Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 16-16)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أنْ حدثنا سبحانه عن آياته الكونية في السماوات والأرض يُحدِّثنا عن آياته في خَلْق الإنسان ، وقد بيَّن لنا الحق سبحانه أن آيات السماوات والأرض أكبر من الآيات التي في خَلْق الناس . { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] ووعدنا سبحانه بقوله { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ … } [ فصلت : 53 ] آفاق السماوات والأرض { وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ … } [ فصلت : 53 ] . يقول سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ … } [ ق : 16 ] وأكد لهم الكلام بـ اللام وبـ قد لأنهم مُنكرون لهذه الحقيقة مُكذِّبون بها ، وهذا الإنكار جحود منهم ، لأنه سبحانه قال في موضع آخر : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] . وما دام الحق سبحانه قد قال { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ … } [ ق : 16 ] فلا يتأتى أن يقال أنه من الممكن أن يتم استنساخ الإنسان ، فالإنسان الذي يكوّن أسرة من أب وأم لا يمكن استنساخه أبداً ، إنما يستنسخه مَنْ خلقه فقط . بدليل أنه خلق آدم وأخذ منه ضلعاً جعل منه حواء ، أما أنتم فلن تستطيعوا هذا ، قد تستطيعون استنساخ نبات أو حيوان ، فإنه ليس مطلوباً من هذه الكائنات أن تكوّن أسرة . فالمطلوب من النبات أو الحيوان التكاثر فقط ، أما الإنسان فليس مطلوبا منه التكاثر فقط بل مطلوب منه القيم أيضاً ككائن في مجتمع . فالإنسان يسعى لتكوين أسرة وله مواصفات فيمن يتزوجها ، وكيف يعيش معها وكل منهما يقوم بمهمة في التربية تناسبه ، هو يكدح خارج البيت وهي تقوم بمهمتها في البيت ومهمتها أعلى وأهم من مهمته . لذلك نجد اللقيط شقياً في حياته ، لأنه ليس له أب ينسب إليه ، أما من له أب فابنه محسوب عليه ومسئول عنه أمام المجتمع ، يقوم له بأمور معيشته ودراسته ، فلو فرضنا أنه من الممكن أن يكون هناك إنسان مستنسخ فتُرى كيف تكون حياته ؟ فالله هو خالق الإنسان ومُبدعه ، والخالق هو الأعلم بمن خلق ، والأعلم بأسراره وما يصلحه { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ … } [ ق : 16 ] يعني : لا نعلم ظواهر عمله فحسب ، إنما نعلم بواطنها ، ونعلم ما يختلج في نفسه من خواطر وأفكار . { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] . الذي يعلم دقائق الأمور وخفاياها ، كالصانع يعلم دقائق صنعته ، فالساعة مثلاً حين تتعطل منك لا تعرف فيها شيئاً ، فتذهب بها إلى الساعاتي ، وبمجرد أنْ ينظر إليها يعرف مكان العطل بها ويُصلحه بحركة بسيطة جداً . فالحق سبحانه خلق الإنسان ، فالإنسان صنعته وإبداعه ، لذلك يعلم خفايا نفسه لا مجرد ظواهر عمله ، لأن ظواهر العمل معروفة للناس ، فلا مزية في معرفتها ، أما ما تُوسوس به النفس فهو أمر غيبي عن الآخرين لا يطلع أحدٌ عليه ولا يعلمه إلا الله ، وهذه من آيات الله في الأنفس { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ … } [ فصلت : 53 ] . وسمَّى الخواطر التي ترد على البال وسوسة ، وهي في الأصل صوت الحلي ، والوسوسة تكون مرة من النفس ومرة من الشيطان ، لذلك لا تكون إلا بشرٍّ ، وقد بيَّن الإمام عليٌّ الفرق بينهما حينما سأله سائل : كيف أعرف مصدر هذه الوسوسة ، أهي من النفس أم من الشيطان ؟ فقال : النفس تقف بك عند معصية بعينها لا تتزحزح عنها ، أما الشيطان فيريدك عاصياً على أيِّ صورة ، فإنّ خالفته في معصية زين لك الأخرى وهكذا حتى يوقعك . والنفس هي الأصل في الوسوسة ، لأننا لو أخذنا معصية إبليس الأولى وقلنا مَنْ وسوس له بها ؟ نفسه ، والشاعر لما نظم هذا المعنى قال : إبليس لما عصى مَنْ كان إبليسه ؟ فالمسألة إذن راجعة للنفس ، وإبليس يستغل شهوة النفس وينميها ويُزينها لصاحبها ، والعجيب أن هذه الوساوس حينما تلح على الإنسان تُغرقه في الهموم والتخيلات التي لا أساسَ لها ، فينشغل بأشياء لم تحدث يتصور أنها حدثت ، أو أحداث ماضية يعيدها من جديد . وهكذا تحاصره الهموم فتكلمه تجده ساهياً أو يمشي يُكلِّم نفسه ، والعقال هو الذي لا يترك نفسه نهباً لهذه الوساوس ، ويعلم أنه له رباً يعلم ما توسوس به نفسه . رب كريم يفرج الكروب ويزيل الهموم ، العاقل هو الذي يعلم أن ما مضى فات والمؤمل غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها . وخُلق المؤمن أنْ يكون عنده رصيد من إيمانه يعصمه ، فإنْ عزَّتْ عليه الأسباب لجأ إلى المسبِّب ، فهو أبداً لا ييأس ولا يستسلم . قلنا : لو أن رجلاً معه جنية واحد لا يملك غيره وضاع منه لا شكَّ أنه يحزن ، خاصة إذا كان غريباً مثلاً ، لكن لو ضاع منك جنيه وفي البيت عشرة ، فالحزن يكون أقلّ ، فما بالك إنْ كان معك رصيد من رب العالمين ؟ لذلك يقولون : لا كرب وأنت رب : وهذا الرصيد الإيماني رأيناه في قصة سيدنا موسى عليه السلام ، فلما ضاقت به أسبابه قال : { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . وقوله سبحانه : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] حبل الوريد عرقان في الرقبة يحملان الغذاء إلى الجسم كله ، وإذا انقطع الوريد انتهت الحياة ، والكلام هنا فيه كناية عن قُرْب الحق سبحانه من عبده ، وكأنه يقول له : أنا قريب منك وأعرف تفاصيلك ، وأعرف وسوسة نفسك .