Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 14-14)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والهمزة هنا في " أغير " يسمونها همزة الإنكار كقول قائل : أتسب أباك ؟ إنها ليست استفهاماً بقدر ما هي توبيخ ولوم . وكذلك : { أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } . أي أن الحق يأمر رسوله أن يستنكر اتخاذ ولي غير الله . إن اتخاذ الله كولي هو أمر ضروري لأن الإنسان تطرأ عليه أحداث تؤكد له أنه ضعيف وله أغيار ، وساعة ضعف الإنسان لا بد أن يأوي إلى من هو أشد منه قوة ولا يتغير . إن الولي - وهو الله - قوته لا يمكن أن تصير ضعفاً ، وغناه لا يمكن أن ينقلب فقراً ، وعلمه لا يمكن أن يئول إلى جهل . إنه مُغيِّر ولا يتغير . ولذلك فمن نعمة الله على خلقه أنه جعل من نفسه وليّاً لهم ، فهو صاحب الأغيار . والحق سبحانه وتعالى يعلِّم خلقه أن يكونوا أهل حكمة يضعون الأمور في نصابها ويتوكلون عليه ، فهو الحي الذي لا يموت . ونلحظ أن الحق هنا يأمر رسوله بالبلاغ عنه . وتتجلى هنا دقة الأداء القرآني فيأتي البلاغ كما نزل من الحق حرفياً . مثال ذلك قول الحق سبحانه : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] . ويبلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالنص القرآني كما نزل عليه ، مبتدئاً بكلمة " قل " ويبلغه الرسول لنا بأمانة البلاغ عن ربه . وهو هنا يقول : { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } . وهو الإله الذي جاءت كمالاته في الآيات السابقة الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور وله ما سكن في الليل والنهار ، هذا الإله الحق هو الجدير بالعبادة . ويريد الحق لرسوله أن يستخرج من الناس الإجابة ، لا أن يقول هو : لا أتخذ ولياً غير الله ، وسبحانه يأمر رسوله أن يسألهم : { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } . وليكن السؤال مطروحاً منك يا رسول الله تبليغاً عن الله ، وتعطى لهم الحرية في الإجابة ، وسيكون الجواب كما تريد . وعندما يسمع الإنسان مثل هذا السؤال لا بد أن يسأل نفسه ويدير عقله كي يجد جواباً . ولن يجد الإنسان جواباً سوى أن يقول : ليس لي وَليٌّ غير الله فالولي هو القريب الذي ينصر الإنسان في ضعفه ، وإن استصرخه جاء لينقذه . ولا يستصرخ الإنسان أحداً إلا إذا انتابه حادث جلل ، فإذا ما جاء القوي ليغيث صاحبه الصرخة فهو يطمئن إلى أن من جاءه سيعينه ويخلصه . واتخاذ الولي أمر فطري في الكون ، والأمر المنكر أن يجعل الإنسان لنفسه ولياً غير الله . ونحن - المؤمنين - يتخذ بعضنا بعضاً أولياء في إطار الولاية لله مصداقاً لقوله الحق : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 71 ] . ويتبادل المؤمنون والمؤمنات المحبة والنصرة طبقاً للتعاقد الإيماني بينهم وبين الحق سبحانه وتعالى ، ويأمر بعضهم بعضاً بأوامر المنهج ، وينهى بعضهم بعضاً عن المحظورات التي حرمها الله ويتواصلون مع الحق بإقامة الصلاة . ويؤدون حق الله في مالهم بالزكاة ، ويطيعون الله ويمتثلون أوامر رسوله ، وهم بذلك ينالون وعد الله الحق بالرحمة ، وهو سبحانه القادر على رعايتهم ، وهو حكيم في صيانتهم ، عزيز لا يغلبه أحد . إذن فأنت تطلب الولي لحظة الضعف ، ولحظة الشدة ، ولا يوجد إنسان استوت له كل زوايا الحياة فيصير قوياً لا يضعف أبداً ، أو يصير غنياً لا يفتقر أبداً . ونعلم أن الإنسان من الأغيار ، فلم نر قوياً ثبتت له قوته ، ولا غنياً ثبت له ثراؤه فالإنسان ابن الأغيار ، وتأتي له حالات فوق قدرته لذلك فهو يسأل عمن يعينه ويساعده . والمؤمن يحب أيضاً أن يكون قوياً ليساعد غيره لأن الحق سبحانه وتعالى قد وزع المواهب على خلقه في الكون ليضمن بقاء الولاية واستمراريتها ، فأنت في احتياج إلى عمل إنسان آخر لأنك ضعيف في ناحية وغيرك قوي فيها ، الطبيب يحتاج إلى المهندس ، والمهندس يحتاج إلى الطبيب ، والطبيب والمهندس يحتاجان إلى الفلاح ، والفلاح يحتاج إلى عمل المهندس والطبيب ، والطبيب والمهندس والفلاح يحتاجون إلى عمل المحامي . هكذا وزع الله المواهب في الكون ، ولم يجعل من إنسان مجمعاً لكل المواهب . وذلك حتى يتساند المجتمع لا بالتفضل والتكرم بل بتساند الحاجة . فكل إنسان هو سيد في زاوية ما من زوايا الحياة ، وبقية الزوايا يسودها غيره من البشر ، ولذلك يقول الحق سبحانه : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف : 32 ] . هذا هو الإعلان من الله سبحانه وتعالى بأنه وزع المواهب بين البشر ليتساندوا ويُسخر بعضهم بعضاً في قضاء حوائج بعضهم بعضاً لتنتظم أمور الحياة . وفي هذا التقسيم رحمة من الحق بالخلق . فلو تساوى الناس في الذكاء ، وصاروا كلهم من العباقرة ، فمن هو الذي سيتولى أمور تنظيم الشوارع ؟ ومن الذي سيقوم بأعمال وصيانة المباني ورعاية وإطعام الحيوان والقيام على أمره ونحو ذلك من الأمور التي لا تنتظم الحياة إلا بها ؟ وكلنا يرى الرجل الذي ينزح آبار المجاري ويخرج في الصباح قائلاً : يا فتاح يا عليم ، يا رزاق يا كريم . ويطلب بئراً جديداً من المجاري لينزحه حتى يكسب قوت نفسه وعياله . وكل منا مضطر ومحتاج إلى غيره ، وهذا هو معنى : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] . إذن فاتخاذ الولي هو أمر فطري . والإيمان بالله يعطينا ذكاء اختيار الولي . فالإنسان المؤمن عليه أن يختار الولي الذي يجده عندما يحتاج إليه لذلك فعليه أن يختار ولاية الله ، ولا يختار ولاية الأغيار . فيسخر الله للمؤمن حتى عدوه ليخدمه . لذلك يبلغنا الحق على لسان رسوله : { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } والذين ينكرون علينا أن نتخذ الله ولياً ويريدون أن نتخذ غيره يرون في أنفسهم المثل . . فقد يخيب رجاؤهم ، فالإنسان منهم قد يتخذ إنساناً مثله ولياً ، وساعة يحتاج إليه يجده مريضاً ، أو غائباً أو تغير قلبه عليه ، لكن المؤمن يختار الله وليه لأنه الذي لا يغيب ولا يتغير ، ولا يضعف . ولا ينكر القرآن أن يتخذ الإنسان له ولياً من البشر ، ولكن الحق يدلنا على أنه الولي الحق ، وأن المؤمن عليه أن يتخذ إخوته المؤمنين أولياء له لأنها ولاية من الله وفي الله . وأنت أيها المسلم حين تختار الحق سبحانه وتعالى ولياً لك فهو الذي يُحْضر لك كل زوايا المواهب ويعدُّها ويهيئها لتكون في خدمتك لأنه سبحانه وتعالى : { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وقد خلق السماوات والأرض على غير مثال . وسبحانه قد أبدع هذا الكون دون نموذج مسبق . وحين أراد سيدنا عيسى عليه السلام أن يثبت لقومه معجزته جاء بالطين وجعله كهيئة الطير ، إذن فهناك مثال سبقه ووجده واتبعه . وعيسى إنسان من الخلق ، أما خالق كل الخلق فقد خلق السماوات والأرض على غير مثال . وأنت أيها الإنسان قد لا تلتفت إلى مسألة خلق السماوات والأرض لأنك تراهما كل لحظة بصورة رتيبة ، وقد تظن أنها مسألة سهلة ، ولكن الحق سبحانه يقول : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] . وهو سبحانه يقسم أن خلق السماوات والأرض مسألة أكبر وأدق من خلق الناس لكن أكثر الناس لا تعلم ذلك . فسبحانه وتعالى يقول : { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [ الذاريات : 47 ] . وفي قوله { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } إشارة إلى خلق هذا الكون المرئي وغير المرئي لأن هناك الكثير من الأجرام والمجموعات الشمسية ، وما وراء ذلك من اتساع ذلك الكون ما لا يدركه العقل ولا يمكنه تحديده ، وهذه السعة المذهلة هي من قدرة الله سبحانه وتعالى . { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } . ونجد الحق يستخدم كلمة " فاطر " مرة في شيء مُصْلح ، وأخرى في شيء مفسد . والمثال للشيء المصلح هو ما يقوله الحق هنا : { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي أنه خالق السمٰوات والأرض على غير مثال سابق وباقتدار محكم . ويقول الحق سبحانه في موضع آخر : { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] . أي أن الحق ينبه هنا إلى يوم الهول الأعظم الذي تنشق فيه السماء وتتساقط فيه الكواكب فلا يؤدي أي شيء منها مهمته لأن الله - سبحانه - سلبها ما كانت به صالحة . ويقول أيضاً : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] . فالحق لا يعجز عن شيء ، وهو الخالق لسبه سماوات بإتقان بعضها فوق بعض ، فلا يرى الناظر أي خلل في هذا الخلق ، وليُعد الإنسان النظر إلى السماء فلن يجد أي خلل من شقوق أو فروق . و " فطور " هنا معناها شقوق . إذن فالحق - بتمام قدرته - يعطي الشيء من الصفات ما يجعله صالحاً لأداء ما خُلِق له فلا يظنن ظان أنه خرج عن قدرة خالقه - سبحانه - وخلق السمٰوات والأرض بتمام إبداع وإحكام ، وهو القادر على أن يفطرهما ويجعلهما غير صالحتين في أي وقت شاء ، ومثلهما الشمس تُكَوَّر ، والنجوم تُطْمَس ، والجبال تنسف . وقال عالم من العلماء : ما فهمت كلمة " فاطر " إلا حين جاء أعرابي ، وقال فلان ينازعني في بئر أنا فطرته . أي أن الأعرابي هو الذي بدأ حفر البئر . إذن فاطر السمٰوات والأرض … أي الذي خلقهما على غير مثال . وسبحانه وتعالى القائل : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] . وهذا القول الحكيم لم يصل إلى فهمه العميق من سبقونا ، لكن إنسان هذا العصر الذي نعيشه فهمها بعد أن توصل العلماء إلى أن السمٰوات والأرض كانتا كتلة واحدة وفصلَهُما الحق بإرادته . وجعل من الماء حياة لكل كائن حي . إذن هو سبحانه قادر على كل شيء ، ولا يخرج شيء عن نطاق قدرته . وهو سبحانه قبل أن يمتن علينا بخلق الحياة فهو يحذرنا أن يأخذنا الغرور بهذه الحياة ، ولذلك قال : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [ الملك : 1 - 2 ] . وكأنه ينبه الإنسان إلى أن يستقبل الحياة ، ليعرف أنه سبحانه أوجد ناقض الحياة وهو الموت ، فإياك أن تأخذ الحياة على أنها تعطيك قوة الحركة والإدراك والإرادة برتابة وأبدية لأن هناك ناقض الحياة وهو الموت . وها هو ذا سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 58 - 61 ] . والإنسان لا يرى الحيوانات المنوية المقذوفة منه في رحم زوجه ، ولا أحد يقدر على ذلك ويرعاه حتى يصير جنيناً ثم بشراً ، ولكن الحق هو المقدر والخالق ، إنّه القادر الذي أعطانا الحياو وقدّر علينا الموت ولا غالب له ، إنه يبدل صورنا حين يريد ، ويخلق غيرنا وينشئنا في صور لا نعرفها ، وهو الواهب للحياة ، وهو الذي ينزعها بالموت . ويقول لنا : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 63 - 64 ] . هنا ينبهنا جل وعلا إلى أن الزرع الذي نأكله ، والثمار التي نجنيها من الأرض ليس لنا فيها إلا إلقاء البذور ، وهو سبحانه الذي أودع في البذرة عجائب مختزنة ، ففي البذرة ما يقيتها إلى أن يوجد لها جذير يمتص غذاءها من الأرض ، فَتَنمو لها ساق ، ثم تقوى الجذور ، وتشتد الساق . ولا عمل للإنسان إلا إلقاء البذرة وحرث الأرض . ومع ذلك احترم الحق عمل الإنسان فقال : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } [ الواقعة : 63 ] . وعن الماء يقول الحق : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [ الواقعة : 68 - 70 ] . هذا الماء العذب الذي نشربه إنما أنزله الله من السحاب الممطر ، وعملية الإمطار هذه غاية في التعقيد . والماء الساري في الأنهار إنما جاء من المطر الذي تم إنزاله من السماء . فقد أرسل الحق أشعة الشمس لتبخر الماء من البحار ، وتتجمع في سحب ثم يجري الله عليها أمره من مرور تيارات هواء باردة فتسقط مطراً . ونحن عندما نقطّر كوب ماء في معمل ، نأتي بموقد وإناء ووقود ، ونضع الماء المراد تقطيره فيتبخر ، ثم نكثف قطرات البخار بواسطة تيار من الهواء البارد . ومثل هذه العملية