Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 3-6)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات امتداد لجواب القسم { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [ النجم : 2 ] وهنا يقسم الحق على صفة أخرى لسيدنا رسول الله { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النجم : 3 ] النطق هو القول ، أي ما يقول عن هواه ، ولا يأتي بشيء من عنده ولا باجتهاده . { إِنْ هُوَ … } [ النجم : 4 ] أي : ما هو والمراد القرآن الكريم الذي نطق به محمد { إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 4 ] أي : من عند الله ، وهذا أسلوب قصر : ما القرآن إلا وحي وليس شيئاً آخر . { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [ النجم : 5 ] الذي علّمه محمداً وأوحاه إليه { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [ النجم : 5 ] وهو أمين الوحي جبريل عليه السلام . والقُوَى جمع قوة ، فله قُوى متعددة تناسب مهمته ، له قوة ذكاء في الاستقبال ، وقوة في الحفظ . وقوة في الإرسال والإلقاء ، وليس لديه هوى يغير ما جاءه ولا خيانة ولا كذب . وهذه الصفات هي التي حمتْ القرآن من التغيير كما غُيِّرتْ الكتب السابقة . وقد حكى الله تعالى عن أهل الكتاب : { يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً … } [ البقرة : 79 ] . وكلمة { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [ النجم : 5 ] فسَّرها في آيات أخرى فقال ، حتى قبل نزول القرآن : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [ الواقعة : 77 - 79 ] . وقال : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] ، وقال : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 20 - 21 ] هذه كلُّها صفات جُمعَتْ لجبريل عليه السلام . وهنا قال : { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } [ النجم : 6 ] أي صاحب مِرَّة وهي القوة في كل ما يتناوله ، وهي الدقة التي لا تخطئ ، والمرَّة صفة تقوى الشيء ، تروْنَ الحبل مثلاً عندما يُفتل يكون فَتْله مناسباً لمهمته ، فحبل الغسيل مثلاً غير الحبل الذي يُشدُّ به شراع المراكب . كذلك مهمة سيدنا جبريل مع سيدنا محمد ، أنْ يؤدي هذه المهمة بقوة ودقة وذكاء بحيث يأتي رسول الله بصورة مقبولة لا تُرد ، صورة فيها تشويق لتلقِّي الوحي ولا تردها طبيعة محمد البشرية ، كذلك كان للكلام حلاوة لأنه كلام الله ليس كلام البشر ، وله ظواهر تدل عليه وعلى مصدره الإلهي . وأول ما جاء الوحيُ رسولَ الله أجهده ، لأنها المرة الأولى التي تلتقي فيها الطبيعة البشرية بالطبيعة الملائكية ، لذلك تصبَّب عرقاً وبرد وقال : زملوني دثروني ، إذن : أثّر في جسده ونفسه ، حتى أنه خاف أنْ يكون ما حدث له شيئاً من مسِّ الشيطان . ولما أخبر السيدة خديجة بالأمر وكان لها فطنة في هذه المسألة فقالت له : عندما يأتيك أخبرني ، فلما جاءه الوحي أخبرها فجلستْ على ركبته وقالت : أتراه ؟ قال : نعم ، فكشفتْ عن صدرها وقالت : أتراه ؟ قال : لا ، قالت : إذن هو مَلَك وليس شيطاناً . وتأمل هنا حصافة السيدة خديجة وما تتمتع به من فقه قبل نزول الإسلام ، وكأنَّ الحق سبحانه أعدَّ للإسلام أناساً من الرجال والنساء يستقبلون خبره الأول ويؤيدونه ويُصدِّقونه دون أنْ ينتظروا معجزة يرونها ليصدِّقوه ، لأن معجزة رسول الله عندهم كائنة في شخصه وفي سيرته بينهم ، معجزته بالنسبة لهم في صدقه وأمانته وكرمه ومروءته . ويكفي أنْ نذكر في هذا المقام موقف الصِّديق لما قالوا له : إن صاحبك يدَّعي أنه نبيٌّ ويُوحى إليه ، فقال الصِّدِّيق وكان عائداً من سفر : إنْ كان قال فقد صدق ، إذن : دليل صدقه في نظر الصديق أن يقول ، مجرد أن يقول يكفي قوله ليصدق . وهذا المعنى واضح في قوله سبحانه : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ … } [ الفتح : 29 ] يعني : يكفي في تعريفه أنه محمد الذي تعرفونه هو رسول الله ، فمنزلة رسول الله بين قومه لا تحتاج إلى وصف ولا إلى تعريف فوق ذلك . وكان المنتظر منهم أنْ يقولوا : ومن أوْلَى بالرسالة منه ، لكنهم قالوا كما حكى القرآن { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . ومن معاني { ذُو مِرَّةٍ … } [ النجم : 6 ] أي : صاحب الخُلق الحسن والمنظر الحسن الجميل ، فكان يأتي رسول الله بالمنظر الحسن الذي يحبه ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب النظر إلى دحية الكلبي فكان يأتي على صورته . إذن : معنى { ذُو مِرَّةٍ … } [ النجم : 6 ] أي : فيه كل الصفات الطيبة التي تجعله مقبولاً غير مردود ، وهو موصوف مع ذلك بالقوة ، فلما ظهر لرسول الله بصورته الحقيقية ظهر في صورة طائر جميل له أجنحة . كما قال تعالى : { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ … } [ فاطر : 1 ] ويكفي في بيان قوته أنه ضرب قرى لوط بريشة واحدة من جناحه فدكها وجعل عاليها سافلها . وما أدراك بمَنْ { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [ النجم : 5 ] فالتعلّم يشرُف بشرف المعلم ، كما نرى مثلاً خطيباً مُفوَّهاً لا يلحن في خطبته لحناً واحداً ، فنقول : نعم فالذي درس له فلان . كذلك الذي علَّم رسول الله هو جبريل بكلِّ ما عنده من صفات القوة والذكاء والأمانة والصدق … { ذُو مِرَّةٍ … } [ النجم : 6 ] . ومعنى { فَٱسْتَوَىٰ } [ النجم : 6 ] علَّمه جبريل حتى استوى رسول الله ونضج في عملية التحصيل الكافي لهداية العالم ، فحمَّله هذه المهمة ليهدي الناس ، ومنه قوله تعالى في سيدنا موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [ القصص : 14 ] . لكن كان الوحي في أوله يثقل على رسول الله كما قال سبحانه : { سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] فأراد الحق سبحانه أنْ يريح رسوله من هذا التعب ليعطيه الفرصة ليتذوق حلاوة ما ألقى إليه ويشتاق إليه من جديد ، فيكون الوحي أخفَّ على قلبه وتهون عليه معاناته . ومعلوم أن الإنسان عادة يتحمل المشاق في سبيل ما يحب ، لذلك لما فتر الوحي عن رسول الله ستة أشهر ، فأخذها أعداء الدعوة فرصة وقالوا : إن رب محمد قلاه ، سبحان الله ، الآن وفي المصيبة يعترفون برب محمد . لذلك ردّ الله عليهم { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [ الضحى : 1 - 5 ] . أي : ما ودعك ربك يا محمد وما قلاك ، إنما أراد لك أنْ ترتاح . ثم أعطاه مثالاً من واقع حركة الكون ، فما أنت بالنسبة للوحي إلا مثل الضحى والليل ، فالضحى للعمل ، والليل للراحة ، ثم يعاود من جديد لتقبل عليه في نشاط وقوة ، كذلك الوحي سيعاودك وسيكون أحبّ إليك وأيسر عليك ، وستكون الآخرة خيراً لك من الأولى . ثم إن كلمة الوداع { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 3 ] تدل في ذاتها على المحبة ، فلم يقُل هجرك مثلاً إنما ودَّعك ، والوداع يكون على أمل اللقاء كما يودع الحبيب حبيبه عند سفره .