Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 44-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الهدى هو الطريق أو الدرب المُوصِّل للغاية . وتأتي على الطريق أحقاب الليل والنهار ، فالطريق مُظلم ليلاً ، وقد تعترض السائر فيه عقبات ، أو قد لا يمشي السائر في سواء السبيل أي وسط الطريق ، فيقع في حفرة أو يصطدم بحجر . ويوضح الحق هنا : لقد صنعت لكم الدرب وأَنرته لكم حتى لا تصطدموا بشيء أو تأتي لكم عقبات ، وتمثَّل ذلك في المنهج الذي جاء به موكب الرُّسل كلهم . وقديما كان العالم مفككا ، متناثر الجماعات ، فلا توجد مواصلات ، وتعيش كل جماعة في انعزال وشبه استقلال ، فإن حصلت داءات في بقعة ما تظل محصورة في هذه البقعة ، ويأتي رسول ليعالج هذه الداءات ، فهذا يعالج أمر عبادة الأصنام ، وذلك يعالج مسألة الكيل والميزان ، وثالث يعالج الأمور المنظمة للحياة الزوجية عند اليهود . هذه الداءات كانت متعددة بتعدد الجهات ، وعندما أراد الحق سبحانه أن يبصر الناس بأسرار كونه ليستنبطوا منها ما يقرب المسافات ويمنع المشقات لتلتقي الأمم . وعندما تلتقي الأمم لا يوجد فصل بين الداءات ، فالداء الواحد يحصل في الشرق لينتقل إلى الغرب . وكأن الداءات تتحد في العالم أيضاً . إذن لا بد أن يجيء الرسول الجامع ليعالج الداءات كلها ، فيأتي صلّى الله عليه وسلم الجامع المانع ، فإذا ما قال الحق : إنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ، فالإنجيل أيضاً فيه هدى ونور ، وكل هدى ونور في أي كتاب إنما هو للداءات الموجودة في البيئة المنعزلة . مثال ذلك أن سيدنا إبراهيم كان موجوداً ، ومعه في الزمن نفسه سيدنا لوط . وها هوذا سيدنا موسى كان موجودا . وكذلك سيدنا شعيب ، إذن كانت الرُّسل تتعاصر في بعض الأحيان لأن كلا منهم يعالج داء معينا . وهكذا كانت الرسالات تأتي محدودة الزمان ومحدودة المكان . أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله للناس كافة بكل أجناسهم وتقوم على منهجه الساعة لذلك لم تعد الأرض في حاجة إلى رسول آخر ، وصار من المنطقي أن يكون هو الرسول الخاتم . { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } لماذا إذن يأتي الحق بإسلام الأنبياء هنا ؟ جاء سبحانه بأمر إسلام الأنبياء تشريفا للإسلام لأنه جوهر منهج كل نبي . إننا نجد الشعراء يتفننون في هذا المعنى : @ ما إن مدحت محمداً بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمدٍ @@ والشاعر الآخر يقول : @ قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبان @@ فالقبيلة بالنسبة لأبي الصقر هي التي تنتسب إليه وليس هو الذي ينتسب إليها . ويردف قائلا : @ وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَا شرفٍ كما علا برسول الله عدنان @@ إذن فالنبيون عندما يصفهم الحق بأنهم أسلموا ، إنما يريد الحق أن يشرف الإسلام بأن النبيين أسلموا قيادهم وزمامهم إلى الله لأنهم وجدوه الخير لهم . وإسلام النبيين هو الإسلام بمعناه الكامل ، أي هو الانصياع لأوامر الله ، فكلما فكر نبي منهم في أن هناك شراً سيأتي له بسبب دعوته ، أو أن يضطهده أحد ، أو يحلو لأحدٍ أن يسيء إليه فهو يسلم أمره لله لأن الرسول منهم إنما يقول كلمة الحق ولا يبالي بما يحدث بعدها . { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } وهم يحكمون بالتوراة بين الذين هادوا ، أي من يهود ، وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار . والرباني منسوب للرب ، أي أن كل تصرفاته منسوبة إلى الله . والأحبار هم العلماء حملة أوعية العلم ، لكن هل ينفذونه أو لا ينفذونه فهذا شيء آخر . صحيح أن كل عالم وعاءُ علم ، لكن قد ينتفع هو بعلمه ، وقد لا ينتفع ، لكنه ينقل علمه إلى من ينتفع به . ولذلك يقول أحد العلماء : @ فخذ بعلمي ولاتركن إلى عملي وأجْنِ الثمار وخلِّ العود للنار @@ فلا تقل : إن هذا العالم يقول لنا كذا وكذا ، ونراه في تصرفاته عكس ما يقول : لأن عليك أن تأخذ ثمرة العلم ، واترك العود للنار . ولكن على العالم أن يكون أول من يمتثل ويطبق ما يقوله حتى لا يعذب ولا يدخل تحت قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } وعرفنا أن التوراة فيها نور وهدى ويحكم بها النبيون والربانيون والأحبار بالوسيلة التي طلب الله منهم أن يحفظوها ، وبما طلبه رسولهم منهم أن يحفظوا هذه التوراة . وقال الحق : " استحفظوا " ولم يقل : " حفظوا " ليبين لنا الفارق بين كل كتاب سابق للقرآن وبين القرآن لأننا عرفنا أن كل رسول قد جاء بمعجزة تدل على أنه صادق البلاغ عن الله . ولكل الرسل من السابقين على رسول الله معجزة منفصلة عن المنهج ، مثال ذلك سيدنا موسى فمعجزته العصا وفلق البحر ، أما منهجه فهو التوراة . وسيدنا عيسى معجزته إبراء الأكمه والأبرص ، والمنهج الذي جاء به هو الإنجيل . أما سيدنا رسول الله فمعجزته هي عين منهجه ، وهي القرآن . وكان الأمر الموجود بالنسبة لكل رسولٍ مرتبطا بزمانه وجماعته ومحتاجا إلى معجزة مناسبة ومنهج مناسب ، لكن الرسول الذي أرسله الله إلى الناس جميعا وخاتما للأنبياء لا بد أن تظل معجزته عين منهجه بحيث يستطيع أي مسلم أن يقول حتى قيام الساعة : محمد رسول الله وهذه معجزته وهي عين منهجه . وسيظل القرآن معجزة ظاهرة إلى أن تقوم الساعة لأن الله أرادها مختلفة عن بقية المناهج والمعجزات . فالمعجزات السابقة كانت كعود الثقاب الذي يشعل مرةً واحدة فمن رآه لحظة الاشتعال فالأمر بالنسبة إليه واضح ، أما من لم يره فهو لن يصدق تلك المعجزة إلا أن يخبره من يصدقه . وقد استحفظ الله الربانيين والأحبار بالتوراة ، أي طلب منهم أن يحفظوها ، وكان هذا أمراً تكليفياً ، والأمر التكليفي عُرضة لأن يُطاع وعُرضة لأن يُعصى . واستحفظهم الله التوراة والإنجيل : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 14 ] وصار أمر المنهج منسياً . وليس على بالهم كثيراً لأن الأمر إذا توارد على البال واستقر دائما في بؤرة الشعور يظل في الذهن ، لكن النسيان يأتي عندما يكون الأمر بعيداً عن البال . والحق طلب منهم أن يحفظوا المنهج ، ولكنهم - ما عدا النبيين - لم ينفذوا ، وكل أمر تكليفي يدخل في دائرة الاختيار ، ولذلك نجد أن الأحبار والربانيين قد نسوا ، وما لم ينسوه كتموه . وأول مرحلة من مراحل عدم الحفظ أنهم نسوا ، والمرحلة الثانية هي كتمان ما لم ينسوه ، والثالثة هي : ما لم يكتموه حرَّفوه ولووا به ألسنتهم . وياليتهم اقتصروا على هذه المراحل فقط ، ولكنهم جاءوا بأشياء وقالوا : هي من عند الله وهي ليست من عند الله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 79 ] إذن فالحفظ منهم لم يتم لذلك لم يدع الله القرآن للحفظ بطريق التكليف لأنه سبحانه اختبر البشر من قبل ، ولأنه أراد القرآن معجزة باقية لذلك لم يكل الله سبحانه أمر حفظه إلى الخلق ، ولكنه تكفل - سبحانه - بأمر حفظ القرآن : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ومصداق هذا النص ، أن بعضاً من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في هجر منهج الإسلام ومنهج القرآن إلا أنك تجد عجباً ، فبمقدار بُعدهم عن منهج الإسلام تطبيقاً يحافظون على القرآن تحقيقاً ، فيكتبون القرآن بكل ألوان الكتابة وبكافة الأحجام ، فهناك حجم ذهبي ترتديه النساء في صدورهن ، وحجم يوضع في اليد ، وبعد ذلك نجد الكفرة أنفسهم يخترعون طريقة لكتابة القرآن في صفحة واحدة . إذن فالله يُسخر لحفظ القرآن حتى من لم يكن مسلماً . وتلك خواطر من الله . ونحن نرى كل يوم من يبتعدون بسلوكهم عن المنهج لكنهم يرصدون المال لحفظ القرآن . ونجد القرآن محققاً بألف وسيلة حفظ : الرجل يضع في سيارته مصحفاً ، وفي حجرة نومه مصحفاً ، وقد تكون المرأة سافرة وصدرها مكشوف ولكنها تعلق مصحفاً ذهبياً . وهذا يثبت لنا أن حفظ القرآن ليس أمراً تكليفياً . بل هو إرادة الله . فلو كان الأمر تكليفياً لكان نسيان القرآن وارداً لأن المسلمين ابتعدوا في بعض أمورهم عنه كمنهج ، ويناسب ذلك أن ينفصلوا عنه حفظاً . ولكن الأمر صار بالعكس . فعلى الرغم من بُعد المسلمين عن المنهج ، ولكن حفظ القرآن لا يقل أبداً ، ومن العجيب أن الكثيرين من المسرفين على أنفسهم ، إن سمع واحد منهم أنّ شيئاً يمس المصحف ، يقيم الدنيا ويقعدها ، فالمسألة ليست مسألته ، ولكنها مسألة الحافظ جل شأنه . وإن حدث أي تحريف يسير في القرآن من أعداء الإسلام ، نجد أمة الإسلام تقف وقفة رجل واحد . ولقد أراد بعض المدلسين أن يدسوا على القرآن ما ليس فيه وجاءوا إلى آية في سورة الفتح وهي : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] وقالوا : " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكأنهم يرغبون في زيادة التكريم لرسول الله ، فلما عرف المسلمون ذلك قامت ضجة وأحرقوا تلك المصاحف . ومنع المسلمون التحريف مهما كان باب الدخول إليه . { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } والخشية : خوف متوَهَّم ممن تظن أنه قادر على الضر ، ولا أحد غير الله قادر على النفع والضر لذلك لا يصح أن يخاف الإنسانُ مِن سواه ، أما أن تظن أن السلطان أو القريب منه قادر على الضر ، فهذا أمر غير صحيح ، وليخشَ كل إنسان الحق سبحانه وهو جل وعلا نصحنا أن تكون الخشية منه دون سواه . وإن غيَّر أحد أحكام المنهج من أجل السلطان أو أقارب السلطان أو أصدقاء السلطان فذلك عين الفساد . والآفات والشرور تأتي من ذلك . بل قد لا يدري السلطان شيئاً عن ذلك ، وقد يتدخل قريب للسلطان - دون علم السلطان - ليطلب من العلماء تغيير بعض من المنهج ولا يستسلم له إلا الضعاف منهم ، وقد فطن سيدنا عمر رضي الله عنه إلى هذا الأمر فقال : إن الفساد قد لا يأتي من السلطان ، ولكن من الذين حول السلطان . والخشية هنا تكون من غير الله ، ولذلك كان سيدنا عمر يجمع أقاربه والملتفين حوله ويقول لهم : لقد اعتزمت أن أصدر كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء من هذا جعلت نكالاً للمسلمين . هذا هو أسلوب من أداء أن يخدم ويحكم ولا يحمل أوزاراً ، ونرى صور الفساد إنما جاءت نتيجة مخالفة القاعدة الحكيمة : { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } . ويتابع الحق من بعد ذلك : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } وثمن آيات الله مهما بولغ في تقييمها فلن يتجاوز نفعه هذه الدنيا لأن الدنيا - كما قلنا سابقا - لا تقاس بعمرها الحقيقي أي إلى أن يُفني الله البشر ، وإنما دنيا كل حيّ تقاس بعمره فيها . فهب أن الحياة طالت لملايين السنين فما نفع الفرد المحدود العمر بهذه الملايين من السنين ؟ إذن فدنيا كل إنسان هي مقدار عمره في الحياة . وعمر الفرد في الدنيا له حد محدود غير معروف لأحد غير الله ، فلكل أجل كتاب . ولذلك تجد واحداً يعيش متوسط الأعمار وهو سبعون عاماً . ويختلف العمر من إنسان لآخر ، وقد يموت آخر عند الستين وثالث يموت في الأربعين ورابع يموت في المائة ، وخامس يموت وهو طفل رضيع . إذن فدنيا الفرد قد تكون لحظة . ومادامت مسألة العمر لا يحكمها زمن ولا يحكمها سبب فهي - إذن - بإرادة الحق غيب . وأقضية الموت في الوجود جعلها الله شائعة في كل زمن ولم يجعلها الحق بعد الميلاد . بمعنى أن يولد الإنسان ليموت من بعد ذلك ، لا ، فقد يموت الكائن البشري وهو جنين في بطن أمه فهذا حمل يسقط من بعد ساعة ، وذاك حمل يسقط من بعد شهر أو شهور ، وجعل الحق لنا ذلك لنأخذ من الأمر الغيبي وهو الجنين في البطن مراحلَ تكوينه . إنه يعطينا شكل الجنين بعد نصف ساعة من التكوين ، ويعطينا شكل الجنين من بعد ساعة . وكل الأزمنة في الحياة والموت موجودة . وعندما نحلل تلك الأشكال نجد أمامنا كل أطوار الجنين ، وكل أطوار الحياة ليكون ذلك واضحا جليا حتى لا يحسب أحد لنفسه عمراً في هذه الدنيا . ومادام الثمن الذي يأخذه المرتشون ليغيّروا آيات الله وأحكامه سينفعهم في هذه الدنيا ، وأعمارهم في هذه الدنيا محدودة ، كان عليهم أن يتذكروا أن حياتهم زمنياً قليلة بالنسبة لعمر الدنيا . وحتى يقوم الإنسان بعملية اقتصادية لا بد أن يتعرّف إلى أن عمره محدود بقدر سنوات مجهولة بالنسبة له في هذه الحياة ، وهو عمر محدود مهما طال . وإن قارنها الإنسان بالحياة في العالم الآخر فسيجد أن عمره الدنيوي منهي ، فإن قايضه بعمر غير منهي هو عمره في الآخرة ، فذلك هو الفوز العظيم لأن وجود الإنسان في الدنيا مظنون ، ووجود الإنسان بالنسبة للآخرة متيقن . ونعيم الفرد في الدنيا هو على قدر إمكاناته ولو في السلب . ونعيم الإنسان في الآخرة ينسب إلى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى . إذن فأي صفقة تكون هي الرابحة ؟ محدود مقابل غير محدود ، ومظنون مقابل متيقن ، ونعيم على قدر مكنة وسلطان الفرد ولو بالسلب مقابل نعيم على قدر طلاقة قدرة الحق ، أي صفقة هي الرابحة ؟ إذن فصفقة الدنيا قليلة بالنسبة لما وعد الله به المتقين . ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } . ماذا يعني الحكم بما أنزل الله ؟ . نعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل قضية مخالفة في الكون حكماً ، فإذا أردت أيها الإنسان أن تحكم في أمرٍ فعليك أن تبحث عن جوهره بسلسلة تاريخ هذا الأمر . ونجد أن قمة كل الأمور هي العقيدة ، وهو وجود الواجب الأعلى وهو الله ، فإن حكمت بأنه غير موجود فذلك هو الكفر . وإن آمن الإنسان بالله ثم جاء إلى أحكام الله التي أنزلها وقال : لا ، ليس من المعقول أن يكون الحكم هو هكذا . فهذا لون من رد الحكم على الله وهو لون من الكفر . أما إن آمن الإنسان بالحكم وقال : إنني أصدق حكم الله ، ولكن لا أقدر على نفسي فهل هذا كفر ؟ أم هذا ظلم ؟ . إنه ليس كفراً ، ويكون ظلماً إن كان حكماً بين اثنين . وهو فسق إن كان بين الإنسان وبين نفسه لأنه يفسق عن الحكم كما تفسق الرطبة عن قشرتها . فالفاسق هو من له إطار من التكليفات ويخرج عن هذا الإطار كالرطبة التي خرجت من قشرتها . ومادامت الرطبة قد خرجت من قشرتها فهي عرضة للتلوث . إذن فإن سمعت قول الله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] وعندما تسمع : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ المائدة : 45 ] وعندما نسمع : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] فتذكر أحكام الله وحاول أن تقدر على نفسك . وقيل : إن ذلك لليهود لأن الحق قال : { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [ المائدة : 44 ] وقيل : إن الثانية جاءت للنصارى الذين لم يحكموا بالإنجيل . ولنا أن نقول رداً على مثل هذه الأقوال : أمن الممكن أن يكون ذلك للأديان السابقة على الإسلام وليس موجوداً بالإسلام ؟ ذلك أمر لا يقبله العقل أو المنطق ، فهي آيات نزلت في مناط الحكم عامة . فإن حكم إنسان في قضية القمّة وهي العقيدة بغير الحق ، فذلك هو الكفر . وإن ردّ الإنسان الحكم على منشئه - وهو الحق الأعلى - فهذا لون من الكفر . وإن آمن الإنسان بالقضية وهو مؤمن بالإله فغلبته نفسه فهذا هو الفسق . وإن حكم إنسان بين اثنين وحاد ومال عن حكم الله فهذا هو الظلم . إذن فـ " كافرون " و " ظالمون " و " فاسقون " تقول لنا : إن الألفاظ اختلفت باختلاف المحكوم به . فلا يقولن أحد : إن تلك آية نزلت لتلك الفئة ، وتلك الآية نزلت لفئة أخرى ، وثالثة نزلت لفئة ثالثة ، ولكنها أحكام عامة لمناط التكليف عامة . والحق قال في بداية كل حكم " ومَن " ومَن كما نعلم كلمة عامة . والدليل على ذلك أن من يحكم بغير ما أنزل الله إنما هو يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً ورد الحكم على الله . وقال الحق في الآية اللاحقة : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] إنها أحكام تتعلق بجرائم ، وعقوبات على جرائم ، وهنا يكون الحكم بغير ما أنزل الله ظلماً . إذن فالأمر يختلف حسب المحكوم عليه . وحينما تعرضنا لقضية الخلق الأول وهو خلق آدم ، وطلب الله من الملائكة المكلفين بتدبير أمور الخلق في الأرض أن يسجدوا لآدم . وقلنا إن هذا السجود هو رمزية لأن يكونوا في خدمة آدم لأن كل مظهر من مظاهر القوة في الكون لا نرى الملك الذي يديره ، فكل قوة لها ملك معين ، ولأن ذلك الأمر من الغيب فنحن لا نراه ، إنها ملائكة مدبرات أمر . وحين يبلغهم الحق أن الطارئ على الكون وهو آدم ، وأنهم في خدمته ، ومن أجل ذلك أمرهم بالسجود لآدم . ولذلك نجد أن بعضاً من الملائكة الذين ليسوا من المدبرات أمرا لم يشملهم الأمر . ويكلم الحق إبليس عندما رفض السجود قال سبحانه : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] إن " العالين " هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يدرون ولا يعلمون بأمر آدم ، فقد سأل الحق إبليس : أأنت مستكبر عن السجود أم أنت من العالين الذين لم يشملهم أمر السجود ؟ وقلنا إن إبليس لم يكن من الملائكة ، لأنه بنص القرآن : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] ولذلك لا يصح أن يكون " إبليس " محل خلاف أهو من الملائكة أم لا ! فهو ليس من الملائكة . وفي القرآن نص صريح يثبت جنسية إبليس . وهو من الجن . وكان من المختارين ، له أن يطيع أو أن يعصي . لأن الجن داخلون في قانون الاختيار . فإن ألزم الجنّي نفسه بمنهج الله إلزاماً يتساوى به مع الملائكة وجب عليه أن يقوم بذلك . ولكنه لم يفعل . وكان من الواجب أن يطيع إبليس الأمر . ومادام الحق هو الذي أمر بالسجود ، فالأدنى وهو إبليس كان عليه أن يسجد لأن المراتب محفوظة كما نعلم ، فرئيس الجمهورية عندما يدخل على الوزراء فهم يطيعون أمره ، وإن كان يجلس مع الوزراء بعض وكلاء الوزارات فهم يطيعون أوامره ذلك أنهم يدخلون في الأمر من باب أولى . ولو كان إبليس أعلى من الملائكة لكان أولى له أن يستجيب لأمر الخالق الأعلى ولا يعصى ويتأبى ، أما وإنّه كان أقل من الملائكة فكان لا بد من باب أولى - أن ينصاع لأمر الله . لكن إبليس علل أمر عدم السجود ، فقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] وفي آية أخرى قال سبحانه : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] وحين يتأبّى كائن على الحكم ، أيتأبّى على الحكم الأصم ، أي على الحكم من حيث هو حكم دون النظر إلى الحاكم ، أم على مَن حكم بالحكم وهو الأعلى سبحانه ؟ . تأبى إبليس على من حكم بالحكم ، ولذلك طرده الحق من الجنة وصار ملعوناً . لكن آدم عصى ربه وقرب من الشجرة التي نهاه الله عنها . ومن رحمة الله تعالى أنه جعل في التكليفات مقدمات تنطبق على حالة المكلف نفسه ، فلم يقل الحق لآدم : لا تأكل من الشجرة . ولكنه قال : { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [ البقرة : 35 ] لأن الحق علم أن آدم إنسان ، والإنسان من الأغيار ، وهو عندما يرى الشجرة بثمارها قد لا يقدر على نفسه ، ولذلك كان من الأفضل ألا يقرب من هذه الشجرة . وسبحانه يريد أن يحمي الإنسان لأن التكليفات التشريعية لا يرفعها الحق ، ولا يُعفى المكلف من القيام بها إلا في الأمر الذي ليس للإنسان فيه اختيار ، ولذلك أراد الحق أن يحمي الإنسان من الاقتراب من تلك الشجرة حتى لا تغريه وجاء الحق بمثل هذا الأمر في الخمر فلم يقل : لا تشربوا الخمر . ولكنه قال : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ } [ المائدة : 90 ] لأن الإنسان لو جلس في مجلس خمر ورأى السُّكارى قد سعدوا وضحكوا فقد تراوده نفسه على شرب الخمر . إذن فالأمر بالاجتناب هنا أبلغ من " لا تشربوه " . ونجد أن تكليفات الحق إنما تاتي للعمل النزوعي ، ومعنى العمل النزوعي أن يتحرك الإنسان للعمل . أما بالنسبة للإدراكات فمن الجائز أن يدرك الإنسان الأمر . ويترك الحق لنا حرية حب من نشاء وكراهية من نشاء . ولكن هذا الحب لا يصح أن يصدر عنه عمل نزوعي فنجامله بالباطل . وكذلك الكراهية فليس هناك أمر بالكراهية ، ولكن إن كره إنسان إنساناً فلا يصح أن يظلمه . فالمنهيّ عنه هو الظلم ، ولذلك قال الحق : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } [ المائدة : 8 ] أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا . إذن فالحق لم يحرم البغض لأنه مسألة عاطفية . ولكن التحريم ينحصر على الإقدام على عمل يخل بميزان العدل مع من تكره . ويجب أن يؤمن الإنسان إيماناً جازماً بأن من ظلمه بمعصية ، فلا يجازيه الإنسان إلا بطاعة الله . وآدم أكل من الشجرة ، فهو - إذن - قد تجاوز مسألة الاقتراب إلى مسألة الأكل من الشجرة لأنه لو قرب منها لكان مخالفاً ، فما بالنا وهو قد أكل منها أيضاً ؟ إذن فقد أوغل آدم في المعصية ، لكنه قال : ظلمنا أنفسنا . وهذا اعتراف واضح بأن حكمك يا الله هو الحكم الحق ، لكني لم أقدر على نفسي يا ربي . إذن فهو لم يَرُدَّ الحكم على الله ، ولكنه اعترف بأنه لم يقدر على تنفيذ الحكم ، لذلك أعطاه الله كلمات ليقولها فيتوب عليه . وسبحانه هو الذي علم آدم كيف تكون التوبة . فآدم - إذن - ليس كإبليس الذي رد الحكم على الله لأن آدم قال : أنا لم أقدر على نفسي . إذن فمن لم يحكم بما أنزل الله رادّاً للحكم على الله ومخطّئاً لله - سبحانه - فهو كافر . وإن كان حكماً بين اثنين وحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم . أما إن كان حكماً على النفس ولم يقدر عليه الإنسان فهذا فسق . وكل وصف جاء حسب حكمه . ولا داعي - إذن - للجدل ولا للخلاف ولا ادعاء أن هناك قولاً يقصد به اليهود ، وآخر ورد في النصرانية ، ولا يصح أن يزين الإنسان الباطل لأحد ، لأن ورود الحكم بما أنزل الله في الإسلام أمر جازم يوجب الالتزام به . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ … } .