Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 8-8)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إنّ الحق - كما علمنا - حين ينادي المؤمنين بقوله : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } إنه سبحانه لم يقتحم على الناس تصرفاتهم الاختيارية لمنهجه ، بل يلزم ويأمر من آمن به ويوجب عليه فيوضح : يا من آمنت بي إلها حكيما قادرا خذ منهجي . ولكن الحق يقول : { يا أيها الناس } حين يريد أن يلفت كل الخلق إلى الاعتقاد بوجوده ، أما من يؤمن به فهو يدخل في دائرة قوله الحق : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا النداء يقتضي بأن يسمع المؤمن التكليف ممن آمن بوجوده . ونعلم أننا جميعا عبيد الله ، لكن لسنا جميعا عباد الله . وهناك فرق بين " عبيد " و " عباد " . فالعبيد هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم ، ولا يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيه . قد نجد متمرداً يقول : " أنا لا أؤمن بإله " ولكن هل يستطيع أن يتمرد على ما يقضيه الله فيما يجريه الله عليه قهرا ؟ فإذا مرض وادعى أنه غير مريض فما الذي يحدث له ؟ أيجرؤ واحد من هؤلاء المتمردين على ألا يموت ؟ ! ! لا أحد يقدر على ذلك . إذن فكل عبد مقهور لله ، وكلنا عبيد الله يستدعينا وقتما يريد ويجري علينا ما يريد بما فوق الاختيارات . أما " العباد " فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون لله : لقد نزعنا من أنفسنا صفة الاختيار هذه ورضينا بما تقوله لنا " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " . إذن فالعبيد مقهورون بما يجريه عليهم الحق بما يريد ، والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه الله ويرضاه إنهم أسلموا الوجه لله . فهم مقهورون بالاختيار ، أمّا العبيد فمقهورون بالإجبار . { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } . و " قوام " صفة مبالغة والأصل فيها قائم ، فإن أكثر القيام نطلق عليه كلمة " قوام " . ومثال ذلك رجل لا يحترف النجارة وجاء بقطعة من الخشب وأراد أن يسد بها ثقبا في باب بيته هذا الرجل يقال له : " ناجر " ولا يقال له : " نجار " ، ذلك أن تخصصه في الحياة ليس في النجارة . وكذلك الهاوي الذي يخرج بالسنارة إلى البحر واصطاد سمكتين يقال له : " صائد " لكنه ليس صياداً لأن الصيد ليس حرفته . إن الحق يطلب من كل مؤمن ألا يكون قائما لله فقط ، ولكن يطلب من كل مؤمن أن يكون قواما أي مبالغ في القيام بأمر الله . والقيام يقابله القعود . وبعد القعود الاضطجاع وهو وضع الجنب على الأرض ثم الاستلقاء ، وبعد ذلك ينام الإنسان . ونحن أمام أكثر من مرحلة : قائم وقاعد ومستلق ، ونائم . والنائم ليس عليه تكليف . والمستلقي هو المستريح على ظهره والحق يقول : { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] أي اجعلوا الله دائما على بالكم فالإنسان يملك في حالته الطبيعية نشاطا يمكنه أن يقوم ويقعد فإن قيل : " قام فلان بأمر القوم " أي أنه بذل كل جهد لإدارة أمور الناس ، والقيام في حركات الناس أصعب شيء . وسبحانه لا يريد منا أن نكون قائمين فقط بل يريد أن نكون قوامين . ومادمنا قوامين فلن تخلو لحظة من قيامنا أن نكون لله لله توجها . لا نفعا لأن أية حركة من أي عبد لا تفيد الله في شيء فالله خلق خلقه بمجموع صفات الكمال فيه ، ولم ينشئ خلقه له صفة جمال أو كمال جديدة . وعندما يؤدي الإنسان أي عمل لله فهو يؤديه طاعة وتقربا لله . وإذا أراد الله من المؤمنين أن يكونوا قوامين لله ، عندئذ تكون كل حركات المجتمع الإيماني حركات ربانية متساندة متصاعدة . وإذا كانت حركات المجموع الإيماني متساندة فسوف تكون النتيجة لهذه الحركة سعادة البشرية فالإنسان إذا ما كان قواما فهو قوام لنفسه وللآخرين . والمراد أن نكون مداومين على قيامنا في كل أمر لله . ولا تعتقد أيها المؤمن أنك تعامل خلق الله ، إنما تعامل الله الذي شرع لك ليضمن لك ويضمن منك ، فأنت إن طولبت بالأمانة ، فقد طولب كل الناس بالأمانة فيما هو خاص بك لا بغيرك ، وحين ينهاك الله عن الخيانة فقد أمر الحق الناس جميعاً بالانتهاء عن الخيانة لك . إذن إن نظرت إلى تكليفات الله لوجدتها لصالحك أنت فلا يظنن ظان أن الدين إنما جاء ليقف أمام نفسه هو ، فالدين وقف أمام النفس لدى الناس جميعاً ، فحين يأمرك : ألاّ تمد يدك إلى مال غيرك فأنت واحد من الناس ، وفي هذا القول أمر موجه لكل الناس : لا تمدوا أيديكم إلى مال فلان لتسرقوه . فانظر إلى أن الحق حين شرع عليك شرع لك . ولذلك يجب أن يكون كل قيامك لله سبحانه . ولذلك يظهر الحق سبحانه وتعالى في بعض خلقه أشياء وأحداثاً تُفهم الناس أن الذي يعمل لخلق الله مسلوب النعيم ، والذي يعمل لله يكون موصول النعيم فنجد الواحد من الناس يقول : " لقد فعلت لفلان كذا وكذا وكذا وأنكرني " . نقول له : أنت تستحق لأنك صنعت له ، ولكنك لو صنعت لله لكفاك الله كل أمر . ولذلك يقول الحق عن هؤلاء الذين صنعوا لله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] إذن فالمؤمن يجب أن يوضح حركة قيامه وينميها ، بمعنى أن يجعل كل حركته لله فإن كانت كل حركته لله ، فالله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا . والخاسرون هم الذين يعملون للناس لأن الناس لا يملكون لهم نفعاً وربما تخلوا عنهم وربما أضمرت وحملت قلوبهم الضغن والحقد لمن أحسن إليهم ، وربما تحولوا إلى أعداء لهم ، فالمصنوع له الجميل قد يعطيه الله بعضاً من الجاه ، وحين يلقى صانع الجميل بعد ذلك قد تتخاذل نفسه وتذل ، ونرى في بعض الأحيان واحداً يجلس بين الناس وقد أخذته العزة ، ثم يدخل عليه إنسان كان له فضل عليه ، وساعة يراه يكره وجوده في مجلسه ، ويتمنى ألا يحدث هذا اللقاء وإذا ما لقيه بعد ذلك في طريق فهو يشيح بوجهه لأن الذي صنع الجميل يسبب حرجاً له ، ويجعل نفسه تتضعضع ، وهو يريد أن يستكبر على الناس . إذن فالله يوضح : اعملوا لله لإنه لا يضيع عنده شيء . واعلموا أن الله رقيب عليكم ولن يضيع عملٌ عنده . وعندما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان قال : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أتستطيع أنت أيها الإنسان أن تصنع في إنسان آخر ما يسوؤه أمامه ؟ . أنت تسيء إلى الآخر من وراء ظهره . فلماذا إذن يُسيء الواحد منكم إلى الله بالعصيان ، وهو الناظر إليكم جميعاً ؟ إذن حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن تحسن معاملة نفسك وغيرك فعليك أن تحتسب كل عمل لك عند الله . فقد سخر لنا الحق كل الوجود وأعطانا كل مقومات الحياة ، ويوضح لكل واحد منا : يا عبدي اجعل كل قيامك لله ولا تكن قائماً فقط ولكن كن قوّاماً … بمعنى أنه مادامت فيك بقية من العافية للعمل فاعمل ، ولا تعمل على قدر حاجتك فقط ، ولكن اعمل على قدر طاقتك لأنك لو عملت على قدر حاجتك فإن الذي لا يقدر على العمل لن يجد ما يعيش به . إذن فاعمل على قدر طاقتك لتتسع حركتك للناس جميعاً . ويكون الفائض من عملك لغيرك . وحين يقول سبحانه : { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ } يعلمنا ألا نضيع مجهودنا هباء ، بل نوجه المجهود للعمل ونقوم به لوجه الله ، لأنه سبحانه لا ينسى أبداً جزاء عبده ، وهو الذي يرد كل جميل . إنه - سبحانه - يقول : { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] . ويقول أيضا : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ التوبة : 120 ] وحين يكون الواحد منا قوّاماً لله يكون قد استغل حركة وجوده لخير خلق الله ، وهذا العمل مطلوب منك . ولا يكفي أن تكون حركتك محصورة في ذلك ، بل يجب أن تمتد أيضاً حركة حياتك لتكون شاهداً بالعدل . وكذلك توجه للعدل من تحدثه نفسه أن ينحرف . وحين تكون قوّاماً لله فهذا أمر حسن ، وعليك أن تحاول إقناع غيرك بأن يكون قيامه لله بأن تكون شاهداً بالقسط والعدل . وحين تكون شاهداً بالقسط والعدل لا يتمادى ظالم في ظلمه . فالذي يجعل الظالم يشتد ويستشري ظلمه ويتفاقم شره هو أنه يجد من يدلسون على العدالة ويسترون ويخفون العيوب ويخادعون الناس . لكن لو وُجِد الإنسان الذي ينير الطريق أمام العدالة لما وجد ظلم . لكن الظالم يحب من يدلس عليه فيقول لنفسه : إن فلاناً ارتكب جريمة مثل جريمتي ونال البراءة . وتدليس الشهادة يقود إلى خراب المجتمعات . ولو أن المجتمع حينما يرى أن شهادة أفراده هي شهادة بالقسط وشهادة بالعدل ، فإن كل فرد في المجتمع إذا هَمَّ بظلم يرتدع قبل أن يفعل الظلم ، ولكان الظالم ينال عقابه ويصير مثالاً لارتداع غيره . والمؤمن مطالب بالقيام لله بإصلاح ذاته ، ومطالب ثانياً أن يشهد بالقسط والعدل لإصلاح غيره . وكلمة " القسط " تأتي منها اشتقاقات كثيرة ، وهي من الألفاظ التي قد تدل على العدل وقد تدل على الجور ، وهي من الألفاظ التي تستعمل في الأمر وفي نقيضه . وهذا من محاسن اللغة . ويتطلب ذلك أن يمحص السامع الكلمة ويتعرف على معناها بما يتطلبه السياق . " وقَسَطَ " معناها " عدل " . والفعل المضارع لها هو يقسط . والمصدر " قِسطا " ، ومرة يكون المصدر " قُسوطا " . والمصدر هو الذي قد يحول المعنى من العدل إلى الجور . فالقِسط بمعنى العدل . وقَسَطَ يَقْسِطُ قُسُوطاً . أي جار وظلم . هنا نجد الفعل يأتي بالمعنى وضده حتى يمتلك السامع اليقظة والفطنة التي تجعله يعرف التمييز بين معنى العدل ومعنى الجور . وحين نقول " أقسط " فإنها بمعنى عدل ، وهنا ننتبه إلى ما يلي : أن هناك فرقاً بين عَدْلٍ يأتي من أول الأمر وذلك هو القِسط ، وهناك حكم ظالم يحتاج إلى حكمٍ آخر يزيل الظلم . وذلك الذي نستعمل له " أقسط " أي أزال الظلم . فكأن جوراً كان موجوداً وأزاله الحكم . فالقِسط - إذن - هو العدل الابتدائي . ولذلك نسمع قول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] والقاسطون هنا هم الظالمون ، فالقسط هنا من قسط يقسط قُسوطا . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق : { شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ } أي شهداء بالعدل . واللباقة في السامع هي التي توجه اللفظ إلى معناه المراد من خلال السياق ، فالسامع للقرآن يُفْترض فيه الأريحية اللغوية بحيث يستطيع أن يفرق بين الشيء والمشابه له من شيء آخر . إذن فهناك قسط وأقسط ، قسط بمعنى عدل ، وأقسط بمعنى أقام القسط بإزالة الجور . والقسوط معناه الجور . والحق يقول : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } و " المقسطين " هي جمع " مُقسط " من : أقسط أي أزال الظلم والجور ، إذن فالذي يرجح المعنى هنا سياق الكلمة ومصدرها . وقد يراد بالكلمة المعنى المصدري . والمعنى المصدري لا يختلف باختلاف منطوقه ، فيقال : " رجل عدل " ويقال : " امرأة عدل " . ويقال : " رجلان عدل " ، ويقال : " امرأتان عدل " ، و " رجال عدل " ، و " نساء عدل " . إذن فإن أردنا بالكلمة المصدر فهي لا تتغير في المفرد والمثنى وجمع المذكر وجمع المؤنث . والقرآن الكريم يقول : { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ } [ الأنبياء : 47 ] وهنا قول آخر : { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } [ الشعراء : 182 ] وفي الريف المصري نجد أن التاجر يصنع لنفسه الموازين من الأحجار ، فيعاير قطعة من الحجر بوزن الكيلو جرام ، ويعاير قطعاً أخرى لأجزاء الكيلو جرام ومن كثرة الاستعمال وملامسة الحجر يعرف التاجر أن الحجر يتآكل ، لذلك يعيد وزن الأحجار التي يستعملها في الميزان كل فترة متقاربة من الزمن . ويقال : إنه يعاير الأوزان . وسمي القسطاس فالقسطاس هو الذي تعاير به الموازين ، فإذا صنع الإنسان شيئاً للميزان مما يتآكل أو يتأثر باللمس فيجب عليه أن يعايره كل فترة حتى لا يظلم أحداً ولو بمقدار اللمسة الواحدة . ولذلك يقول الحق : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } " أقسط " هنا معناها " أعدل " . فموازين الله غير موازين البشر ، فموازين البشر قد يحدث فيها اختلاف . ونرى بعض التجار ينقضون الميزان بأن يضعوا شيئاً تحت كفة الميزان أو غير ذلك من الخدع ، لكن الحق هو العادل الحق . وهو صاحب الميزان الأعدل وهو القائل : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } . جاءت هذه الآية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدر حكماً وهو حكم صحيح وعادل بقواعد البشر ، فأوضح الحق له الحكم الأقسط ، صحيح أن عدلك يا رسول الله لا يدخله هوى ولا يميل به غرض أو شهوة . ولكن العدل عند الله أكثر دقة وله مطلق الدقة . وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بمنطق القسط البشري في أمر زيد بن حارثة وكان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عبداً لخديجة - رضي الله عنها - وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد فترة علم أهل زيد بخبر اختطافه وبيعه كعبد وكيف آل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء أهل زيد إلى رسول الله وطالبوا بابنهم . ورفض زيد أن يعود معهم وأراد أن يبقى مع رسول الله ، وأراد رسول الله أن يكرم زيداً الذي فضله على أبيه وأهله مصداقاً لقول الله : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] لذلك كان لا بد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقدر زيد بن حارثة فأعتقه ودعاه " زيد بن محمد " تكريماً له ، على عادة العرب في تلك الأيام . لكن الله يريد أن يلغي مسألة التبنّي : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] وأجرى الله الأحداث ليصحح مسألة التبني لكل العرب ، وكان بداية تطبيق ذلك على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينزل القول الحق : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] لم ينف الله القسط عن محمد ، ولكن الأقسط يأتي من عند الله . ويطيب الله خاطر زيد بعد أن عاد إليه اسمه الفعلي منسوباً لأبيه لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكافئ الله زيداً بأن يجعل اسمه هو الاسم الوحيد في الإسلام الذي يذكر في القرآن ويتعبد المؤمنون بتلاوته إلى أن تقوم الساعة : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] لقد صار اسمه في القرآن يتلوه المسلمون إلى قيام الساعة . وفي ذلك كل السلوى . إذن فـ { أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } جاءت في محلها ، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا أن يكون قيامنا مبالغاً فيه أي ألا نترك فرصة لعمل الخير وأن نبالغ في الدقة في أداء العمل ، وأن نَعْدل في المجتمع بأن نكون شهداء بالقسط . وبذلك يأخذ كل إنسان حقه فلا يقدر قوي أن يظلم ضعيفاً لأن الضعيف سيجد أناساً يشهدون معه بالحق . وإياكم أن تأخذوا الهوى في مقاييس العدل . وهب أن المسألة تتعلق بعدوكم أو بخصومكم فالعدل هنا أكثر أهمية وأكثر وجوبا . { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } . أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا فتعتدوا عليهم ، فمن له حق يجب أن يأخذه . ونعرف القصة التي حدثت ، عندما سرق مسلم درع مسلم آخر وأراد السارق وأهله أن يلصقوا التهمة بيهودي وأن يبرئ نفسه ، ولكن الله أنزل قرآناً : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] أي لا تكن يا محمد لصالح الخائنين مخاصما للبرآء . وقوله الحق هنا : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا ، وإلا سيكون البغض لصالح عدوكم ، وبغض المؤمن إذا حمله على اتباع هواه سيكون لصالح العدو لأن الله سيعاقب المؤمن لو أدخل الهوى والبغض في إقامة الميزان العادل . فتحكيم البغض والعِداء والهوى يكون لصالح الخصوم لذلك لا يحملنكم أيها المؤمنون شنآن - أي بغض - قوم على ألا تعدلوا . ويضيف الحق : { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } والعدالة حين تُطلب مع الخصم هي تقريع لذلك الخصم لأنه خالف الإيمان . ومن المؤكد أن الخصم يقول لنفسه : إن عدالة هذا المسلم لم تمنعه من أن يقول الحق ولا بد أن عقيدته تجعل منه إنساناً قوياً ، وأن دينه الذي أمره بذلك هو نعم الدين . إذن ساعة تحكم أيها المؤمن بالعدل لخصمك فأنت تقرعه لأنه ليس مؤمنا ، لكن لو رأى خصمك أنك قد جُرت ولم تذهب إلى الحق ، فأنت بذلك تشجعه على أن يبقى كافراً لأنه سيعرف أنك تتبع الهوى . أما إذا رآك وأنت تقف موقفاً يرضي الله مع أنه خصم لك ، فهو يستدل من ذلك على أن العقيدة التي آمنت بها هي الحق ، وأنك تقيم الحق حتى في أعدائك . وهكذا يقرع الخصمُ العقدي نفسَه ، وقد يلفته ذلك إلى الإيمان . { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } أقرب إلى أي تقوى ؟ أأقرب إلى تقوى المؤمن ؟ أم أن الخصم يكون أقرب إلى التقوى حين يرى المؤمن مقيماً للعدل والحق ، فلعله يرتدع ويعاود نفسه ويقول : إن الإيمان قد جعل هذا المسلم يتغلب على البغض وحكم بالحق على الرغم من أنه يعلم أنني عدو له . ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة ، فقد جاءه رجل غريب يسأله طعاماً أو مبيتاً ، فسأله إبراهيم عن دينه . فوجده كافراً ، فلم يجب مسألته . وسار الرجل بعيداً ، فأنزل الله سبحانه على إبراهيم وحياً : أنا قبلته كافراً بي ومع ذلك ما قبضت نعمتي عنه . وسألك الرجل لقمة أو مبيتَ ليلةٍ فلم تجبه . وجرى سيدنا إبراهيم خلف الرجل واستوقفه ، فسأل الرجل سيدنا إبراهيم ما الذي حدث لتغير موقفك ، فقال سيدنا إبراهيم : إن ربي عاتبني في ذلك . فقال الرجل : نعم الرب إله يعاتب أحبابه في أعدائه ، وآمن الرجل . وهذا يوضح لنا معنى { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } فقد صار الرجل الكافر أقرب للتقوى . إذن : فالمعنى النفسي الذي يصيب خصمك أو من يغضبك أو من بينك وبينه شنآن ، حين يراك آثرت الحق على بغضك له ، يجعله يلتفت إلى الإيمان الذي جعل الحق يعلو الهوى ويغلبه ويقهره ، ويصير أقرب للتقوى . وأيضاً من يشهد بالقسط هو أقرب للتقوى . ويذيل الحق الآية بقوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فهو - سبحانه - الخبير بما نعمل . وإياك أيها المؤمن أن تصنع ذلك لشهرة أن يُقال عنك إنك رجل حكمت على نفسك . ولكن اعمل من أجل الله حتى وإن كان الموقف يستحق منك الفخر . إن كثيرا من الناس يحكمون بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل ، كيف ؟ لنفرض أنه قد عُرضت عليك قضية هي خصومة بين ابنك وابن جارك الشجاعة الأولى تفرض أن تحكم لابن جارك وهو غير محق على ابنك ، لكن الشجاعة الأقوى أن يكون الحق لابنك وتحكم له ، أما إن حكمت لابن جارك - وهو غير محق - ففي هذه الحالة تكون قد حكمت بالظلم لتشتهر بين الناس بالعدل ! يجب أن يكون الحق أعز عليك من ابنك وابن جارك ، وإياكم أن تعملوا أعمالاً ظاهرها عدل وباطنها رياء لأننا نعلم أن لكل جارحة من الجوارح مجالاً تؤدي فيه وظيفتها فاللسان أداؤه ووظيفته القول ، والأذن فعلها أن تسمع ، والأنف أداؤه أن يشم ، ويجمع الجميع العمل . فالعمل إما أن يكون قولاً وإما أن يكون فعلا . قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 - 3 ] إذن فالقول محله اللسان ، والفعل محله بقية الجوارح ، والاثنان يجمعهما العمل . ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .