Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 124-124)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكأن الآية التي أرسلها الله مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلاغ عن الله لم تقنعهم ، ولم يكتفوا بها ، بل طالبوا بآيات أخرى ، فهم قد قالوا : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً } [ الإسراء : 90 - 92 ] . هم لا يريدون أن يؤمنوا بل إنهم يدخلون في اللجاج ، والتماس سبل الفرار من الإيمان لذلك تجد أن كل الحجج التي وقفوا بها أمام دعوة الرسول هي أكاذيب فقالوا إنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه ، وبين الولد وأبيه ، ويُدخل بما جاء به - ويزعم أنه من عند الله - الفتنة في الأسرة الواحدة . لكن لماذا لم يتساءلوا : ما دام قد سحر غيرنا فلماذا لم يسحرنا ؟ . وهل تأبوا هم على السحر ؟ . وهل للمسحور رغبة أو خيار مع الساحر ؟ . إنهم في ذلك كاذبون . ثم قالوا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم شاعر . ولو أن أحداً غيرهم قال مثل هذا الكلام لكان مقبولاً لأنه يجهل رسول الله ، ولأنه ليس من قوم هم أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل بيان ، إنهم يعرفون الشعر ، والنثر ، والخطابة والكتابة . فلو كان هذا الأمر من غيرهم لكان القول مقبولاً ، ولذلك نجد منهم من تصفو نفسه يقول : والله ما هو بقول كاهن ولا بقول شاعر . ويطلب الحق منهم ألا يقولوا رأياً جماهيرياً ففي الرأي الجماهيري يختلط ويلتبس الحق بالباطل . بل كان يطلب منهم أن يكون الكلام محدداً بحيث تنسب كل كلمة إلى قائلها فيقول الحق : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ … } [ سبأ : 46 ] . أي لا تأتوا في أثناء هياج الناس وتتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون لأن قولكم في الهياج الجماهيري غير محسوب على أحد لكن المطلوب أن تقوموا لله مثنى أي اثنين اثنين ، وكل اثنين يقولان : هيا بنا نستعرض أمر هذا الرسول ونرى قضاياه : أهو كاهن ؟ . أهو ساحر ؟ . أهوشاعر ؟ فبين الاثنين لا يضيع الحق أبداً لأن كلاً منهما يناقش الآخر ، وحين يجلس اثنان للنقاش ، إذا انهزم منهما واحد أمام الآخر لا يُفضح أمام الغير ، لكن حين يتناقش ثلاثة أو أربعة فكل منهم يخاف أن ينهزم أمام غيره ، ونجد كل واحد يدافع عن نفسه . ولذلك حين يجلس اثنان معاً ليتناقشا ، ويبحثا أي أمر لا يخشى أحدهما الهزيمة لذلك يأتي الأمر من الله أن يقوموا لله مثنى أو فرادى ، ويتذكر كل واحد منهم أمر هذا الرسول : أهو مجنون ؟ . إن أفعال المجنون وأعماله تكون متقطعة غير مستقيمة . ومحمد على خلق عظيم ، وهل يقال للمجنون : إنه على خلق عظيم ؟ لأن الإِنسان منا لا يعرف كيف سيقابله المجنون ، أيضربه ، أيشتمه ، أيقطع له ملابسه ؟ . أمّا الخلق العظيم فمعناه الخلق المضبوطة بالقيم ، وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مضبوط بالقيم حتى صار ملكة وليس أمراً افتعالياً . وحين يقول الناس عن إنسان إن خلقه الكرم أي قد تأصلت فيه صفة الكرم تأصلاً بحيث أصبحت تصدر عنه أفعال البذل بيسر وسهولة ، وفي أعمال المعاني نسميها خلقاً ، وفي أعمال المادة نسميها آلية . وكلنا يعرف أن الإِنسان إن أراد أن يتعلم قيادة سيارة فهو يتعلم قيادة الأفعال التي تؤدي إلى سير السيارة حتى يكتسب المهارة ويؤديها بيسر وبدون صعوبة ، وكذلك الشأن في الخلق حين تصدر عنه الأفعال بدُربة ومهارة ، ونجد - على سبيل المثال - من يتعلم الفقه ، فيسأل إنسان عن الحكم في الأمر المعين ، فيستعرض الأمر من أوجهه في وقت طويل ، لكن من يتدرب يصبح الفقه بالنسبة إليه ملكة ، فلا يتعب في استنباط الحكم . كذلك الخلق . ويوضح لهم الحق : أنتم تقولون عن الرسول : إنه مجنون ، فاجلسوا مثنى مثنى أو فرادى وادرسوا تصرفاته ستجدون أنها تصرفات منطقية مبنية على خلق كامل مكتمل ، وهو سلوك يختلف بالتأكيد عن سلوك المجنون لأن المجنون لا ضابط له في حركاته ولا في سكناته ولا فيما يدع . وكذلك لا يمكن أن يكون شاعراً لأنكم أنتم أهل شعر ، وكذلك ليس بكاهن فالكهنة قد يستبدلون بآيات الله ثمناً قليلاً ، وهو الذي أعلن لكم رفض الملك والثروة والجاه . لكنهم قالوا : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ … } [ الأنعام : 124 ] . وقد حدث الوليد بن المغيرة نفسه بذلك ، وكان من ناحية السن أسنّ من رسول الله ، ومن ناحية المال كان غنياً ، ومن ناحية الأولاد عنده العزوة والولد ، وقال : لو كانت الرسالة بكل هذه الأمور لكنت أنا أولى بهذا لأنني أسنّ ولأنني أكثر مالاً ولأنني أكثر ولداً . وهو قد قاسها بمقاييس البشر ، وكأن الوليد لم يكن يعلم أن الرسالة ليست رئاسة ، فإذا كنت أنت دون غيرك عندك المال وعندك الأولاد وعندك الزروع وغير ذلك لكنك لست على خلق محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي فطره الله عليه وأعده واصطفاه ليكون رسولاً ، ولكن مع هذا قال بعضهم : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . ولنسمع رد القرآن : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ … } [ الزخرف : 32 ] . ويوضح لهم الحق : نحن قسمنا بينهم الأمور الحياتية ، لكنكم تريدون تقسيم رحمة الله ، وفرق بين الرحمة في الرسالات وبين امتداد الحياة بالأقوات والمال لأن هذه عطاءات ربوبية . لكن الرحمة هي عطاءات ألوهية ، إنكم تميزتهم في دنياكم بالمال والبنين والبساتين لا لخصوصية فيكم ولكن لأن نظام الكون كله إنما يحتاج إلى مواهب متكاملة لا إلى مواهب متكررة ، ولو امتلك كل الناس مثل ما عندك يا وليد من أرض ومال لما وجدت من يفلح لك الأرض ، ولما كان عندك من يسرج لك الفرس . ولهذا جعل الحق مسألة الثروة دولاً ، أي يقلب سبحانه هذه الأمور لتكون متداولة بين الناس تكون لهذا في زمن ولآخر في وقت وزمن آخر ولا تدوم لأحد . وحين جاء الناس إلى أبي جهل يحدثونه في الرسالة قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا ، كسوا فكسونا ، ذبحوا فذبحنا . حتى صرنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً الا أن يأتينا بوحي كما يأتيه ، ومعنى كفرسي رهان ، أي فحين تنطلق الخيل في السباق في وقت واحد كانوا يدقون عوداً في الأرض عند نهاية السباق ومن يجذبه من الأرض يقال له : حاز قصب السبق ، وعود القصبة هو غاية المشوار ، حتى لا يقولن أحد لقد سبقني بخطوة أو غير ذلك . وهنا يقول الحق : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ } . وانظر إلى كلمة { جَآءَتْهُمْ آيَةٌ } ، فمرة يقول : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } [ طه : 47 ] ، ومرة يقول : { جَآءَتْهُمْ آيَةٌ } ، فكأن الآية بلغت من وضوحها ومن استقلالها ومن ذاتيتها وخصوصيتها أنها تجيء . { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ … } [ الأنعام : 124 ] . ويقول الله لهم رداً عليهم : لا تقترحوا ذلك على الله لأن { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } لأن الرسالة إنما تجيء لتنشر خيراً في الجميع ، ولكنها تعف نفسها عن آثار الانتفاع من ذلك الخير . والخير يريد أن تأتي له الخير ثم يترك بعضاً من الخير للناس . والرسول قد جاء لينشر خيره للآخرين ، وهو نفسه لا ينال من هذا الخير إلا البلاغ به . ويأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت ألا يأخذ أهله الزكاة ، أمّا ما تركه فقد صار صدقة للناس ، أي أنه لم ينتفع به في الدنيا لذلك هو مأمون على الرسالة ، ولم يُرد أن يأخذ الدنيا ليرثها أهله من بعده . وقد أراده الله كذلك ليكون خيره لكل الناس . فالرسالة تكليف ، والنبوة ليس جزاؤها هنا ، بل من عظمة الجزاء أنه في الآخرة ، " ولذلك حينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة وقالوا : اشترط لنفسك . قال : تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وتعملون كذا وتعملون كذا . " قالوا له : فما لنا ؟ أنت اشترطت لنفسك ، فما لنا إن نحن وفينا ؟ . ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ . قال : لكم الجنة . هذا هو الثمن الذي عنده ، فمن يريد الجنة يأتي إلى الإيمان ، ومن يريد ما هو دون الجنة فليس مكانه مع أهل الإيمان . مع أنه قال لهم فيما بعد ستركبون السفن وتفرشون الزرابي والوسائد وتجلسون عليها ، وبشرهم بالكثير ، لكنه لم يقل لهم ذلك من البداية لأن من هؤلاء من لا يدرك خيراً في الدنيا مع الإسلام بل يموت والإسلام ضعيف وأتباعه في قلة ، لذلك أعطاهم الجزاء المضمون لهم جميعاً حين قالوا له : ماذا إن نحن وَفَّيْنا ؟ . قال : لكم الجنة . وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الدنيا أهون من أن تكون جزاءً على العمل الصالح ، فجزاء العمل الصالح خالد لا يفوتك ولا تفوته . { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ … } [ الأنعام : 124 ] . وحين نتأمل قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ } نجد أن في هذا القول إصراراً على عدم الإيمان ، أي لن نؤمن حتى في المستقبل إنهم تحكموا في المستقبل . ثم يفضحهم الله فيموت بعضهم على الكفر ، ومن بقي منهم يأتون مؤمنين بعد الفتح . ومن العجيب أن العبارة التي ينطقون بها هي عبارة مهزوزة لا تستقيم مع منطق الكفر منهم ، قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ، كأنهم قد عرفوا أن هناك رسلاً من الله ، والأصل في الآية أن يؤمنوا برسل الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ، وهذا القول يدل على مجرد المعارضة المقترنة بالغباء ، فما دمتم تعرفون أن لله رسلاً يصطفيهم ، فكيف تحاولون أنتم تحديد إرادة الله في الاختيار ؟ إن رسل الله كانت لهم آيات كونية ، حسيّة مرئية ، وهي وإن كانت فيها قوة المشهد الملزم ، إلا إنه لا ديمومة لها ، فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب هذه الآية الكونية ، إلا أنها أصبحت خبراً والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى ، كذلك رسالة عيسى عليه السلام حيث أبرأ الأكمة والأبرص بإذن الله . وهذه رسالات لزمن محدود وفي قوم محدودين ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ومعه المنهج المعجزة الباقي إلى قيام الساعة ، فإن كانت المعجزة حسيّة فلن يراها إلا قوم مخصوصون لأن الأمر الحسّي لا يتكرر ، بل ينتهي ، وسيدنا محمد رسول إلى أن تقوم الساعة . فلابد له من آية باقية إلى قيام الساعة لذلك كانت الآية في المعنويات والعقليات التي لا تختلف فيها الأمم ولا تختلف فيها الأزمان ، لكنهم أرادوا معجزة حسيّة ، وأخرى عقلية ، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية ، فحسم الحق الأمر وقال : { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } . ولو نظروا إلى كلمة { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ، فكلمة { أَعْلَمُ } تدل على أنه قد يمكّن الله بعضاً من خلقه ليعلموا لماذا اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم لأن الذين واجههم صلى الله عليه وسلم بأمر الدعوة ، هل انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة ، أو آمنوا به بمجرد الإخبار ؟ . لقد آمنوا بمجرد الإخبار لأن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الأرض ، ولا بد أن يكون مأموناً على خبر السماء لأنه لم يكذب عليهم في أمر الأرض ، فكيف يكذب في أمر السماء ؟ إننا نجد أن سيدنا أبا بكر ، بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال : صدقت ، وسيدتنا خديجة صدقته من فور أن قال ، وأخذت صدق بلاغه من مقدمات حياته ، وقالت أول استنباط فقهي في الإسلام . وكذا ذلك لسيدتنا أم المؤمنين خديجة قبل أن يعرف الفقه بمعناه الإصطلاحي الحديث ، مما يدل على أن الاستنباطات للأدلة هي استنباطات للعقل الفطري السليم البعيد عن الأهواء . إنّه يقدر أن يستقرئ الأمر ولابد أن يهتدي ، فحين أعلن لها أنه خائف أن يكون الذي أصابه مرض أو مسٌّ من الجن رفضت ذلك لأنه يصل الرحم ، ويحمل الكلّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وقال له : والله لا يخزيك الله أبداً . إذن فقد جاءت بالمقدمات التي ترشح أن ربنا لا يمكن أن يخذله ، وكل المقدمات مفاخر ، كلها خلق عظيم ، وكلها التقاءات إنسانية قبل أن يأتي منهج السماء ، التقاءات إنسانية بالفطرة دون تقدير أو تدبير ، وكان هذا أول استنباط فقهي في الإسلام . ولذلك نعرف السر لماذا جعل الله لرسوله أم المؤمنين خديجة أول زوجة له ؟ لأنه ستمر به فترة لا يحتاج فيها إلى زوجة فقط . بل إلى أم ناضجة ، ذلك النضج الكامل الذي تستقبل به مسائل النبوة ، ولذلك حين يخرج إلى الغار تأتي له حكمة خديجة في الاستنباط قبل أن يوجد فقه الإسلام ؟ { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } ؟ ، وهم قد أصروا على ألا يعلموا على الرغم من أنهم وجدوا منه خصالاً وأشياءً حكموا بوجودها فيه وأنها صفات رسول . { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأنعام : 124 ] . هنا نجد فجوة انتقالية في الأداء ، فمن قبل يتحدث سبحانه عمن يظنون أنهم كبار ، فيأتي ليقول : إن الصَّغار سيصيبهم ، وليس معنى الصغار الذل والهوان لدى الناس ، لا ، بل صغار وذل وهوان عند نفس كل منهم ذاتياً ، فكل منهم سيشعر بالذل أمام نفسه ويستصغر نفسه . كأن الصغار سيصيب الإنسان في نفسه ، ويكون هذا الصغار من عند الله ، وما دام الصغار منسوباً إلى عندية الله فهو لا يزول أبداً لأنه لا توجد قوة ثانية تقول لله إن قدرك لن يتحقق . فالصغار والذل والهوان سينزل بهم وهم مع كونهم أكابر المجرمين فلن يستطيعوا دفعه عن أنفسهم ، وسيصيبهم مع ذلك عذاب شديد . لماذا العذاب الشديد ؟ لقد قلنا من قبل : إن العذاب يوصف مرة بأنه أليم ، ويوصف مرة أخرى بأنه مهين ، ويوصف هنا بأنه شديد . والعذاب المهين الذي تكون فيه ذلة النفس . والعذاب الأليم الذي يكون في البنية لأن الإِنسان له بنية وله معنويات قيمية ، فمن ناحية البنية يصيبه العذاب ، ومن ناحية المعاني النفسية تصيبه الإِهانة ، فهناك من يتعذب لكنك لا تملك أن تهينه ويتحمل المشقة برجولة ، ومهما تلقى من الإِهانة فلا تزال نفسه كريمة عليه ، مصدقاً لقول الشاعر : @ وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضعُ @@ لذلك ينزل قدر الله بالعذاب على نوعين : عذاب بنية وعذاب قيم ، وهذا هو الصغار ، والعذاب الشديد ، وهو الذي لا يقوى الإِنسان على تحمله ، ولم يُنزل الحق العذاب بهؤلاء جزافاً ، لكنه بسبب ما كانوا يمكرون ، فسبحانه هو القائل : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] . والحق سبحانه وتعالى حينما عرض هذه القضية عرضها ليبين لنا أنه لم يرغم بقدره خلقاً من خلقه على مسائل الاختيار في التكليف بل أوجد ذلك في إطار : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … } [ الكهف : 29 ] . ولكن الإرغام من الحق جاء للأمور القهرية القدرية الكونية الخارجة عن نطاق التكليف ، أما أمر التكليف فالله سبحانه وتعالى قال فيمن يرفضون الطاعة : { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } وسبحانه قد أوضح لنا : نحن لم نجعل ذلك قهراً منا لهم دون عمل عملوه باختيارهم بل إن العذاب والصغار كانا جزاءً لمكرهم . ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى لنا بقضية يقع فيها الجدل التبريري لبعض الناس الذين أسرفوا على أنفسهم ، ويريدون أن يجعلوا إسرافهم على أنفسهم في الذنوب خاضعاً لأن الله أراد منهم ذلك فيقول سبحانه : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ … } .