Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 50-51)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا أمر بالفرار ، والفرار أي الهرب يكون من مخُوف يقبل عليك وأنت تخاف منه ، وتريد أنْ تنجو بنفسك منه وتفر إلى مأمن يحميك ، وهذه العملية عناصرها فارٌّ ، ومفرور منه ، ومفرور إليه . والمخاطبون هنا من الله تعالى هم عباده يقول لهم { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ … } [ الذاريات : 50 ] من أي شيء يفرون ؟ إذا كان الفرار إلى الله ، فهم يفرّون من كل ما يناقض الله ، ومن كلِّ ما يخالف شرعه ، يفرون من إبليس الذي ينازع الله في التكاليف ، يفرون من شهوات نفوسهم ، يفرون إلى الله من الأهواء والنزوات ، يفرون من العذاب إلى النعيم المقيم . إذن : معنى الفرار هنا الانتقال من شيء مخيف إلى شيء آمن ، ولن تجدوا لكم ملجأ أأمن لكم من حضن خالقكم سبحانه ، ففيه الأمن والراحة والسعادة والنعيم ، حتى العقوبة حينما يُشرِّعها على المخالفة يُشرِّعها من أجل أنْ تعودوا إليه وتفروا إلى ساحته . فهو سبحانه حريص عليكم لأنكم عباده وصنعته ، وكلُّ صانع يحرص على سلامة صنعته وحمايتها مما يتلفها . ونحن بدورنا نتعلم من ربنا تبارك وتعالى هذا الدرس فنتقن أعمالنا ، كما علَّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أنْ يُتقنه " . فإتقان الصَّنعة يزيد النغمة الإيمانية العقدية في الكون ، ويكفي أن كل مَنْ يرى صنعتك يقول : الله الله ، فتكون أنت سبباً لذكر الله ، وهذه النغمة لا يرددها الإنسان فحسب ، إنما يرددها الكون كله ويطرب لها ، فالإنسان ما هو إلا فرد في هذه المنظومة الذاكرة . إذن : { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ … } [ الذاريات : 50 ] تعلقوا بحبله ، واستمسكوا بهديه ، وكونوا في جانبه ، كونوا مع شرعه ، سيروا معه حيث سار ، كما يقولون عندنا في الفلاحين اتشعلق في ربنا وحط رجلك زي ما أنت عايز فما دُمْتَ في جنب الله فلن يضرك شيء ، وصدق القائل : @ يا رب حُبك في دمي وكياني نورٌ أغر يذوبُ في وجداني أنا لا أضام وفي رحابك عصمتي أنا لا أخافُ وفي رضاك أماني @@ وقوله تعالى : { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الذرايات : 50 ] المتكلم هنا رسول الله فهو النذير من عند الله ، وقال { نَذِيرٌ … } [ الذاريات : 50 ] لأن الفرار يناسبه الإنذار لتفرّ مما يخيفك إلى ما يُؤمِّنك . و { مُّبِينٌ } [ الذاريات : 50 ] أي : نذارتي لكم واضحة ، وحجتي بيِّنة ظاهرة . { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الذاريات : 51 ] أي : لا تتخذوا إلهاً إلا الله تأتمرون بأمره ، ومعلوم أن الذين عبدوا الأصنام أو عبدوا ما دون الله تعالى ، عبدوها لأنها لا أوامرَ لها ولا تكاليف ولا منهجَ ، لذلك كانت عبادتها باطلة . أما الله تعالى فهو الإله الحقّ الذي يستحق أنْ يُعبد وأنْ يُطاع في أمره ونهيه ، والنهي في { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ . . } [ الذاريات : 51 ] متعلق بالأمر في { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ … } [ الذاريات : 50 ] حيث لا إله غيره ، ولا ملجأ لكم إلا هو . وهذا هو الدين الحق الذي ارتضته الفطْرة السليمة منذ كُنَّا في مرحلة الذر ، وأخذ الله علينا هذا العهد { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ … } [ الأعراف : 172 ] . وما شذَّ الخَلْق عن هذا العهد إلا بسبب الغفلة أو وسوسة الشيطان ونزغات وشهوات النفوس ، وما عبد الكفارُ الأصنام إلا لإرضاء فطرة التدين فيهم ، عبدوها تديناً بها إرضاء للفطرة ، وارتياحاً لعدم التبعة لأنها لا أمر لها ، ولا نهي . وعلى العاقل قبل أنْ يقدم على العمل أنْ يستحضر عواقبه والجزاء عليه ، فحينما يُقبل على المعصية يتصوَّر العذاب الذي ينتظره عليها ، وحينما يكسل عن الطاعة يتصوَّر النعيم الذي أُعِدّ له ، ولو فعل الناسُ ذلك ونظروا في العواقب لفرُّوا من المعصية إلى الطاعة .