تكلفنا الكثير من العمل الذهني والمادي لبناء مثل هذا الجهاز حتى نقطر كوباً من الماء ، فما بالنا بالمطر الذي ينزل مدراراً وسيولاً . إننا نجد ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من ماء ، إنه - سبحانه - بسطه على رقعة واسعة ، حتى يسهل البخر . وإذا ما نثرنا كوب ماء على سطح متسع في أبرد مكان فلسوف يتبخر . وهذا الانتشار المسطح للمياه هو الذي يسهل عملية البخر . ويصعد البخار من مياه المحيطات والبحر إلى أعالي الجو ثم يتكثف في صورة قطرات صغيرة من الماء تتساقط كمطر يتفاوت من منطقة إلى أخرى . وسبحانه قد أعدّ لكل أمر عدته . وهو أيضاً القادر على أن يذهب صلاح هذا الماء . ويقول لنا الحق : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } [ الواقعة : 71 - 73 ] . ويذكرنا هنا سبحانه بأنه الذي خلق النار التي نشعلها ، وقد جاء بالمصدر الأول للوقود ، وهي الأخشاب التي كانت أشجاراً خضراء وبعد ذلك جفت وصارت أخشاباً نوقدها ونشعل فيها النار . وفي كل ذلك تتجلّى لنا قدرة الحق سبحانه وتعالى ، فنسبح باسمه العظيم : { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74 ] . وننزهه سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك في أمور الخلق والكون . إذن فعندما يقول الحق سبحانه مبلغاً رسوله : { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [ الأنعام : 14 ] . هذا السؤال يجبرنا على أن ندير أمر اختيار الولي في رءوسنا وأن نُعْمِلَ أفكارنا ، وأن نعرف أن اتخاذ الولي أمر وارد على النفس البشرية ، ولكن من الذي يستحق أن نتخذه ولياً ؟ ونجد في تربية الحق لنا ما يعيننا على استنباط الفكرة السليمة والرأي الرشيد حين يقول لنا : { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] . ونعلم أن الإنسان لو اتخذ ولياً من البشر فهذا عرضة للموت ، فتحس أيها الإنسان أنك وحيد في هذا الكون ، ولكنك عندما تتوكل على الله فهو حيّ لا يموت أبداً ، وهو سبحانه : { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وهو الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال ، وهو الذي يطعمنا من مطمور كنوز الأرض التي أرادها قوتاً لنا . ولماذا جاء الحق هنا بمسألة الطعام ؟ إن الطعام لون من الرزق ، والرزق - كما نعلم - رزق ينتفع به مباشرة ورزق يأتي لنا بما ننتفع به مباشرة . فلو إن إنساناً في صحراء ومعه جبل من الذهب الخالص ولم يجد كوب من ماء ولا رغيف خبز ، فجبل الذهب لا يساوي شيئاً . إن جبل الذهب رزق ولكن لا ينتفع به مباشرة . والرزق الذي ننتفع به مباشرة هو الطعام والشراب والكسوة . ونحن نحتاج إلى الطعام والشراب كل يوم ، ونحتاج إلى ملابس جديدة مرة كل ستة أشهر في المتوسط . إذن فالرزق المباشر هو المقوّم الأساسي للحياة . والولي الذي ينصر لا بد أن تتوافر فيه القدرة على الإطعام الذي يمدنا بالقدرة التي هي أساس الحياة إنها طاقة استمرار الإنسان على الأرض . فالأم تطعم طفلها وهي تَطْعَم أيضاً بما يأتيها زوجها من طعام . والحق سبحانه وتعالى وحده هو الذي يُطعم كل الخلق ولا يُطعمه أحد … وحينما نسلسل كل عطاء في الدنيا نجده يئول إلى الله تعالى . إذن فلا تجعل وليّك في الوسائط ، بل اجعله في الغايات لأن الوسائط كلها راجعة في الحقيقة إلى الله ، ويأتي الأمر من الحق لرسوله : { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } . وهذا الأمر يجيء من الآمر الأعلى وهو الله . فالرسول لم يقل : إن هذا الأمر منه لأنه بشر مثلنا ، وسبحانه أبلغ رسولنا أن يكون هو أول من أسلم ، وأن ينال شرف الالتزام بمبادئ الإسلام ، والمثال على ذلك أن كل قائد مسلم هو القدوة لغيره ، فها هو ذا طارق بن زياد الذي فتح الأندلس وهي مُلْك عريض ، ونزل من السفن وقال لجنوده : أنا لم آمركم أمراً عنه بنجوةٍ - أي أنا بعيد عنه - بل أنا معكم ، واعلموا أني عندما يلتقي الجمعان حامل بنفسي على طاغية القوم " لزريق " فقاتِلُهُ إن شاء الله . إنه لم يأمر بأمر لم يطبقه على نفسه ، بل طبقه على نفسه أولاً ، وآفة الأوامر أن كل إنسان يأمر أمراً ولا يطبقه على نفسه . ومن قبل ذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد حكم نفسه أولاً فحكم الدنيا ، لقد جمع أقاربه أولاً وقال لهم : إني سأشرع للمسلمين ، والذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء فيه لأجعلنه نكالاً للمسلمين . لقد أراد عمر - رضوان الله عليه - أن يَحْكم أقاربه أولاً ضارباً المثل لولي أي أمر ليحكم أقاربه أولاً ، وأن يحذرهم أن يستغلوا اسمه ، ليستقيم الأمر بين المسلمين لأن الآفة أننا نجد الكثير من الناس تتكلم في الإسلام ، ويريد كل إنسان من غيره أن يكونوا مسلمين بينما هو لا يطبق على نفسه مبادئ الإسلام . والحق سبحانه وتعالى أنزل لرسوله الأمر : { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } . ومعنى " أسلم " أي ألقى زمام حياته إلى من يثق في حكمته وعدله وهو الحق سبحانه وتعالى . وعندما كنا صغاراً كنا نلقي زمام أمورنا لمن يتولى تربيتنا ، ونرى الآباء والأمهات وهم يتعبون ويشقون ، نطيع أوامرهم إلى أن نصل إلى المراهقة فتنمو فينا الذاتية ، ونجد المراهق وهو يرفض مثلاً ارتداء البنطلون القصير ويرتدي البنطلون الطويل . ويختار ألوان ملابسه في ضوء الأزياء الحديثة السائدة . وبعد ذلك يبدأ الشاب في إدارة أموره بنفسه . وآفة حياتنا أننا نهمل تربية الأبناء وهم صغار ، ثم نأتي لنقول : هيا لنربي الشباب متناسين أن الشباب مرحلة تمتلئ بطاقة يمكن أن يستغلها المجتمع ، والتربية السليمة زمانها الطفولة . { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } . وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل عن رب العزة ، ويخبرنا أنه صلى الله عليه وسلم أول المسلمين ، وأنه تلقى الأمر بعدم الشرك بالله . فإياكم أيها المسلمون أن تتعاظموا على مثل هذا الأمر لأن المصطفى المختار هو أول من أمره الحق بذلك ، وإياك أيها المسلم أن تجد غضاضة في أن تتلقى أمراً من خالقك لأن الغضاضة قد تأتيك عندما يصدر إليك أمرٌ من مساوٍ لك ، لكن التوجيه الصادر من الحق لا بد أن يلزمك وترتضيه نَفْسُك ويطمئن به قلبك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهد نفسه عندما يقابل حادثة ليس فيها حكم الله ، ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم من عنده ، فإن كان الحكم صحيحاً فإن الحق ينزل من القرآن ما يؤكده ، وإن احتاج الحكم إلى تعديل ، فإن الحق سبحانه ينزل التعديل اللازم للحكم ، ويبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعديل الحق سبحانه وتعالى له ولا يجد غضاضة في ذلك ، بل يبلغنا ببشاشة وصدق وأمانة أنَّه البلاغ عن الله . والحق سبحانه وتعالى قد مَنَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم عندما لم يعدل في الحكم احتراماً لاجتهاده صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } [ التوبة : 43 ] . لقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض المنافقين بالتخلف عن القتال قبل أن يتبين أمرهم ليعلم الصادق منهم - في عذره - من الكاذب . وجاء العفو من الله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد ببشريته وأبلغنا الرسول بما أنزله الله . ونحن في حياتنا اليومية - ولله المثل الأعلى - نفتح كراسة الابن فنجد أن فيها شطباً بالقلم الأحمر ، فنسأل الابن : من الذي فعل ذلك ؟ فيقول الابن : صوب لي المدرس الأول هذا الموضوع . هو لم يتحدث عن تصويب المدرس ، ولكن عن تصويب من هو أعلى من المدرس . وهذا شرف للتلميذ . فما بالنا بالمصوِّب الأعلى سبحانه وتعالى . وها هو ذا الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى عن الله : { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ … } .