Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 71-71)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" وحسب " إن كانت بفتح الحاء وكسر السين فمعناها الظن ، وإن كانت بفتح الحاء وفتح السين فبمعنى " عد " ، والحسبان هو أن تظن وترجع وجود الشيء . والذين أخذ الله عليهم الله الميثاق وهم - بنو إسرائيل - ظنوا أن تكذيب الرسل وقتلهم لا يكون فتنة . ويعني أنهم لم يعلموا علم اليقين ، وقد رجحوا ألا تكون فتنة . والأصل في الفتنة - كما قلنا - عرض الذهب على النار ليتم تنقيته من الشوائب . والفتنة - كما نعرف - هي الاختبار ، إما أن ينجح فيه الإنسان وإما ألاّ ينجح . فكيف جاءهم الظن أن هذا ليس اختباراً ؟ لقد جاءهم هذا الظن من الخطأ الذي وقعوا فيه عندما قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . والخطأ الذي تمادوا فيه عندما قالوا : { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] . لقد ظنوا أن الحق سيعاقبهم فقط على عبادة العجل ولن يعاقبهم على أي شيء آخر . وكان هذا ظناً خاطئاً . إن المنهج لم يأت لينجي أناساً بذواتهم مهما فعلوا ، ولكن المنهج جاء ليحاسب كل إنسان حسب ما عمل . ومن العجيب أنهم ظنوا الظن الخاطئ ولم يقوموا بحساب الأمر بحسابه الصحيح على الرغم من أنهم أهل تفوق في العد والحساب ، فالحساب هو الذي يضمن صحة أمر أو يكذبه . ومن العجيب أن من رحمة الحق بالخلق ساعة يؤاخذهم فهو يقول : لك كذا وعليك كذا . لكن ساعة يرزقهم فهو يرزقهم بغير حساب . ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك وقال عنهم الحق : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي ظنوا أن ذلك الأمر لا اختبار فيه وأنهم غير محاسبين عليه . ونعرف أن " أَنْ " تنصب الفعل . وقال لي سائل : لقد سمعت قارئ القرآن في المذياع ينطقها { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } . وقلت له : إن هناك ثلاثة من أكابر القراء في صدر الإسلام هم : " أبو عمرو " و " حمزة " و " الكسائي " ، وكان لكل منهم أسلوب متميز . وعندما نعلم أن " أنْ " تنصب الفعل لا بد أن يكون الفعل الذي يليها لا يدل على العلم واليقين والتبين ، " فأن " بعد العلم لا تنصب ، كقوله الحق : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ } [ المزمل : 20 ] . وألفية ابن مالك تقول : وبلن انصبه وكي كذابِأَنْ لا بعد علم . أما " أن " التي من بعد ظن فمن الممكن أن تنصب ومن الممكن أن يُرفع الفعل بعدها ، فالذي رجح وجود الفعل وأدركه إدراكاً راجحا يرفع ، والذي لم يكن لديه هذا الإدراك الراجح ينصب ، والرفع هو قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة . فقد بنوا الأمر على أنَّ الرجحان يقرب من اليقين . وما دام قد حدث ذلك تكون " أَنْ " هنا هي " أن " المؤكدة ، لا " أن " الناصبة ويسمونها أن المخففة من الثقيلة فأصلها أنّ . { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } . وتأتي " فتنة " بالرفع لأنها اسم تكون . و " تكون " من " كان " . و " كان " لها اسم مرفوع وخبر منصوب . وهي هنا ليس لها خبر لأنها مِن " كان التامة " . فهناك " كان الناقصة " وهناك " كان التامة " . ونقول ذلك حتى نتقن فهم القرآن ، مثلما نقرأ قوله الحق : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ … } [ البقرة : 280 ] . و " كان " فعل ماض ، و " ذو عسرة " اسم كان التامة لذلك لا خبر لها لأن المقصود هو القول : وإن وُجِد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . ولا بد لنا أن نعرف ما معنى " تام " وما معنى " ناقص " ؟ نعلم أن كل لفظ ننطق به يدور حول أمرين اثنين ، إما لفظ مهمل وغير مستعمل وإمّا لفظ مستعمل . والمستعمل هو الذي له معنى يصل إلى الذهن ساعة نطقه ويستقل به الفهم ، فإن كان لا دخل للزمن فيه فهو الاسم ككلمة " أرض " و " شمس " و " قمر " . وهناك لفظ لا يستقل بالفهم كحرف الجر " في " مثلاً . صحيح أنه يدل على شيء في شيء ولكنه لا يستقل بالفهم لذلك لا بد أن ينضم لشيء ، كقولنا : الماء في الكوب أو قولنا : التلميذ في الفصل . فإذا كان للفظ معنى ومستقل بالفهم ، والزمن له دخل فيه فهو الفعل . مثال ذلك قولنا : السماء . إن السماء كانت في الماضي وهي في الحاضر وهي في المستقبل . إذن فالزمن لا دخل له بها ، وكلمة : كلُوا نجدها تأتي من الأكل ، وهي معنى مستقل بالفهم والزمن جزء منه . ولفظ " في " يدل على معنى غير مستقل بالفهم فلا بد من أن ينضم لشيء آخر . إذن كل لفظ له معنى ، وهذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل ، فإن كان مستقلاً بالفهم فإننا نسأل : هل الزمن جزء منه ؟ وفي هذه الحالة يكون " فعلاً " وإن لم يكن الزمن جزء منه فهو الاسم . وإن كان غير مستقل بالفهم ويريد شيئاً آخر ليستقيم المعنى فهو " حرف " . وهكذا تعرف الألفاظ . والفعل هو " معنى زائد عليه زمن " كقولنا : أكل فهي تعني تناول إنسان طعاماً في زمن ماضٍ ، وهكذا نفهم قولنا : " كان " . فإن قلنا : " كان " بمعنى حدوث شيء في الماضي ، كقولنا " كان زيد مسافراً " فهي ناقصة . وفي ضوء هذا نفهم قول الحق : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] . فإن أردت الوجود فقط من غير شيء جديد طارئ عليه ، فالفعل يكون تاماً لا يحتاج إلى خبر . وإن أردت الوجود مع أي شيء آخر فهو الفعل الناقص الذي تكمله بخبر . مثل قوله تعالى : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي ألا توجد فتنة ، فهي لا تحتاج إلى خبر . وكان مثل بني إسرائيل كمثل التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة ولا يعلم أن فيها اختباراً آخر العام فيُمضي الوقت في تحصيل ولا جد ولا اجتهاد بل في لهو ولعب ، وكان هذا حسباناً خاطئاً لأن المنهج لم يأت اعتباطاً ، ولكنه جاء كنظام حركة للحياة ليعمله المؤمن . وكان المفروض أن يستقبلوا المنهج على حسب تعاليم المنهج . ومن العجيب أنهم ظنوا ولم يحسبوا بالحساب على الرغم من أنهم أهل علم بالحساب ، فهم حسبوا - بكسر السين - وما حسبوا - بفتح السين - وكان المفروض أن يقوموا بالحساب ، فالحساب هو الذي يضمن صحة المسائل . وكل شيء عند الله يكون بالحساب ، حساب للعبد وحساب على العبد . { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي ظنوا أنها ليست اختباراً . وظنوا أن الرسالات والمناهج هي مسألة لا اختبار لهم فيها ، فلما عرفوا تعاموا عن ذلك وصموا آذانهم عنه . ونعلم أن وسائل الإدراك في النفس البشرية هي السمع والأَبْصار والأفئدة : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . إذن فوسائل الإدراك : سمع ، وبصر ، وفؤاد . وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه . أما ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كل غير له . وبذلك يكون السمع اكثر اتساعاً من العين . والسمع هو وسيلة الإدراك التي توجد أولاً في الإنسان حين يولد . ونجد المولود لا يهتز عندما يقترب شيء من عينيه لأنه لا يرى بدقة وقد يستمر ذلك لمدة عشرة أيام ومن بعد ذلك يبدأ في الرؤية . لكن الطفل إذا سمع صوتاً بجانب أذنيه ينفعل ، كأن حاسة السمع هي التي توجد أولاً ، ولذلك يأتي لنا الحق بذكر السمع أولاً ومن بعد ذلك الأبصار ثم الأفئدة . " فعموا وصموا " وهو سبحانه يسألهم أولاً عن التجربة الشخصية فيهم . ولم يسألهم عن الذي سمعوه عن غيرهم فقط ، " فعموا " أي لم يروا حتى الأمور المتعلقة بهم ، ولم ينظروا في آيات الكون ولم يسمعوا البشير ولا النذير ولا المنهج من الله ولا اتفقوا على تنفيذه . وسبحانه يعاتبهم أولاً على ما يتعلق برؤياهم هم ، فالأذن تسمع من الغير لذلك أخذ عليهم أولاً أنهم لم يستعملوا عيونهم . وحتى لو افترضنا أنهم لم يروا آيات الكون بأنفسهم فما بالهم لا ينظرون وقد جاءهم الرسول ودعاهم لينظروا في كون الله وأن يعتبروا . فإذا كانوا أولاً في غفلة فلم يروا ، فلماذا لم ينتبهوا ويسمعوا سماع إذعان وانقياد عندما جاءهم البشير والنذير لينبههم لذلك " فعموا وصموا " منطقية جداً هنا . وبعد ذلك قبل الله منهم ، وأنجاهم من فرعون وفلق لهم البحر ، وعبروا ، ولكنهم بمجرد خروجهم من البحر ، ومروا على قوم يعكفون ويلزمون ويقبلون على أصنام لهم يعبدونها . قالوا لموسى : نريد إلهاً كما لهم آلهة . وأمرهم موسى أن يتوبوا وقبل الله توبتهم . مع كثرة ما ارتكبوا من ذنوب . ومن بعد ذلك يتوب الله عليهم . { ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } . والتوبة هي فتح مجال للنفس السوية لتنطلق في الخير من جديد ، فلو لم يتب الله على من أذنب فماذا يكون موقف المذنب بلا توبة ؟ إنه يتمادى ويحس أنه ذاهب في طريق الشر بلا عودة . وحين يقبل الحق توبة المذنب ، فذلك معناه أنه سبحانه يريد أن يحمي المجتمع من شره . والتوبة مراحل : الأولى : حين يشرع الله التوبة ، والثانية : أن يتوب العبيد ، والثالثة : هي قبول الله للتوبة . وهذا ما جاء به الحق : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ } [ التوبة : 118 ] . ماذا تعني توبة الله عليهم ؟ سبحانه لن يتوب عليهم توبة القبول إلا بعد أن يتوبوا . إذن فتوبة الله عليهم الأولى هي التشريع لهم بالتوبة ، ثم توبتهم ، ثم قبول الحق للتوبة . لكن هؤلاء عموا وصموا ، وعلى الرغم من ذلك لطف الله بهم . فماذا حدث منهم بعد ذلك ؟ عموا وصموا مرة أخرى { ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } . و " عموا " مأخوذة من الفعل " عمى " ، ومثلها مثل " أكلوا " و " شربوا " و " حضروا " ، فأين الفاعل ؟ الفاعل هو " واو الجماعة " . وابن مالك قعّد لهذه المسألة ، فساعة تسند الفعل إلى اثنين أو إلى جماعة ، فلا بد أن تجرد الفعل من علامة التثنية أو الجمع ، فلا تقول : " قاما زيد وعمرو " ولكن تقول : " قام زيد وعمرو " ، ولا نقول : " قاموا التلاميذ " بل نقول : " قام التلاميذ " ، لأن مدلول " الواو " هو مدلول " التلاميذ " قال ابن مالك : @ وجرد الفعل إذا ما أسندا لاثنين أو جمع كـ " فاز الشهدا " @@ أي أن الفعل إذا أسند لمثنى أو مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع . أما كلمة كثير فتعرب إما على أنها البدل من واو الجماعة ، وإما على إضمار مبتدأ أي العُمْىُ والصُّم كثير منهم ، وإما على أنها فاعل ويكون ذلك قد جاء على لغة طائفة من العرب وهم بنو الحارث بن كعب ، وهؤلاء قد يأتون بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع مثل : قاموا الرجال وسافرا محمد وعلي . وحمل بعضهم قوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] على هذا ، وكان قول الحق : { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } صيانة للاحتمال بأن قلة منهم تدير أمر الإيمان في قلوبهم ، وكلمة " كثير " جاءت حتى ننتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يهمل أبداً القلة التي تدير أمر الإيمان في خواطرهم . ليؤكد ويعاضد ما جاء في قوله تعالى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 59 ] . { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } و " بصير " مثلها مثل " عليم " ، أي شاهد وليس مع العين أين . ويقول الحق من بعد ذلك : { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ … } .