Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 97-97)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" جعل " تعني بَيَّن ووضَّح ، فقال : إن الكعبة محرمة ولها كرامة تستحق من المؤمن أن يأمن فيها . أو " جعل " تعني إيجاد صفات للأشياء بعد أن تكون ذات المادة موجودة ، مثل قوله الحق سبحانه : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 7 ] . أي أنه سبحانه خصص جزءا من خلايا الإنسان ليكون عيناً ، وجزءا آخر ليكون أذناً ، وجزءا ثالثاً ليكون لساناً . والحق هنا يقول : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } . ونعرف أن كل الأسماء للمعنويات مأخوذة من المُحسات . والكعب هو الشيء الناتىء الخارج عن حد المتساوي . ومثال ذلك الكعب في القدم يكون مرتفعاً . وكذلك الفتاة نطلق عليها : " طفلة " وهي دون البلوغ ، وعند البلوغ وظهور الثديين نقول إنها " كَعَاب وكاعب " ، أي أن ثدييها قد صارا مرتفعين ، والكعبة نتوء ، والنتوء ارتفاع ، وهذا الارتفاع هو علامة البيت ، فالبيت هو مساحة من الأرض ، أما الارتفاع فهو يحدد الحجم . ومثال ذلك عندما نريد حساب مساحة الأرض نقيس الطول والعرض ، ونضرب الطول في العرض حتى نحسب المساحة . أما إذا كان هناك ارتفاع فهذا يعني الانتقال من المساحة إلى الحجم . والحق سبحانه يقول : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [ البقرة : 127 ] . أي أن سيدنا إبراهيم بعمله إنما أراد أن يصنع للبيت ارتفاعاً وحجماً ، وهذا البناء يدل على صناعة حجم لمساحة من الأرض . إذن فالكعبة هي البيت بعد أن صار له ارتفاع . وكلمة " بيت " تعني المكان الذي أعد للبيتوتة ، فالإنسان يضرب في الأرض طيلة نهاره وعندما يحب أن يستريح يذهب إلى البيت . فالله جعل الكعبة بيتاً للناس حتى يستريحوا فيه من عناء حياتهم ومشقة كدحهم لأنه بيت ربهم باختيار ربهم ، لا باختيارهم ، فكل مسجد هو بيت لله ولكن باختيار خلق الله ، أما الكعبة فهي بيت الله باختيار الله ، وهي قبلة لبيوت الله التي قامت باختيار خلق الله . { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } وكلمة { ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } تدل على أن له حرمات كثيرة . وجعل الله الكعبة بيتاً حراماً لكل المسلمين قياماً . والقيام هو الوقوف ، والوقوف هو القيام على الأمر . والقائم على أمرٍ ما يحفظ له قوام حياته ووجوده . وهكذا نفهم أنه سبحانه أراد أن تكون الكعبة هي البيت الحرام ليحفظ على الناس قوام حياتهم ، بالطعام والشراب واستبقاء النسل ودفع الأذى ، وفوق ذلك له سيطرة وسيادة وجاه وتمكين ، ولذلك يعطي الإيمان الحياة الراقية ، فالحياة مسألة يشترك فيها المؤمن والكافر ، وتبدأ بوجود الروح في المادة فتنتقل المادة إلى الحالة الحس والحركة ، والمؤمن هو من يرتقي بحياته فيعطي لها بالإيمان منافع ، ويسلب عنها المضار ، فيأخذ السيادة ، وبذلك تتصل حياته الدنيا بحياته في الآخرة ، فلا تنتهي منه الحياة أبداً . لقد جعل الحق سبحانه وتعالى الكعبة البيت الحرام قياماً للناس … أي قواماً لحياتهم سواءً الحياة الدنيا او حياة الآخرة ، الحياة المادية التي تنتهي بالموت ، والحياة التي تبدأ بالآخرة . والحق سبحانه يقول عن ذلك : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] . هكذا يكون الإيمان بالله وصلاً لحياتين : الحياة المادية في الدنيا ، وحياة الآخرة . وأراد الحق بذلك دفع الأذى وجلب النفع والجاه والسيطرة للمؤمنين ، ونعرف أن البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] . كذلك نعرف أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أقام القواعد من البيت ، أما البيت نفسه فقد أقيم من قبل ذلك . وما دام الحق سبحانه قد قال : { وُضِعَ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 96 ] . فمعنى ذلك أن الله لم يحرم الناس من قبل إبراهيم أن يكون لهم بيت . فالناس معناها البشر من آدم إلى أن تقوم الساعة ، وأقام إبراهيم خليل الرحمن البُعْد الثالث وهو رفع القواعد للبيت الحرام . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] . أي أن الحق سبحانه وتعالى أظهر مكان البيت لإبراهيم عليه السلام ، ونعرف أن إبراهيم أشرك ابنه إسماعيل في إقامة القواعد من البيت ، ونعلم أن إسماعيل قد جاء إلى هذا المكان رضيعاً مع أمه ، وقال إبراهيم بعد أن رفع القواعد متوجها إلى ربه بالدعاء : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } [ إبراهيم : 37 ] . لقد عرف إبراهيم مكان البيت وأنه بوادٍ غير ذي زرع ، لا ماء فيه ولا نبات . وجاء الحق بهذه الكنابة لنعرف أنه لا حياة بدون زرع ، والماء لازم للزرع . وبذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد لبى نداء الله بأن يأتي إلى مكان ليس به أي نعمة تقيم الحياة ، ولا يوجد فيه إلا المنعم ، ولذلك نرى سيدتنا هاجر عليها السلام عندما تتلقى الأمر من إبراهيم بالسكن مع ابنها في ذلك المكان تناديه : يا إبراهيم إلى من تتركنا ؟ فيقول لها : إلى الله تقول : رضيت بالله . هنا تركته سيدتنا هاجر ليمشي كما أراد ، فالله لن يضيعها لا هي ولا ابنها لأنها قالت : رضيت بالله . وقص الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا قصتها ، والسعي الذي قامت به بين الصفا والمروة ، وكيف كانت ثقتها في أن الخالق الأكرم لن يضيعها لا هي ولا ابنها ، بل سيرزقهما ، فتسعى بين الصفا والمروة لعلها تجد طيراً يدلها على موقع للماء ، وتعود إلى المروة لعلها تجد قافلة تسير . إنها تأخذ بالأسباب مع علمها أنها في صحبة المسبب الأعظم . وسعت سبعة أشواط . وهي الأنثى وفي تلك السن ، وذلك من لهفتها على توفير شربة ماء لطفلها . السعي - كما نعرفه - عملية شاقة . ولو أن الله أعطاها الماء على الصفا أو على المروة لما أثبت كلمتها : " إن الله لا يضيعنا " . ولكن الحق يعطيها الماء عند قدمي طفلها الرضيع . وبذلك لها يكون سبحانه قد نبهنا وأرشدنا إلى قضيتين : أمّا الأولى فإن الإنسان يلزمه أن يسعى على قدر جهده ، وأما الثانية فهي أن السعي لا يعطي بمفرده الثمرة ، ولكن الثمرة يعطيها الله . وجعل الله من السعي بين الصفا والمروة تعليماً لنا بدرس عملي تطبيقي أن نأخذ بالأسباب ولا ننسى المسبب لأن فتنة الناس تأتي من الغرور بالأسباب . { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . إنه لا يصح أبداً أن تعزلك الأسباب عن المسبب ، ولا تقل سأبقى مع المسبب إلى أن تأتيني الأسباب لا ، كُنْ دائماً مع الأسباب ، وتذكر دائماً المسبب . ولذلك نقول : إن الجوارح تعمل ، ولكن القلوب تتوكل . وهذا هو المغزى من عطاء الحق سبحانه الماء لهاجر عند قدمي ابنها ، وبذلك تستجاب دعوة إبراهيم التي دعا بها الله : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] . لقد دعا إبراهيم عليه السلام بالرزق من الثمرات ، لأن الوادي غير ذي زرع . ولذلك جعل الحق أفئدة الناس تهوي إلى الكعبة وإلى البيت الحرام . يقول - سبحانه - : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] . وكلمة " يُجبى " تدلنا على أن الناس لا تأتي بهذه الثمرات اختياراً إلى البيت الحرام الذي جعله الله قياماً لحياة من يوجد فيه ، بل يأتون بالثمرات قهراً . وهناك أناس لهم مزارع كبيرة وحدائق وفيرة الثمار في الطائف وفي غيرها من البلاد ، وعندما يريد إنسان الشراء من نِتاج مزارعهم يقولون له : إنه مخصص لمكة فإن أردت شراءه فاذهب إلى مكة . لقد استجاب الحق لدعاء إبراهيم : { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } . و " تهوي " - بكسر الواو - تدل على السقوط من حالق … أي من مكان مرتفع شاهق . وكأن الشوق إلى الكعبة يجعل الإنسان مقذوفاً إليها . ولذلك نجد الكَلِف بالحج - المحب له والمتعلق به - تشتاق روحه إلى الحج . وعلينا أن نفرق بين " يَهْوَى " … أي يحب الذهاب ، و " يَهوِي " بكسر الواو أي يذهب بالاندفاع ، فالإنسان إن سقط من مكان عالٍ لا يستطيع أن يقول : سأتوقف عند نقطةٍ ما في منتصف مسافة السقوط لأن الذي يقع من مكان لا يقدر على أن يمسك نفسه . ولذلك قال الحق : { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ } [ إبراهيم : 37 ] . وهذا دليل على أن الهْوُيَّ ليس من صنعة الجسم ، ولكنه من صنعة الأفئدة . والأفئدة بيد الله - سبحانه - هو الذي جعلها تهوِي ، والكعبة هي البيت الحرام ، وهي قوام لحياة الناس ، وسبحانه القائل : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] . فالداخل إلى الكعبة آمن حتى ولو كان قاتلاً . وكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه في الكعبة فلا يتعرض له ، إذن فقد أعطى الحق لهم من مقومات الحياة الشيء النافع وحجب عن الموجود منهم الضر . وأما السيادة والجاه فقد عرفنا ان قريشاً سادت العرب وكان رجالها سدنة وخدماً لبيت الله ، والكل يأتي إليهم فلا أحد يتعرض لقوافلهم الذاهبة إلى الشام أو اليمن . وإلا فمن يتعرض لقوافل قريش فإن قريشاً تستطيع الانتقام منه عندما يأتي إليها . وكان ذلك قمة السيادة . إذن فمقوم الحياة إما أن يأتي بنافع كالرزق ، وإما أن يمنع الضار وذلك بالأمن الذي يصيب كل داخل إليها ، وكذلك بالسيادة التي أخذتها قريش على العرب جميعاً . وأعطى الله المثل لقريش على حمايته للكعبة ، عندما جاء أبرهة ليهدم الكعبة : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] . ورد سبحانه كيد أصحاب الفيل لأنهم لو هدموا الكعبة لضاعت السيادة من قريش ، ولذلك قال الحق وصفاً لذلك : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ الفيل : 5 ] . { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } [ قريش : 1 - 2 ] . جعل الحق أصحاب الفيل كعصف مأكول أي كتبن أو نحوه أكلته الدواب وألقتهُ رَوْثا ، فعل - سبحانه - ذلك حتى تألف قريش وتطمئن إلى أن الكعبة لن يمسها سوء ، وإلى أن رحلات الشتاء والصيف مصونة بحكم حاجة كل القبائل إلى الحج . وقال سبحانه : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] . أي أسبغ عليهم النعمة بالطعام وسلبهم المضرة بالخوف ، وأبقى لهم السيادة والجاه بخدمة الكعبة التي جعلها الله للناس جميعاً قياما وأمناً لأن الذين يذهبون إلى حج البيت يُكفر عنهم سبحانه سيئاتهم ويخرجون من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم ، وهذا قيام لحياتهم الأخروية أيضاً . إذن جعل الله البيت الحرام قياماً لكل ألوان الحياة ، والبيت الحرام مكان كما نعلم . وجعل الحق الشهر الحرام أيضاً قياماً للحياة ، والشهر الحرام هو زمان كما نعلم . والشهر الحرام هو أحد الأشهر الحرم الأربعة : شهر منها فرد أي غير متصل بغيره من الأشهر الحرم وهو رجب - ولذلك يسمى رجب الفرد - وثلاثة سرد أي متتابعة يلي بعضها بعضاً وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . والمراد بالشهر الحرام هو الجنس لكل شهر من الأشهر الحرم . ونعلم أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى فاعل . والفاعل يحتاج إلى زمن ليفعل فيه الفعل ، وإلى مكان يفعل فيه ، وإلى سبب يدعو إلى الفعل ، وإلى قدرة تبرز هذا الفعل . ولذلك نذكر جميعاً قول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الكهف : 23 - 24 ] . فإياك أن تقول : إني فاعل ذلك غداً إلا بعد أن تتبعها بقولك : " إن شاء الله " . ولا يمنعنا هذا أن نخطط لمستقبلنا . فمادمنا قد استعنا بالمشيئة ، فلنا أن نخطط لحياتنا . ونقول : " إن شاء الله " لأن عناصر الفعل : فاعل ، ومفعول يقع عليه الفعل ، وزمان ، ومكان ، وسبب ، وقدرة تبرز الفعل . ولا أحد منا يملك واحداً من هذه العناصر ، فأنت أيها الإنسان لا تملك وجود ذاتك غداً ، ولا تملك وجود المفعول غداً ، ولا تملك الزمان ، ولا تملك المكان ، ولا تملك السبب لأنه من الجائز أن يتغير ، ولا تملك القدرة على الفعل ، فقد تسلب منك القدرة قبل أن تفعل الفعل . إذن ، فأنت لا تملك من عناصر الفعل شيئاً . فلا تجازف وتقول : أنا أفعل ذلك غداً . بل أسندها إلى من يملك كل العناصر ، وقل : " إن شاء الله " ، وبذلك لا تكون كاذباً . وهنا في هذه الآية يوجد عنصران : المكان ، الزمان ، المكان هو البيت الحرام ، والزمان هو الشهر الحرام ، والذي يحدث الفعل فيه نسميه : المفعول فيه ، وهو إما ظرف مكان وإما ظرف زمان . وأراد الحق سبحانه بذلك أن يؤكد ما فيه قيام الناس زمانا ومكانا ، فلو أنه سبحانه لم يفعل ذلك بالنسبة للزمان وهو الأشهر الحرم ، والمكان وهو الحرم ، لاستمرت الحرب بين قبائل العرب إلى ما لا نهاية . ولذلك أراد بالأشهر الحرم أن يعطي للعقل فرصة للتأمل في أسباب الحرب ، ويعطي كل إنسان من العرب الراحة من القتال . وكان كل عربي في ذلك الزمن يهتم بالاستعداد للقتال اهتمامه بالطعام والشراب ، فكل منهم تربى على الفروسية والقتال والضرب بالرمح والمبارزة بالسيف . وحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لينساح بالدعوة في أرض الله صحب معه الكثير من الرجال الذين لم يكونوا في حاجة إلى التدريب على أعمال الحرب ، فقد كان كل الناس تقريباً جاهزين للقتال . وكأن الله سبحانه أراد للإسلام أن ينهي الثأر بين القبائل ، وأن يستفيد الإسلام من استعداد كل عربي للقتال . واستفاد الإسلام أيضاً من أن أمة العرب كانت - غالباً - متبدية بيت كل إنسان منهم على ظهر البعير ، يشد رحاله ، وينصب خيمته وينام لأن الناس إنما ارتبطوا بالأوطان عندما بنوا المنازل ، فمن بنى لنفسه بيتاً في مكان ما فهو يشتاق إلى ما بناه . وكأن الحق قد أعدهم للانسياح بكلمة الله في الأرض فلا يحزن لترك مكان إلى مكان آخر ، بل إن الشخص منهم كان يذهب إلى البلاد ويتوطن فيها ليؤصل الوجود الإسلامي . فكان كل واحد منهم نواة الخير للأمم التي انساحوا إليها فمن ذهب منهم إلى الشام توطن فيها ولم يصعب عليه فراق الجزيرة . وكذلك من ذهب إلى مصر وغيرها من البلدان . إذن فقد أراد الحق بحرمة الأشهر الحرم والبيت الحرام أن يرتاح العرب من القتال بدلاً من أن تهلك الحربُ الحرثَ والنسلَ ، وأراد الحق ذلك قياماً للناس ، واستبقاءً للنوع . وكذلك حرم الله : { وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ } والهدي هو الذي يُهْدَى للحرم فيأكله الناس هناك ، ذلك لأن الحرم موجود بوادٍ غير ذي زرع . والهدي هو البهيمة التي يتطوع بها أي إنسان ويضع حول عنقها قلادة من لحِاء وقشر الشجر أو غير ذلك ، وعندما يرى الناس القلادة يعرفون أن تلك البهيمة مهداة للحرم فلا يقربها أحد حتى صاحبها وإن قرصه وعضه الجوع ، وفي ذلك قيام للناس . وتتابع الآية : { ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } و { ذٰلِكَ } تشير إلى أن الأمور التي تقدمت كلها ، و { لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي أنه مدبر لهم ما يحفظ حياتهم في كل حالٍ من أغيار الحياة فقد رتب سبحانه لهم حفظ الأرواح ، وحفظهم من الجوع ، وآمنهم ، وحفظ لهم السيادة ، كل ذلك بتدبيره وهو الحكيم . لقد دبر كل شيء أزلاً ، وأتت الأمور على وَفْق ما دبر من خير ومصلحة ، فإذا كان كل ذلك قد فعله سبحانه وتعالى فلأنه الأعلم والأحكم . وقد حدث كل ذلك بعلمه وحكمته ، ونؤمن أن ما لا نعرفه قد فعله وصنعه - أيضاً - بهذه الحكمة المطلقة وذلك العلم المطلق . { ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لقد رتب حياة الناس في الجزيرة وحول البيت الحرام على الرغم من أنهم قبل الرسالة كانوا يعبدون الأصنام ، ولكنه هداهم بالرسالة المحمدية . ولذلك قال : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فسبحانه جعل البيت أمنا وأماناً ، وهذا إخبار شرعي لا إخبار كوني . والفرق بين الإخبار الكوني والإخبار الشرعي أن الإخبار الكوني لا بد أن يحدث لأنه لا دخل للناس به ، أما الإخبار الشرعي فهو أمر يجب أن يقوم الناس بتنفيذه ، فإن أطاع الناس الخبر القادم من الله جعلوا البيت آمنا ، وإن أساءوا جعلوه غير آمن . وفي زماننا القريب عندما اعتدى شاب يدعى جهيمان على الحرم ، تساءل الناس : كيف يعتدي إنسان على الحرم وقد أراده الله حرماً آمناً ؟ وقلنا : إن أمر الله بجعل البيت حرماً آمنا هو أمر شرعي ينفذه المؤمنون إن أطاعوا ، وإن لم ينفذوه فهم غير مؤمنين . والمثال على الأمر الشرعي والكوني قوله الحق : { وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] . إنَّنَا نجد في الحياة خبيثاً يتزوج امرأة طيبة ، ونجد طيباً يتزوج خبيثة . وهذا يثبت لنا أن قوله الحق : { وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } هو أمر شرعي بأن نزوج الطيب طيبة مثله ، وهو واجب التنفيذ إن كنا مؤمنين بالمنهج ، أما إن خالفنا المنهج فإننا نزوج الطيب خبيثة والطيبة خبيثاً ، وبذلك يختل التكافؤ في الأسرة ، وتصير حياة المجتمع جحيماً ، ومن أجل أن نحفظ للمجتمع توازنه علينا أن نزوج الطيب للطيبة وأن نترك الخبيثة للخبيث ، حتى لا تكون حياتنا في فتنة . وينبهنا سبحانه إلى ضرورة مراعاة أوامره الشرعية فيقول لنا سبحانه : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ … } .