومن العجيب أنه سبحانه جعل المثلين في الماء والمضاد له وهو النار ، فالماء يأتي بزبد وغثاء يطفو على المياه ، وكذلك النار حين ندخل فيها المعادن . ومن رأى الحداد ينفخ في كيره على قطعة من الحديد يرى الخبث ، والمواد الغريبة الممتزجة بالحديد والتي تنفصل أثناء الصهر عن الحديد ليصير صافيا . إذن فهناك زبد في الحديد تخرجه النار عند صهره ، وزبد يطفو فوق الماء . { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ } [ الرعد : 17 ] ولهذا نرى الباطل وقد أتى عليه زمن ليطفو فوق السطح ، ويخرج الخَبَث طافيا على أصيل الحديد . لكن أيظل الباطل كذلك ؟ يُطمئِنُنا الحق أنه يحمي الحق فيقول : { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } [ الرعد : 17 ] وحين نرى الباطل وقد طفا على السطح نفاجأ بعد وقت من الزمن أن الزبد ينتهي ويصبح الماء صافياً ، وكذلك الزبد الذي يطفو على الحديد ، ينفضه الحديد ليبقى صافياً . فإذا رأينا الباطل مرة يعلو ، فلنعلم أنه لا بقاء لهذا العُلو لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض . ولماذا لا يُعلن الحق عن نفسه من البداية ؟ أراد الله ذلك ليجعل الباطل من جنود الحق ، ولو لم يَعَض الباطل الناس ويُتعبهم أيتجهون إلى الحق ؟ لا لذلك كان لا بد أن يأتي إليهم الباطل الناس ويُتعبهم ليبحثوا عن الحق . وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق . وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن الألم عند المريض من جنود العافية ، فلولا ذلك الألم لاستشرى الداء دون أن يشعر المريض ، فكأن الألم يلفته إلى موضع الداء ويدفعه للبحث عن وسائل الشفاء . وبذلك يتعرف على حلاوة العافية . إذن فالباطل من جنود الحق والألم من جنود الشفاء لأن أمور الحياة لو سارت على وتيرة واحدة لما عرف الإنسان أوجه الحياة ، فلو لم يأتِ الألم إلى المريض لأكله المرض . فإذا كان الألم من جنود الشفاء ، فالكفر أيضاً من جنود الإيمان لأننا عندما نرى الكُفر ونشهد آثار الكُفر فساداً في المجتمع ، نتساءل : ما الذي يخلِّصنا من ذلك ؟ ونعرف أن الذي يخلصنا من الفساد هو الإيمان . وأُكرِّر دائماً : كلمة الكُفر بذاتها هي الدليل الأول على الإيمان لأن الكُفر هو السَّتْر ، ومادام الكفر هو السَّتر ، والكافر يستر الإيمان ، وظهور الكفر على السطح دليل وجود الإيمان في الأصل . ومادام الحق قد قال : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فلا بد بعد هذا التشخيص أن يرسم لرسوله أسلوب التعامل معهم : { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } . فأنت يا رسول الله بالخيار بين أن تحكم بينهم في القضية التي جاءوا من أجلها أو تعرض عنهم ، فليس عليك تجاههم إلزام ما لأنهم السماعون للكذب الأكَّالون للسُّحْت . وهم حينما يأتونك يا رسول الله طلباً لحكم إنما يفعلون ذلك لا رغبة في معرفة الحق ولا هم يلتمسون العدل . بل جاءوك مظنة تيسير أمر الباطل وأكل السُّحت لنفوسهم . وقد طلبوا الحكم في قضية الزِّنا وعندهم في التوراة كان الرَّجم عقاباً للزنا . لقد ذهبوا لرسول الله لأنهم أرادوا أن يستروا حكم الزِّنا في التوراة ، والاكتفاء بالجلد وتسويد وجه الزاني وركوبه حماراً في الوضع العكسي بحيث يكون وجهه في اتجاه الذيل وقفاه في اتجاه رأس الحمار ، وأن يطوفوا بالزاني وهو على هذه الهيئة حول البلدة . ولما لم يسمعوا ذلك الحكم من الرسول ابتعدوا عنه . إذن هم يطلبون التخفيف لأنهم كانوا سماعين للكذب واكَّالين للسُّحت . ولأن الذي سيطبق عليه الحد رجل له جاه وله مكانة وهم يريدون التقرب إليه بتخفيف العقاب عنه . وهل هناك تعارض بين قول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وبين قول الحق : { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 48 ] لا تعارض . والبعض يقول : إن في قوله الحق : { فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } إلزاماً . ونقول : المعنى الواضح هو أنك يا رسول الله ، إن رجحت جانب أن تحكم وتقضي بينهم فاحكم بما أنزل الله ، ولننظر إلى الأداء القرآني لأن المتكلم إله وحكيم : { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } . ونلحظ أن الأمر هنا جاء بطريقة تؤكد أن الإعراض ممكن لأنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول الله على هواهم ، وطمأنه الله بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم ، وكأن الحق يقول لرسوله : إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لأنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجِّحاً للحكم فأنت بالخيار إما أن تحكم وإما أن تعرض . ولا تخش من شرهم لأن الذي أرسلك يحميك . { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } والحكم في هذه الآية يأتي كالقوس في البداية وفي النهاية ، والحكم بينهم يكون بالقسط أي بالعدل . والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن حسب ما أنزل الله . أي أن الله يحب الذين يزيلون الجوْر . ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور ، فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن إذن فـ " أقْسَط " أي أزال جوراً مقنناً وأعاد توازن الميزان ليعود الانسجام بين الإنسان والكون . والكون كله يسير بميزان الأرض تدور والشمس تؤدي مهمتها ، ولا كوكب يصطدم بكوكب آخر : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية ، فانظروا إلى الأمور الإجبارية التي حولكم ، فإن كانت بنظام وميزان واعتدلت الأمور ، اعدلوا - إذن - في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم الكون ، ولذلك نقرأ قوله تعالى : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } [ الرحمن : 5 - 8 ] أمامكم الموازين العليا في الكون ، ولا تستطيعون إفسادها لأنها تسير بنظام لا دخل لكم به لذلك عليكم أن تتعلموا منها وأن تديروا أمور حياتكم بميزان حتى تستقيم أموركم الاختيارية . { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 8 - 9 ] فإن رأيت حولك كونا غير مُضطرب ، وغير مُتصادم ، ويؤدي حركته دون تعارض أو تصادم ، فافهم أنه قائم على ميزان الحق ، ووضع سبحانه لك ميزاناً في الأمور الاختيارية ، والمرجحات الاختيارية هي أحكام التكليف من الله ، فإن أردت أن تستقيم لك الأمور الاختيارية فسر بها على الميزان الذي وضعه الله . ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ … } .