Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 7-7)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وللإنسان أن يسأل : وما هو الذكر ؟ . الذكر هو حفظ الشيء أو استحضاره ، فإذا كان حفظ الشيء فهو حفظ لذاته ، لكن الاستحضار يكون لمعنى الشيء . إذن فهناك فرق بين حفظ الشيء واستحضار الشيء ، هذا هو معنى الذكر . وقد يكون الذكر بمعنى القول لأنك لا تقول الشيء إلا بعد أن تستحضره . ولذلك نجد في تكوين الجهاز العصبي الأعلى ذاكرة ، وحافظة ، ومخيلة . ومن عجيب أمر التكوين الخلقي أن تمر أحداث على الإنسان في زمن مضى ولا يذكرها الإنسان لمدة طويلة تصل إلى سنوات ، ثم يأتي للإنسان ظرف من تداعي المعاني فيذكر الإنسان هذا الشيء الذي حدث منذ عشرين عاماً . إذن فالشيء الذي أدركه الإنسان منذ عشرين سنة على سبيل المثال لم يذهب ، ولو ذهب ما ذكره الإنسان ، لكنه غاب فقط عن الذهن عشرين عاماً أو أكثر فلما تداعت المعاني تذكره الإنسان . ومعنى ذلك أن هذا الشيء كان محفوظاً عند الإنسان وإن توارى عنه مدة طويلة . فالذاكرة - إذن - معناها أن يستدعي الإنسان المحفوظ ليصير في بؤرة شعوره . مثال ذلك : حادث وقع بين إنسان وآخر منذ أكثر من عشرين عاماً . ونسي الإنسان هذا الحادث . فلما التقى بصديقه ، وجلسا يتذاكران الماضي تذكر الصديق الحادث الذي حدث له منذ أكثر من عشرين عاماً . إذن فالحادثة لم تذهب من الذاكرة ، ولكنها محفوظة موجودة في حواشي الشعور البعيدة ، وكلما بعد الإنسان في الزمن يبدو وكأنه نسي الحادثة ، لكن عندما يأتي تداعي المعاني فالحادثة تأتي في بؤرة الشعور . فإذا ما جاءت في بؤرة الشعور من حواشي الشعور حيث مخزن الحافظة ، يتذكرها الإنسان . وهذه هي قوة الخالق جل وعلا . وقد يسجل أحدنا على شريط تسجيل بعضاً من الكلام . ومن بعد ذلك يجب أن يسجل كلاماً آخر على الشريط نفسه فيمسح الكلام الذي سجله أولاً ، ولكن ذاكرة الإنسان تختلف ، فساعة تأتي المسائل في بؤرة شعوره فالإنسان يتذكرها . وإذا ما جاءت مسألة أخرى بعدها فلا بد أن تتزحزح المسألة الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور لأن بؤرة الشعور لا تستقبل إلا خاطراً واحداً ، فإن شغلت بؤرة الشعور بخاطر آخر فهي تحفظ الخاطر الأول في حواشي الحافظة . ولا يمسح خاطر خاطراً آخر . فإن أراد الإنسان أن يستدعي الخاطر القديم ، كان ذلك في مقدوره ، وهذا هو الفارق بين تسجيل الخالق وتسجيل المخلوق . وبعد ذلك نجد ان التذكر يكون للمعاني ، فالذي يخزن في ذاكرة الإنسان ليس أَجْرَاماً ، فلو كانت أجراماً لما وسعها المخ . ولهذا فالمعاني لا تتزاحم فيه ، بل تتراكم بحيث إذا ما جاء تداعي المعاني فالإنسان يتذكر ما يريد أن يذكره ، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان المخ من صنع الخالق الأعلى . ومادامت المعاني ليس لها حيز فالإنسان يقدر على حفظها في الذاكرة . الإنسان قد يجلس ليتذكر أسماء الجبال في العالم فيقول : من جبال العالم قمة " إفريست " ، وجبال " الهمالايا " ، وجبل " أحد " وجبل " ثور " . وساعة يتذكر هذه الأسماء فهو يتصور معانيها ، فالموجود في ذهن الإنسان معاني هذا الكلمات وليس أجرام هذه الكائنات لذلك فلا تزاحم أبداً في المعاني بل تظل موجودة ومختزنة في الذاكرة وحاشية الشعور . وإياكم أن تفهموا أن إنساناً يملك من الذكاء ما يحفظ به الشيء من مرة واحدة : وآخرَ أقل ذكاء يحفظ بعد قراءة الشيء مرتين ، وثالثاً يحفظ عن ثلاث مرات لا ، لأن الإنسان يملك ذهناً كآلة التصوير يلتقط من مرة واحدة ، لكن لو أخذ الإنسان صورة لمكان وجاء شيء يضبب عدسة الصورة فهو يعيد التصوير ، وكذلك الذهن إن أراد الإنسان أن يأخذ لقطة لشيء ما لتستقر في بؤرة الشعور وفي بؤرة الشعور شيء آخر ، فالشيء لا يستقر في الذهن ، بل لا بد من قراءة مضمون اللقطة مرة ثانية ليؤكد الإنسان المعلومات لتنطبع في بؤرة الشعور . ومثال ذلك الطالب الذي يدخل ساحة المدرسة التي يُعقد بها الامتحان . وقبل أن يدق جرس الامتحان بخمس دقائق يأتي له واحد من زملائه ويقول له : هل ذاكرت الموضوع الفلاني . فيقول الطالب : لا لم استذكره . فيقول الصاحب : هذا الموضوع سيأتي منه سؤال في الامتحان . فيخطف الطالب كتابا ويقرأ فيه هذا الموضوع لمرة واحدة . هذا الطالب في هذه اللحظة لا يتذكر ماذا سيأكل على الغداء هذا اليوم ، أو من سيقابل . بل يعرف أنه بصدد أمر فرصته ضيقة ، ويركز كل ذهنه ليستقبل ما يقرأه . وفي لحظة واحدة يحفظ هذا الموضوع . وإذا جاء الامتحان ووجد السؤال فهو يجيب عليه بأدق التفاصيل . وقد نجد طالبا آخر جلس لأيام يحاول استذكار هذا الدرس بلا طائل . إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة ، شريطة ألا يستقبل الإنسان ما يقرأه أو يسمعه من معلومات والذهن مشغول بأشياء أخرى . والدليل على ذلك : أن الإنسان قد يسمع القصيدة مرة واحدة أو يسمع الخطبة مرة واحدة فيحفظ من القصيدة أكثر من بيت ، أو يحفظ من الخطبة أكثر من مقطع لأن ذهن الإنسان في تلك اللحظة كان خاليا فالتقط الأبيات التي حفظها ، وكذلك الخطبة ، أما بقية أجزاء القصيدة أو الخطبة فقد يكون الذهن شرد إلى أشياء أخرى . ولذلك يحاول الإنسان أن يكرر الاستماع والإصغاء والقراءة أكثر من مرة ليهيئ ويعد بؤرة الشعور ، فيحفظ الإنسان ما يريد . إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة ، أما الذاكرة فهي تتذكر أي تستحضر المعاني التي قد تختفي في الحافظة ، ولا شيء يضيع في الحافظة أبدا ، بحيث إذا جاء الاستدعاء طفت المعاني على السطح . كأن انطباعات الإنسان في نعم الله لا تُنسى أبدا . وهي موجودة عند الإنسان ، ولكنها تريد من الإنسان أن يستدعيها من الحافظة ويطلبها . ولنر دقة الأداء القرآني : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } سبحانه يقول هنا " نعمة " مع ان نعم الله كثيرة ، ولكن الله قد آثر أن يأتي بالمفرد ولم يأت بالجمع . وذلك ليبين للإنسان أن أية نعمة في أية زاوية من حياة الإنسان تستحق أن يذكرها الإنسان فنعم الله كثيرة ، ولكن ليتذكر الإنسان ولو نعمة واحدة هي نعمة الإيجاد من عدم ، أو نعمة البصر ، أو السمع . وكل نعمة من هذه النعم تستحق من الإنسان أن يتذكرها دائما ، ولا تطرد نعمة نعمة أخرى ، فما بالنا إذا كانت النعم كثيرة ؟ ولو تمعن الإنسان في كل نعمة لاحتاجت إلى أن يتذكرها دائما ، أو أن النعمة اسم للجنس كله لأن المفرد يطلق على كل الجنس ، مثل الإنسان فإنها تطلق على كل فرد من أفراده مثل محمد وعلي وخالد . وكلمة " النعمة " قد تُنسب إلى سببها كنعمة سببها مروءة واحد من البشر ، وهي محدودة بمقدار الأثر الذي أحدثته . لكن نحن هنا أمام نعمة المسبب وهو الله ، ولا بد أن تناسب نعمة الله جلال وجمال عظمته وعطائه . { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ } و " واثق " تقتضي امرين : فالإنسان طرف الاحتياج والفقر والأخذ ، والرب صاحب الفضل والعطاء والغنى ، إنه هو الربوبية وأنت العبودية ، وهو الحق القائل : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] إذن فـ " واثقكم " تعني التأكيد من طرفين لأن " واثق " على وزن " فاعَلَ " ، ولا بد في " فاعَلَ " أن تكون من اثنين . ومثال ذلك " شارك " تقولها لاثنين أو أكثر فنقول : " شارك زيد عمراً " وكذلك " قاتل زيد عمراً " . وحين يقول الحق : إنه " واثق عباده " أي أنه شاركهم في هذا الميثاق وقبله منهم . لكن أي ميثاق هذا ؟ ونحن نعرف الميثاق الأول الذي هو ميثاق الذر : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] وهو ميثاق الفطرة قبل أن توجد النفس وشهواتها . وبعد ذلك هناك ميثاق العقل الذي نظر به الإنسان إلى الوجود واستطاع أن يخرج من تلك الرؤية بأن الوجود محكم ومنظم وواسع ، ولا بد لهذا الوجود من واجد وهو الله . وبعد ذلك ميثاق الإيمان بالله ، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما عرض منهج الإسلام آمن به بعض الناس ، أي أخذ منهم عهداً على أن ينفذوا مطلوبات الله ، ألم يأخذ الرسول عهداً في العقبة حين قالوا له : خذ لنفسك ولربّك ما أحببت . فتكلم - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثم قال : " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أُزُرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أبناء الحرب وأهل الحلقة السلاح ورثناها كابرا عن كابر . وحدث هذا - أيضا - عند بيعة الرضوان تحت الشجرة . إذن فمعنى " واثقكم به " إما أن يكون العهد العام الإيماني في عالم الذر ، وإما أن يكون العهد الإيماني الذي جاء بواسطة الرسل . { وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وحين يؤمن الإنسان يقول : سمعت وأطعت ، وهكذا تنتهي مسألة التعاقد . ويتبع الحق ذلك بقوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . واتقوا أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال من الله وقاية ، فالمطلوب منا أن نلتحم بمنهج الله إلتحاما كاملا ، وعلينا كذلك أن نجعل بيننا وبين صفات غضب الله وقاية . وعرفنا أن قوله الحق : " اتقوا الله " متساوٍ مع قوله : " اتقوا النار " ، وقد يقول قائل : وهل للنار أوامر ونواه ؟ ونقول : أحسن الفهم عن ربك واجعل بينك وبين غضب الله وقاية ، فالنار جند من جنود الله . وسبحانه يوضح : اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية لأن الحق له صفات جلال هي الجبروت والانتقام والقهر ، وللحق صفات جمال فهو الغفور الرحيم المغني ، الحكيم إلى غير ذلك من صفات الجمال ، إذن فلنجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية تقينا من جنود صفات الجلال ومنها النار . وقلنا من قبل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغنا أنه في الليلة الأخيرة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة . والنظرة السطحية تتساءل : ولماذا لم يقل : يتجلى الغفار بالمغفرة ؟ ذلك أن الجبار صفة من صفات الجلال التي تقتضي معاقبة المذنب ، والذنب متعلق بصفات الجلال لا بصفات الجمال ، إذن فالمنطق يقتضي أن يقف المذنب أمام شديد الانتقام لأن المقام يناسب صفات الجلال ، ولكن علينا أن نتذكر جيدا أن الله يرخي العِنان للمذنب لعله يتوب ، وأن الله يفرح بتوبة عبده وأن رحمته تَغْلب غضبه . ويذيل الحق الآية : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } والتقوى - كما نعلم - لا تنشأ من الأفعال المحسة المدركة فقط ، بل تنشأ أيضا في الأحوال الدخيلة المضمرة . ومثال ذلك نية سيئة ونية حسنة . فالحقد ، الحسد ، التبييت ، المكر ، كل ذلك صفات سيئة فإياكم أن تقولوا إن التقوى للمدركات فقط بل للمحسات أيضا . وعمل القلوب له دخل في تقوى الله . ومن بعد ذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .