Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 100-100)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ومادة الجن هي " الجيم " و " النون " وكلها تدل على الستر والتغطية والتغليف ، ومنها الجنون ، لأن العقل في هذه الحالة يكون مستوراً ، ونحن لا نرى الجن ، فهم مستورون ، والملائكة كذلك ، والمادة كلها مادة " الجيم " و " النون " تدل على اللف والتغطية . { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } و " الجن " هو الخفي من كل شيء ، والجن - كما تعلمون - هم خلق من خلق الله فسبحانه خلق الإنس وخلق الجن ، خلق الجن مستوراً حتى لا نعتقد أن خلق الله لحي كائن ، يجب أن يتمثل في هذا القالب المادي ، بل سبحانه يخلق ما شاء وكما شاء ، فيخلق أشياء مستورة لا تُرى ، ولها حياة ، ولها تناسل ، ويخلق أشياء مستورة ، ولا تناسل لها : كل ذلك بطلاقة قدرة الحق سبحانه ، ليقرب لنا هذه القضية لأن عقولنا قد تقف في بعض الأشياء التي لا تدرك ولا ترى لأننا لا نعلم وجوداً لشيء إلا إذا أحسسناه . إن الحق سبحانه يوضح ذلك . فإياك أن تظن أنك تستطيع أن تدرك كل ما خلقه الله ، فليس حسك هو الوسيلة الوحيدة للإدراك لأن حسك له قوانين تضبطه ، فأنت ترى ، ولكنك ترى بقانون ، بحيث إذا بعد المرئي عنك امتداداً فوق امتداد بصرك فلا تراه وكذلك أذنك تسمع ، فإن بعد الصوت أو مصدر الصوت عنك بحيث لا تصل الذبذبة إليك ، فلا تسمع ، كذلك عقلك ، قد تفهم أشياء ولا تفهم أشياء أخرى ، ثم ضرب لنا في وجودنا المادي أمثالاً تقرب لنا ذلك الخلق الخفي من الجن ومن الملائكة . لقد وجدنا العقل البشري قد هداه الله الذي قدر فهدى ، إلى أن يكتشف شيئاً اسمه " الميكروب " و " الميكروب " كائن حي دقيق جداً بحيث إن البصر العادي لا يدركه ، ولكنه كان موجوداً ، وفعل الأفاعيل في الناس ودخل في أجسامهم دون أن يشعروا كيف دخل وعمل فيهم وفي صحتهم ما عمل من الهلاك والموت مثل أمراض الطاعون والكوليرا وغيرها ، ومع ذلك فالميكروب كان موجوداً ومن جنس وجودنا ، أي هو مادة وله حياة وله فعل ، وله نفوذ في الهيكل الذي يدرك وهو الإنسان . وهكذا رأينا أن شيئاً خفياً لا يدرك ويهدد إنساناً ضخماً يدرك ، فهل معنى اكتشاف الميكروب أننا أوجدناه ؟ لا ، إن وجود الميكروب شيء ، وإدراك وجوده شيء آخر ، وإذا حللنا " الميكروب " نجد أنه مادة الإنسان ولكنه دقيق جداً حتى إن العين المجردة لا تراه ، فلما اكتشف المجهر وكبرناه عرفناه ، وهذا الكائن الحي إن كنت لا تراه ، فعدم رؤيتك له سابقاً لا تعني أنه غير موجود ، بل هو موجود ولكنك لم تدركه ، ثم اكتشفت - أيها الإنسان - آلة جعلتك تدركه ، ولنعرف أن وجود شيء لا يعني أنك من الضروري أن تدركه ، فإذا قال الله لك : لي ملائكة من خلقي ، ولي جن من خلقي ، ولكنكم لا ترونهم وهم يرونكم ، نقول : صدقت يا ربي ، لأن شيئاً من جنس مادتنا كان موجوداً ولا نراه ثم بعد ذلك رأيناه . إذن فالأشياء التي نكتشفها الآن هي دليل على صدق البلاغ القرآني بما أخبر به من الأمور الغيبية ، الجن مستور ، والمادة كلها - كما بينا - تدل على الستر ، فالجنون غياب العقل ، وجن الليل ، أي ستر وغطى ، والجنّة لأن فيها أشجاراً وغير ذلك بحيث لا يظهر الذي يسير فيها فتكون ساترة لمن يدخلها . إذن المادة كلها تدل على الستر ، وهل الذي نتعجب منه أنهم جعلوا الجن شركاء ، أو أن التعجيب ليس من جعل الجن شركاء بل من اتخاذ مبدأ الشركاء ، سواء أكان جناً أم غير جن ، إن التعجيب هنا من المبدأ نفسه ، فنحن لا نعترض فقط على أن الجن شركاء ، بل نحن نعترض على المبدأ نفسه ، أن يكون لله شريك من جن أو من ملائكة أو من غير ذلك ، ولهذا قدم المجعول - وهو الشريك - على المجعول منه - وهو الجن - مع أن العادة أن يقدم المجعول منه على المجعول ، فتقول جعلت الطين إبريقاً أي : أن الطين كان موجوداً ، وأخذت منه الذي لم يكن موجوداً وهو الإبريق . ثم هل كان الشركاء موجودين وطرأ الجن عليهم ؟ أو كان الجن موجوداً وطرأ الشركاء عليهم ؟ في هذه الحالة كان يجب القول : وجعلوا الجن لله شركاء ، إذن فالعجيبة ليس في أن يكون الجن شركاء ، العجيبة في المبدأ نفسه ، وكيف ترد فكرة الشركاء على أذهانهم سواء أكان الشركاء من الجن أم من غير ذلك ، ولهذا قال سبحانه : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } وساعة تسمعها تقول : أعوذ بالله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } ! ! ولا يهمك من هم الشركاء لأن مطلق مجيء شريك لله هو الأمر العجيب ، سواء كان من الجن أم من الملائكة وكيف جعلوا الجن شركاء ؟ ألم يقل الحق في كتابه إن إبراهيم قال : { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] . وما هي العبادة ؟ العبادة هي أن يطيع العابد المعبود فيما يأمره به ، وما داموا يطيعون الشياطين في وسوستهم فكأنهم عبدوهم ، ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] . فقالت الملائكة : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] . وكيف كانوا يعبدون الجن ؟ إنهم كانوا يطيعونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه لأن العبادة هي الطاعة ، وأنت أيها العابد لا تقترح العبادة بل تنظر فيما طلب منك أن تتقرب به إلى المعبود ، إذن " افعل ولا تفعل " هي الأصل . { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } ولماذا جاءوا لله بشركاء ؟ لماذا لم يعبدوهم وحدهم ويستبعدوا الله من العبادة ؟ لأن وجود شريك دليل على الاعتراف بالله أيضاً فلماذا جعلوا له شركاء ؟ ولماذا لم يلحدوا وينكروا ويكفروا بالله وتنتهي المسألة ؟ لا . لم يفعلوا ذلك لأنهم رأوا أن الشركاء ليس لهم مطلوبات تعبدية وحين عبدوها - مثلاً - لم تقل لهم " افعلوا " و " لا تفعلوا " وليس هناك منهج لاتباعه ، لكن أحداثاً فوق أسبابهم ولا يستطيعون لها دفعاً قد تحدث فلمن يجأرون ؟ أللآهة التي يعتقدون كذبها وبهتانها وأنها لا تنفع ولا تضر ؟ لذلك احتفظوا باعترافهم بالله ليلجأوا إليه فيما لا يقدرون على دفعه لا هم ولا من اتخذوهم شركاء ، ولذلك يقول الحق : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ } [ يونس : 12 ] . كأنه يريد عبادة الله للمصلحة فقط . { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } . ومن العجيب - إذن - أنهم جعلوا لله شركاء ، مع أن الله هو الذي خلق العابد والمعبود ، والتعجيب من أمرين اثنين : أن يجعلوا شركاء لله من الجن أو من الملائكة ، والعجيبة الأخرى أنه { خَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وما معنى خرقوا له ؟ معناها أنهم اختلقوا لأن الخرق إيجاد فجوة في الشيء المستوى على قانون السلامة ، ولذلك قال في السفينة : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } [ الكهف : 71 ] . وخرقوا له . أي عملوا خرقاً في الشيء السليم الذي تأبى الفطرة أن يكون . { وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } [ الأنعام : 100 ] . أما القسم الذي ادّعى أن لله البنين فهم أهل الكتاب إنهم قالوا ذلك : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 30 ] . أما من جعلوا لله البنات ، فهم بعض العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله . { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً } [ الإسراء : 40 ] . وقال سبحانه : { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ الصافات : 153 - 154 ] . وسبحانه القائل : { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [ النجم : 21 - 22 ] . وهناك من العرب من جعل بين الله وبين الجن صلة نسب مصداقاً لقول الحق : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] . لقد افتروا على الحق وادّعو أن اتصالاً تم بين الله وبين الجنَّة فخلقت وولدت الملائكة . { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] . ولماذا يقول الحق : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } لأن العلم يؤدي إلى النقيض ، فالعلم قضية استقرائية معتقدة واقعة يقام عليها الدليل ، وهذا شيء لا واقع له ، ولا يمكن أن يوجد عليه دليل لذلك فهو قول بغير علم بل هو بجهل . هي إذن جهالة بأن يصدقوا في حاجة وأنها واقعة وهي ليست واقعة ، ولا يقام عليها دليل لأنها غير موجودة ، ولو استقام الدليل عندهم بفطرتهم المستقبلة لأدلة البيان وأدلة الكون لتبرأوا مما اعتقدوا ، ولرفضوا أن يتخذوا لله شركاء . وقد عرض الحق قضية طرأت على الأفكار المشوشة وقالوا : " شركاء " فقال : " سبحانه " ، أي تنزيهاً له عن الشرك في الذات وفي الصفات ، وفي الأفعال لأن ذاته ليست ككل الذوات ، وأفعاله ليست ككل الأفعال ، وصفاته ليست ككل الصفات ، ولذلك تأتي " سبحانه " في كل أمر يناقض نواميس الكون الموجودة . وخذ كل أمر يتعلق بالإله الحق في إطار " سبحانه " . ولذلك حينما جاء بالإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به في ليلة واحدة وكان ذلك أمراً عجيباً ، أمرنا الحق أن نتقبلها في إطار قوله الحق : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [ الإسراء : 1 ] . إن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يقل : أنا سَرَيت من مكة إلى بيت المقدس ، إنما قال : " أُسْرِي بي " ، وما دام قد أسري به فالقانون في الإسراء هو قانون الحق سبحانه . فخذها في إطار سبحانه ، وهو القائل : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } [ يس : 36 ] . ثم يأتي بما هو أوسع من إدراكك فيقول : { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] . كأننا سوف نعلم فيما بعد أشياء فيها زوجية ، وقد أزاح الكشف العلمي في القرن العشرين بعضاً من ذلك ، فعرفنا الموجب والسالب في الكهرباء والالكترونات ، وقوله : { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] يفسح المجال لقضايا الكون التي تحدث بنشاطات العقول المكتشفة . { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] . فـ سبحانه تنزيها له وتقديسا عن أن يقاس بالكائن الموجود . تعالى اسمه ، وتعالت ذاته ، وتعالت صفاته وأفعاله { عَمَّا يَصِفُونَ } بأوصاف لا تليق بذاته . وبعد ذلك يقول الحق : { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } .