Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 52, Ayat: 17-19)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذِكْر المتقابلات سمة من سمات الأسلوب القرآني ، ومظهر من مظاهر عظمته ، فكما قلنا : الضد يظهر حُسْنه الضد ، لذلك كثيراً ما نقرأ هذه المتقابلات كما في قوله سبحانه : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] . وهنا بعد أنْ تكلَّم عن الكافرين وجزائهم في جهنم والعياذ بالله يُحدِّثنا سبحانه عن المتقين وما ينتظرهم من النعيم . فساعة نقرأ هذه الآيات ونستحضر الصورتين المتقابلتين يقول المؤمن : الحمد لله أن إيماني أنقذني من هذا المصير المخزي . ويقول الكافر : يا حسرتي لقد أبعدني الكفر وحرمني هذا النعيم . فالمقابلة تُفرح المؤمن وتُحزن الكافر ، تُعِز المؤمن وتُذل الكافر ، لذلك قال تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ … } [ آل عمران : 185 ] . وقوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ … } [ الطور : 17 ] معنى التقوى أنْ تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ، وقلنا : إن الحق سبحانه قال : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ … } [ البقرة : 278 ] وقال : { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ … } [ البقرة : 24 ] والمعنى واحد هو أنْ تجعلَ بينك وبين صفات الجلال لله وقاية ، وحين تقي نفسك من النار فإنك تقي نفسك من الله ، لأنها جُند من جنود الله . وتلاحظ هنا { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } [ الطور : 17 ] المتقين جمع وجنات جمع . وهذا يعني أن لكلِّ مُتَّق جنة خاصة به ، كما لو قلنا للتلاميذ : أخرجوا كتبكم . أي : ليُخرج كلُّ واحد منكم كتابه ، فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً . لذلك قلنا في آية الرحمن : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فكيف نجمع بينهما ؟ قالوا : جنتان ، لأن الحديث هنا عن الإنس والجن الثقلان { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } [ الرحمن : 31 ] . فالمراد : مَنْ خاف مقام ربه من الجن له جنة ، ومن خاف مقام ربه من الإنس له جنة . وحرف الجر { فِي جَنَّاتٍ … } [ الطور : 17 ] يعني : أن الجنات ظرف والمتقين مظروف ، الجنة محيطة بالمتقي ، ثم قال : { وَنَعِيمٍ } [ الطور : 17 ] لأن مَنْ في الجنة ليس بالضرورة أنْ يكون في نعيم . كما نرى مثلاً الباشا يجلس في حديقة منزله ، وفيها الأشجار والزهور والثمار ، وعنده العامل يقصف الأشجار يُقلِّمها ويرويها ، فالحديقة نعيم فقط لصحابها ، لكنها لستْ نعيماً لمَنْ يعمل فيها . أما هؤلاء المتقون فهم في جنات وفي نعيم ، فهم يتنعَّمون فيها ، لذلك أكّد الحق سبحانه هذا المعنى ، فقال بعدها : { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ … } [ الطور : 18 ] أي : فاكهين بما هم فيه من النعيم ، وفاكهين يعني : فرحين . هذه إضافة أخرى لأن الإنسان قد يكون في جنة وفي نعيم لكنه غير فرح بما هو فيه . وهذه المسألة رأيناها مثلاً في مصر بعد الثورة ، حيث رأينا الباشا فلان عنده الحدائق والبساتين وفيها ألوان الفاكهة والثمار ويأكل منها ، لكنه غير فرح بها ويُنغِّصها عليه خوفُ التأميم ، لأنهم كانوا يأخذون الأرض منهم ويُؤممونها للدولة ، فهو في جنة ، وفي نعيم ، لكنه غير فاكه بها . ومعنى { بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ … } [ الطور : 18 ] أي : بالمسبِّب لا بالأسباب . فالمتقون في جنات وفي نعيم وهم فرحون به فاكهون بما آتاهم ربهم ، وفوق ذلك وقبله : { وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [ الطور : 18 ] وهذا من تمام النعمة ، فيمكن بعد أنْ يدخل الجنة يخاف أنْ يخرج منها النار . فيقول له : لا لأن الذي يدخلها يبقى فيها لا يخرج منها ، أو وقاهم عذاب الجحيم بداية قبل أنْ يدخلوا الجنة كما قال سبحانه : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ … } [ آل عمران : 185 ] . وقوله تعالى : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 19 ] وفي آية آخرى قال تعالى : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] أي : في الجنة كلوا منها واشربوا هنيئاً مريئاً . فالهنيء هو الطعام أو الشراب تتناوله فتجد له طعماً ولذة تمتعك لحظة تأكل أو تشرب ، لكن ربما أحسسْتَ بعدها بآثار غير مرغوب فيها ، كأنَّ بعده حموضة في المعدة مثلاً أو غازات وانتفاخات وغير ذلك . فهو إذن هنيء لكن ليس مريئاً ، فالله يصف طعام الجنة وشرابها بأنه هنيء ومريء . يعني : يمري عليك ولا تجد له آثاراً ضارة . وإنْ كان طعام الجنة وشرابها ليس فيه شيء من هذا لأن الإنسان هناك لا يأكل عن جوع ، بل يأكل تفكُّهاً ، وحتى لو لم يأكل لا فرق . ثم يذكر سبحانه ألواناً أخرى من ألوان النعيم .